تأريخ النزعة الاستهلاكية.. د. سليمان إبراهيم العسكري
صارت الرغبة في الحصول على السلع التي تتجاوز حدود الضرورات البشرية، والتي يسميها البعض بالسلع الترفيهية، عنوانًا جامعًا لسكان كوكبنا، سواء في البلدان الفقيرة أو الغنية، وبنسب متفاوتة بين الدول، وبين الأفراد داخل كل دولة، وهي ظاهرة ترتبط بمؤشرات عالمية تتبلور في نزعة الاستهلاك التي يُقدِّر البعض عمرها بثلاثة قرون من التاريخ الإنساني الحديث، ومع ذلك لم تتوقف الدراسات التاريخية أمامها إلا متأخرًا، ومتأخرًا جدًا، مما يرسم منحى جديدًا لعلم التاريخ يساعد البشر على فهم جذور نوازعهم، ويستشرف آفاقها، ويجعل مواقفهم أكثر موضوعية، سواء من الظاهرة، أو مما يختفي وراءها.
لم تقتصر معارضات النزعة الاستهلاكية على المفكرين الأوربيين فالاقتصادي الأمريكي «ثورستين فيلبين» ابتكر مصطلح «الاستهلاك المنافي للذوق» لوصم هذه النزعة
النزعة الاستهلاكية أبعد جذورًا من عصر الثورة الصناعية في الغرب وهي مكون طبيعي في النفس البشرية التواقة لتوسيع رقعة رغباتها في الاقتناء والتمتع
كان شراء زهور الخزامى المستوردة من آسيا في القرن السابع عشر هواية استهلاكية أوربية أصيلة خاصة في هولندا التي صارت مزرعة عالمية للزهور فيما بعد
قبل أوربا الغربية والولايات المتحدة كانت هناك إشارات مبكرة قوية للاهتمامات الاستهلاكية سبقت العصر الحديث في مجتمعات مختلفة كثيرة منها بلاد العرب
عندما أطلق المفكر الأمريكي فوكوياما صيحة نهاية التاريخ تعقيبًا على انتهاء الحرب الباردة بين القطبين (السوفييتي والأمريكي)، جوبه بمعارضات عنيفة كانت صحيحة في مجملها، لكن صيحته هذه لم تكن استثناء، ولن تكون، في حقل الدراسات التاريخية، التي لم تر التاريخ إلا في وقائع صراع الأمم، وتنازع الحكام، بينما ظل تاريخ الأفراد العاديين والتجمعات البشرية، مما يتجنبه التاريخ، ويستأثر به الأدب. وفي إطار هذا الانتقاء للدراسات التاريخية، قديمها وحديثها، يبزغ احتمال الوصول إلى الاستنتاج الخاطئ الذي توصل إليه فوكوياما، إذ إن التاريخ في نظر أمثاله لا يتجاوز حدود الصراع السياسي بين كيانات دولية أو إرادات حاكمة، ومن ثم ينتهي التاريخ منطقيا ـ تبعًا لحدود الزاوية، التي ينظر منها ـ فور انتهاء هذا الصراع أو ذاك. لكن التاريخ لا ينتهي واقعًا مادامت الحياة مستمرة، وهذه الحقيقة تتجلى بوضوح لكل من يوسع إحساسه بالمجتمع البشري، فلا يراه مختزلاً في صراع سياسي هنا أو هناك، سواء كبر هذا الصراع أو صغر. ولقد كان هذا إحساسي كدارس للتاريخ طوال سنوات طويلة، لهذا كنت أشعر بالسعادة عندما أجد تراثنا الفكري العربي يتجاوز هذه المحدودية التاريخية، فيؤرخ للشعراء، وللشطار وللعيارين، ولأصحاب الحرف، بل يتجاوز تاريخ الأفراد ليدرس الظواهر المجتمعية، كما فعل ابن خلدون في مقدمته، والكواكبي في دراستة الفذة لظاهرة الاستبداد. ولقد كان تراثنا العربي بهذه الإسهامات الذكية سابقًا لعصره في علم التاريخ، لا بالتفاته إلى ما لم يلتفت إليه الآخرون فقط، بل بوعيه بوجوب أن يكون علم التاريخ موسوعيًا يوظف في مساره كل ما يتعين توظيفه من علوم تتعلق بسلوك النفوس والمجتمعات.
