الشعر العمودي .. الدلالة والتاريخ
(1)
إن سألتك: هل تعرف الشعر العمودي؟ قد تجيب قائلا: نعم. فأسألك: ما الشعر العمودي؟ فتقول: هو شعر الوزن والقافية. فأسألك: أأنت على يقين؟ قد تنفي وقد تثبت وقد تتذبذب. فأسألك: هل تعرف متى أطلق هذا المصطلح؟ فتقول: لا. فأسألك إن كنتَ متخصصا في الأدب العربي: هل حاولت تحرير المصطلح؟ قد تثبت وقد تنفي، فأقول لك: أنا لم أحاول ذلك قبلا، لكنني فوجئت بالرغبة في ذلك في أثناء قراءتي كتاب "الأدب الإسلامي .. إنسانيته وعالميته" للدكتور عدنان النحوي في طبعته الثالثة الكائنة في 1415هـ الموافق 1994، والصادرة عن دار النحوي للنشر والتوزيع، في بابه الثالث المعنون بـ"قواعد وأسس" في فصله الأول المعنون بـ"بين النثر والشعر" في الصفحات التي تبدأ من 231 وما بعدها.
ماذا في هذه الصفحات؟
تبدأ الصفحات من بند "سابعا" المعنون بـ"عمود الشعر".
عمود الشعر؟
نعم، ذلك المصطلح الذي درسناه في الأدب العربي زمن الجامعة لكنني لم أربط بينه وبين "الشعر العمودي" من قبل قراءتي هذه، وجعلني الكتاب أربط بينهما.
ما عمود الشعر؟
إنها الخصائص التي تميز الشعر عما عداه من المنظوم والمنثور معا ببيانها القواعد التي تحدده تحديدا دقيقا.
ما هذه الخصائص؟
اختار الدكتور عدنان ص231 تعريف المرزوقي الذي يحدد عمود الشعر في سبع خصائص على النحو الآتي "... إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ والمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما ...".
ثم وضح الدكتور عدنان ص232 لبسا مفاده قصر الشعر على القافية والوزن من دون بقية الخصائص السابقة قائلا: (لا بد من إزالة لبس يغلب على أذهان الكثيرين من أن الشعر العمودي يقصد به الكلام الموزون المقفى فقط، ولقد رأينا في التعريف السابق كيف أن الاصطلاح يحمل معه سبع قواعد للشعر العمودي وليس اثنين، ولكن الوزن والقافية أمران يردان لا كشرطين وإنما الذي يرد هو "تخير من لذيذ الوزن " وكذلك "شدة اقتضائهما للقافية"؛ فالوزن والقافية أمران ثابتان أصلا وهما معيار التفرقة بين الشعر والنثر؛ فلا يذكران كشرطين من جملة الشروط السبعة، إنما يذكران في صدد صفة لهما ومطلب من مطالبهما "وعدم منافرة القافية للمعنى واللفظ").
وبعد هذا البيان الجلي الواضح الفارق ذكر تاريخ مصطلح "الشعر العمودي" الذي أراه أنا تحويلا للتركيب الإضافي العربي التراثي "عمود الشعر" إلى تركيب وصفي "الشعر العمودي".
قال الدكتور عدنان في الصفحة ذاتها: "فالشعر العمودي اصطلاح درج استعماله كثيرا في أيامنا هذه لتمييزه عن الشعر الحر أو الشعر المنثور، وللدلال على الكلام الموزون المقفى".
ثم بين أن هذا الاصطلاح غير مطابق لما عناه المصطلح المتحول عنه "عمود الشعر" قائلا: "وهذا استعمال ضيق معنى واسعا واصطلاحا أعم؛ فالكلام الموزون المقفى عند أدبائنا الذين وضعوا خصائص الشعر العمودي هو الشعر والعمودي تعني التزام الشعر هذا بالخصائص السبع المذكورة التي تتعرض للمعنى واللفظ والأسلوب في وصف وتشبيه واستعارة وعلاقة اللفظ بالمعنى، وهي كلها ضرورية لبلوغ صياغة فنية سليمة وبلوغ معنى شريف. وهذه الخصائص كلها هي التي تحدد الشعر العمودي حسبما عرفه أدباؤنا، أما الوزن والقافية فلم يكونا موضع بحث".
(2)
وبعد هذه الرحلة مع الكتاب قد تسأل: لماذا تحول التعبير من تركيب إضافي "عمود الشعر" إلى تركيب وصفي "الشعر العمودي". والجواب يقتضي تطوافا مجملا على تاريخ الشعر.
لماذا؟
حتى يتضح الجواب.
كيف؟
قديما كان الشعر هو الشعر، وما يخرج عنه يسمى اسما واضحا متميزا لا يقتضي المساس بالأصل.
كيف؟
نشأت الفنون السبعة المستحدثة فسميت بـأسماء تميزها مثل الموشح والكان كان والدوبيت والزجل والمواليا وغيرها، فلم يكن هناك سبب داع إلى تغيير التركيب "عمود الشعر".
ماذا حدث بعد ذلك؟
حدث أن اتصل الأدباء المعاصرون بالأدب الغربي إنجليزيه وفرنسيه وغيرهما فحاكوها، ولم يسموا نمطهم هذا اسما مستقلا كما حدث قديما لضعفهم فأطلقوا عليه التركيب الوصفي الذي يبدأ بكلمة "الشعر" ثم تأتي الصفات المختلفة ما بين "المرسل، والحر، والمنثور". فكان لا بد من تمييز الشعر العربي فقلب المصطلح وصار "الشعر العمودي".