لهذا كله كانت سعادتي كبيرة باطلاعي على محاولة وظفها أحد أساتذة التاريخ العالميين، وهو بيتر ن. ستيرنز Peter N. Stearns، أستاذ التاريخ بجامعة جورج ميسون، لدراسة النزعة الاستهلاكية، في كتابه:
CONSUMERISM IN WORLD HISTORY ولقد أصدرت مطبوعات وزارة الثقافة السورية هذا الكتاب تحت عنوان «تاريخ النزعة الاستهلاكية في العالم» بترجمة جيدة للأستاذ عادل العامل. وأعتقد أنه كتاب مهم وجذاب، تنطلق أهميته من أنه يعالج ظاهرة كاسحة نعيش فيها، وتتأتي جاذبيته من جدة بحثه وطرافة اكتشافاته.
أبعد مما نتصور
لقد أصبحت النزعة الاستهلاكية مجالاً للاكتشاف التاريخي الجديد. فحتى عقد مضى من الزمن تقريبًا، كان الشائع في المعالجات الثقافية أن نشأة النزعة الاستهلاكية ـ وبالتالي مايسمى «المجتمع الاستهلاكي» ـ تعود إلى نتائج الثورة الصناعية ، وبالتالي فإن ابتداءها في البروز يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. وهذا الانطباع ـ المؤسس على خلفية غير دقيقة من التعقب التاريخي ـ يمكن أن يقود إلى أخطاء كبيرة في الاستنتاج، سواء عند الترحيب بالظاهرة أو حال مناهضتها، لأن الاستنتاج هنا سيكون مبنيًا على الموقف من الثورة الصناعية نفسها، سواء بالإدانة أو بالتوقير.
ولعل أبرز ما أتى به «بيتر ستيرنز» في كتابه عن عالمية النزعة الاستهلاكية، هو الكشف عن جذور هذه النزعة العالمية وإرجاعها إلى ماهو أبعد وأعمق من القرن التاسع عشر وتفجر الثورة الصناعية خلاله، فالنزعة الاستهلاكية الحديثة تسبق الثورة الصناعية، ولقد ظهرت تجلياتها مبكرًا في أماكن من العالم بعيدة عن الغرب، على الرغم من أن باكورة ازدهارها كانت في أوربا الغربية، مع تأثيرات مواكبة في الولايات المتحدة، التي ركبت الموجة مقلدة لأوربا الغربية في البداية، ثم متجاوزة لها وقائدة جامحة للنزعة الاستهلاكية في العالم من خلال سلوك الفرد في المجتمع الأمريكي، والانتشار العالمي للنشاطات المرتبطة بهذا السلوك، من مطاعم الوجبات السريعة إلى السينما وملحقات الكمبيوتر الترفيهية والتسوق عبر الشبكة .
قبل أوربا الغربية والولايات المتحدة كانت هناك إشارات قوية للاهتمامات الاستهلاكية سبقت العصر الحديث، في مجتمعات مختلفة كثيرة، مما اعتبره أصحاب هذه الاهتمامات نوعًا من النزوع الإنساني الطبيعي متى كانت الظروف الاقتصادية تسمح به. في مصر الفرعونية، التي لم يأت على ذكرها الكتاب، ربما لأنه يعمل في دائرة التاريخ الحديث، تشهد آثارها الماثلة بترف نخبتها من فراعنة وكهنة كانت عوالمهم تموج بالذهب والعطور والقصور والمعابد ومقتنيات المرمر والخشب المجلوب من وراء البحار، وهذا كله مما يمكننا ترجمته إلى معنى السلع الترفية أو الاستهلاكية في المفهوم الحديث. ويمكن أن نعثر على شذرات من هذه النزعة الاستهلاكية في الحضارات القريبة من الحضارة الفرعونية، وإن كان ستيرنز يذهب إلى القول بأنه لم تكن هناك إمكانات استهلاكوية واسعة بوجه خاص في الحضارات الزراعية قبل عام 800 قبل الميلاد، لأن الناس الأثرياء وجدوا في أثينا القديمة والصين الهانية (نسبة لأسرة هان الحاكمة في الصين). فقد تباهى بيركليس الأثيني بوفرة السلع، التي جلبتها التجارة حول منطقة البحر المتوسط، وكانت العطور والمجوهرات متيسرة، وخلال عصر الإمبراطورية الرومانية كان الناس يستمتعون بلبس الثياب الفضفاضة المصنوعة من الحرير المستورد من الصين. ولم يكن هذا الترف مما يمكن أن يدل بشكل صارخ على صعود الجذور الأولى للنزعة الاستهلاكية، فهذه الجذور تمددت واشتدت حالما استقر غبار انهيار الإمبراطوريات الكلاسيكية في روما، والصين الهانية، كما تطورت مستويات التجارة الإفريقية الأوربية الآسيوية بوجه خاص من خلال التجار المسلمين، وأصبح نبلاء أوربا وبعض رجال الأعمال الأثرياء فرصة أكبر لإظهار عادات أوحت بالنزعة الاستهلاكية بشكل أكثر تبلورًا . وكان كثير من النبلاء يستهلكون المنتجات الترفية القادمة من اليونان وشرق البحر الأبيض المتوسط، ويظهرون ولعًا بالحرير المستورد من الصين، ودخل المحاربون العرب ـ على حد تعبير ـ ستيرنز ـ في تحول مماثل نحو المنافع الاستهلاكية الأكثر وفرة في القرن العاشر، كما فعل النبلاء الإقطاعيون الأوربيون في القرن الثالث عشر . وكان القاسم المشترك هو الاهتمام المتنامي باللباس الفاخر، والولع بالواردات المستجدة، مثل الحلويات الشرقية التي عرفها النبلاء الإقطاعيون الأوربيون خلال الحروب الصليبية .
كان ذلك على مستوى الأثرياء من الشرق والغرب، أما الفقراء، فلم تنعدم لديهم هذه النزعة الاستهلاكية، وإن في نطاقات محدودة ومتواضعة، لكن ينطبق عليها منطق السلع الاستهلاكية، أي التي يمكن الاستغناء عنها، ويذكر المؤلف نموذجا لذلك النزوع الاستهلاكي لدى الريفيين، الذي كان يشبعه في نطاق قدراتهم المحدودة باعة متجولون عرضيون، كما أن بعض الريفيين كانوا يسافرون بعيدًا عن قراهم إلى البلدات ليشبعوا نزعتهم الاستهلاكية المتواضعة بمقايضة ما يمتلكونه من مواد غذائية ببعض الألبسة والأدوات التي لم تكن لازمة تمامًا لبيئاتهم البسيطة. وفي أوربا كانت المهرجانات القروية مناسبات جماعية تظهر فيها الأزياء الملونة . ولم يبتعد الأفارقة عن مثل تلك الاحتفالات الراقصة باذخة الألوان. أما الصين فقد كانت أكثر بذخًا في ألوانها واحتفالاتها.
كل ذلك كان نواة بعيدة للنزعة الاستهلاكية لدى الإنسان المعاصر، لكن هذه النزعة بتجلياتها الحديثة الأكثر اندفاعًا تبلورت في المجتمعات الغربية مكونة أصول المجتمع الاستهلاكي الحديث في أوربا الغربية، الذي انتشر سريعًا وتطور أكثر في الولايات المتحدة. وفي هذا السياق فإن نهاية القرن السابع عشر هي التي حملت راية الظهور الأكمل للنزعة الاستهلاكية وليس القرن الثامن عشر. بل إن هناك مؤشرات على تجلي هذه النزعة أبعد من ذلك، ففي وقت مبكر كالقرن السادس عشر ازداد الإنفاق على الأثاث المنزلي لدى الناس الذين يعيشون فوق خط الفقر، ووفر صنع الخزائن المزخرفة عملاً مربحًا لحشود من الحرفيين المغمورين، وكان شراء زهور الخزامى المستوردة من آسيا في القرن السادس عشر هواية أصيلة في ثلاثينيات القرن السابع عشر خاصة في هولندا التي صارت مزرعة عالمية للزهور في ما بعد.
من ذلك كله يمكننا الوثوق بأن النزعة الاستهلاكية هي أبعد جذورًا من عصر الثورة الصناعية في الغرب، وأنها مكون طبيعي في النفسية البشرية التواقة لتوسيع رقعة رغباتها في الاقتناء والتمتع، وهو ما أدت إليه عوامل حفزت هذه الرغبة في الأزمنة الأحدث، ووصلت بهذه النزعة إلى ماصارت عليه الآن.
محفزات وملامح
لقد تطورت النزعة الاستهلاكية الحديثة بفعل عدد من العوامل الفاعلة بشكل متزامن مع النزوع الطبيعي للبشر، ففي العصر الحديث - وهنا يمكن أن نتكلم عن تأثير الثورة الصناعية - تكاثرت المنتجات الجديدة وزادت الأموال بين أيدي المنتجين، وخلق هذا حاجات جديدة مؤطرة بثقافة متغيرة نتيجة التأثير المتنامي للحياة في المدن، فالناس المدينيون كانوا منهمكين في نزعة الاستهلاك على نحو أكثر شمولاً من الريفيين، وقد تغيرت المناطق الريفية المتصلة بالمدن بشكل أسرع، وتحول الشباب نحو هذه النزعة بصورة أسرع من أقاربهم الأكبر سنًا، مقيمين علاقة خاصة بين تحسنات النزعة والثقافة الشبابية، التي امتدت في القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه. ويمكن القول إن الثورة الصناعية المبكرة التي تطورت بين ثمانينيات القرن الثامن عشر وأربعينيات القرن التاسع عشر أولاً في بريطانيا ثم في أقسام أخرى من أوربا الغربية، قد وفرت مثالاً لافتًا للنظر . فقد وضعت في المصانع العمال الجدد الذين كان من الممكن أن يكونوا مستهلكين شعبيين بلا منازع . هكذا صارت أوربا بأرستقراطياتها وطبقاتها الشعبية منخرطة في تجليات هذه النزعة، خاصة في زمن المستعمرات، التي فاضت على أوربا بالكثير الذي جعل منها أقوى منطقة في العالم ، وراح الأوربيون يوسعون من حضورهم التجاري الكولونيالي في كل مكان تقريبًا، ومع هذا الانتشار صار هناك إحساس على نطاق عالمي واسع يغري بتقليد النزعة الاستهلاكية الأوربية، ومع التطورات الثقافية وتطور طرق التسويق الجديدة، وتبدلات الوضع الاجتماعي، التي يبديها اكتساب سلع جديدة، تحولت النزعة الاستهلاكية إلى عدوى عابرة للقارة الأوربية، تلقفتها أولا الولايات المتحدة مقلدًا في البداية، ثم لاعبًا أساسيًا، بل لاعبًا وحيدًا أحيانًا، حتى توشك هذه النزعة أن تكون صناعة أمريكية الآن، وإن بمساهمات إضافية من هنا وهناك . لكن يظل النموذج الغربي وامتداده الأمريكي في نزعة الاستهلاك هو المهيمن بامتداداته العالمية في أرجاء كوكبنا، فالأوربيون والأمريكيون رأوا في هذه النزعة سلوكًا طبيعيًا، ومن ثم حملوها معهم حيثما ذهبوا، ونقلوها بداهة لمن أتى إليهم، حتى ليقال إن المبشرين الغربيين جلبوا معهم شيئا من هذه النزعة . ومع توسعها وامتداداتها العالمية لم تعد هذه النزعة وقفًا على منتجات للاستخدام الشخصي والمباشر، بل توسعت لتشمل وسائل الترفيه، فأول ناد لكرة القدم في الأرجنتين ـ مثالاً لرياضة التفرج ـ تشكل بواسطة مستوطنين بريطانيين عام 1867، وراحت الأفلام الأمريكية والأوربية تُعرض في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية عام 1900، وافتتحت شركات هوليود فروعًا لها فكان لاستوديوهات يونيفرسال عشرون منفذا عام 1918 في أماكن مثل إندونيسيا، واليابان، والهند، وسنغافورة . وأخذت الأفلام الأمريكية تتحكم في 95% من السوق الأسترالية. وبدا أن هذه النزعة بألوانها الغربية توشك أن تجتاح العالم، فكان طبيعيًا أن تكون هناك ردود أفعال رافضة من معارضين لم يتأخروا كثيرًا عن مواكبة هذا الانتشار الاستهلاكي في باكورة تجلياته الحديثة، وهي معارضة تلقي بالضوء الكثير على مايحدث في عالمنا الآن، بل تكاد تكون مجرد «بروفة» للجدل الذي يثيره استشراء النزعة الاستهلاكية في زمننا.
عاصفة من المعارضات
مع توسع النزعة الاستهلاكية في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، انفجرت موجة من الانتقادات لهذه النزعة، ليست مقتصرة على البعد الديني الداعي إلى الزهد في الإغراءات الدنيوية، كما كانت موجة الاعتراضات المبكرة في القرن السابع عشر وما حوله، بل تتجاوزها إلى وجوه دنيوية، ثقافية واجتماعية وسياسية من النقد، ووجدنا وجوهًا جديدة تنضم إلى موجة الانتقادات الجديدة، فالروائي الفرنسي إميل زولا كتب عن «المخازن الكبرى» وإغراءاتها للنساء «العابثات الطائشات»، ولم يستطع زولا أن يقرر من هو المذنب أكثر، أصحاب المتاجر وإطلاقهم لإغراءات التسوق أم النساء «لفراغ عقولهن». وثمة من وجه لطمات للنزعة الاستهلاكية على اعتبار أنها صناعة يهودية يديرها «الملاك اليهود» للمتاجر الكبرى بهدف «إثارة شهية مسيحيين معتدلين لإبعادهم عن ملكوت السماء». أما النازيون في عشرينيات القرن العشرين، فقد كان اعتراضهم نابعًا من أنهم أرادوا احتكار الناس لتبجيل الدولة والعنصر الآري والقائد، فلا تلهيهم الأهداف الاستهلاكية الفردية. وكان الاشتراكيون في الوقت ذاته يهاجمون هذه النزعة على اعتبار أنها مظهر من مظاهر المظالم الرأسمالية لاينبغي أن تنخدع به الطبقة العاملة. ولم تستثن المعارضة للنزعة الاستهلاكية مفكرين خارج الأطر السالفة، هاجموا «الذوق الجماهيري المغشوش» وأبدوا قلقهم حيال تدمير التسلسل الهرمي الاجتماعي التقليدي في بلدانهم. وكان إنشاء «المخازن الكبرى» العملاقة في المدن الألمانية في تسعينيات القرن التاسع عشر باعثًا على انتقاد كاسح، فقد تركز الانتباه على «الهبوط الأخلاقي للطبقة الوسطى حين انهمكت في النزعة الاستهلاكية»، وكتب الأديب الألماني الشهير «توماس مان» رواية تتعقب انحطاط سلالة حاكمة من الطبقة الوسطى بفعل «فقدانها ضبط النفس حيال مغريات الإغواء الاستهلاكي».
ولم تقتصر معارضات النزعة الاستهلاكية على المفكرين الأوربيين، ففي الولايات المتحدة أيضا كان هناك ناقدون، وكتب الاقتصادي الأمريكي «ثورستين فيلبين» دراسة قُرئت على نطاق واسع عن الترف الذي لا ضرورة له لأقطاب الأعمال من الطبقة العليا، مبتكرًا في ذلك مصطلح «الاستهلاك المنافي للذوق» لإلقاء الضوء على الإنفاق الذي لايخدم إلا المظهر، والذي «لا يلبي الحاجات الحقيقية ولا المعايير الجمالية الأصيلة».
وعلى الرغم من صوت المعارضة الأمريكي للنزعة الاستهلاكية، إلا أن تيارًا جديدًا من المعارضة أدخل عنصرًا جديدًا في هجومه على هذه النزعة باعتبارها نوعًا من «الأمركة» يستشري مع ازدياد التأثير المتعاظم للولايات المتحدة على أوربا، وذلك لأن المتاجر والمعايير الأمريكية كانت تجتاح أرضا جديدة عبر المحيط وتغدو بسرعة رمزا للنزعة الاستهلاكية بصورة أشمل.
بين الأمس واليوم
لقد كتب المؤرخ الألماني «جون هوزينجا» عن أمريكا: «إن أدوات حضارتك وتقدمك تجعلنا مصنفين فقط بين القديم والطريف، بينما حياتك لاتبدو جديرة بأن تُعاش». وقال أوزوالد شبنجلر: «إن الحياة في أمريكا على وجه الحصر اقتصادية في تركيبها وتفتقر إلى العمق». واعتبر الكاتب الفرنسي «جورج دوهامل» أن «المادية الأمريكية منارة الكفاف التي تهدد الحضارة الفرنسية بالكسوف فارضة حاجات وميولاً بلا قيمة للبشرية» . وقد حظر البرلمان الفرنسي عام 1936 «الأسواق ذات الطابع الأمريكي» لمدة سنة، على اعتبار أنها «تستغفل» زبائنها وتشكل اقتحامًا أجنبيًا لفضائل الأسلوب الفرنسي.
لقد كانت هذه الصيحات، التي انطلقت منذ قرابة نصف قرن، تعبيرًا عن فزع أوربي ونفور من النزعة الاستهلاكية ذات الصبغة الأمريكية، وهي صيحات يتردد مثلها الآن على اتساع مساحة الكرة الأرضية، وضمنها عالمنا العربي. وعلى الرغم من ذلك فإن الأسلوب الأمريكي في الاستهلاك ينتشر انتشار النار في الهشيم، وكأن هذه المعارضات تزكيه ولا تطفئه. فمطاعم الوجبات السريعة تجتاح عالمنا ومدننا العربية، والأفلام الأمريكية تغزو شاشاتنا وبيوتنا. ولعل الفائدة الأهم لتعقُّب النزعة الاستهلاكية تاريخيًا هي إظهار حقيقة أنها أبعد كثيرًا من استشراء الظاهرة الأمريكية، ولقد وضعنا نحن ـ العرب ـ بذرة من بذورها في وقت مبكر من زمن بزوغها، حين كان لدينا ما نقدمه لهذه النزعة ونغري به الآخرين. وفي ضوء ذلك التأريخ لم تعد الإدانة المطلقة لهذه النزعة هي المعالجة الصحيحة لانتشارها، بل الموقف الموضوعي هو الأوجب، والذي يلتمس للنوازع البشرية الأعذار دون أن يبرر لها الشطط، وفي الوقت ذاته يرفع رايات الاعتراض على هذه النزعة إذا كانت تهدد خصوصية ثقافية أو اجتماعية ترتبط بحقيقة الذات العربية وأصالة هويتها، وننتبه في غمار هذه الموجة الكاسحة إلى أن شططنا في الاستهلاك يشير إلى تقاعسنا في الإنتاج. فهل نكف عن التقاعس والشطط؟.
سليمان إبراهيم العسكري