كواليس صناعة القرار في أمريكا
حازم خيري
الولايات المتحدة ليست دولة بالمعنى الترانسفالي البسيط، على الأقل في القرن ال21، هي عاصمة قوى السوق الكونية. صناعة القرار الأمريكي عملية شديدة التعقيد والثراء، تغطي الاستراتيجيات الحاكمة للعالم وقواعد اللعبة على كافة المستويات ككل الامبراطوريات المترامية، ناهيك عن امبراطورية في عصر الرقمية.
تنفيذ سياسة خارجية لها هذا القدر من التعقيد والثراء ليس ميسورا بكليته للحكومة الأمريكية الظاهرة للعيان والتى يقودها رسميا الرئيس الأمريكي والفريق الرئاسي المعاون له، كونها مقيدة بقوانين واعراف كونية. من هنا توجد حكومة أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية "خفية" – كما يسميها ديفيد وايز وتوماس روس في كتاب قيم لهما يحمل الإسم نفسه -. الحكومة الخفية وهي مخابراتية راقية دورها لا يقل أهمية وثقلا عن نظيرتها "العلنية"، في تنفيذ الاستراتيجيات والسياسات الأمريكية، ومساعدة نظيرتها العلنية في خدمة أمريكا، خاصة الأعمال "ضبابية" المشروعية.
في عملية التحول الديمقراطي في جمهورية جنوب إفريقيا، على خلفية انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية وانتهاء الحرب الباردة، لم تغب الولايات المتحدة بحكومتيها العلنية والخفية عن المشهد. نجد ذلك مذكورا بشفاقية في مذكرات ووثائق عملية التحول نفسها، بما فيها مخطوطات الراحل نيلسون مانديلا. لم يتهم أحدا مانديلا ونظيره الأبيض ديكليرك بالخيانة، لم يشعر الزعيمان بالحاجة إلى التخفى!
أما في بلادنا – بلاد العرب – معقل الفهلوة والانحطاط الأخلاقي والتمرد على السنن الكونية، نجد خلطا مخيفا للأوراق يجد تجاوبا غربيا غير نزيه. كل سياسي عربي – أو نظام – يرغب في المُزايدة على خصومه وتدعيم موقفه، ويرغب الغربيون بدورهم في تمكينه ورفع شعبيته وتشجيعه على تضليل مواطنيه وعلى التعاون في الخفاء، ليس عليه سوى التلاسن مع أمريكا وسياسييها ويصرخ بحق بلاده في الاستقلال والانعتاق من السيطرة الغربية وأنه لا يخشى في الله لومة لائم.
وسرعان ما يأتيه المدد الغربي في شكل هجوم حاد عليه وعلى تعصبه وكراهيته للغرب واصراره على إستقلال أوطانه. تنجح اللعبة دائما، وينخدع البسطاء! نموذج ناصر في تأسيسه لدولة العسكر خير تجسيد لهذه اللعبة، بشهادة صُناعها.
سؤالي: أمر كهذا مقبول، لكن غير المقبول أن تختفي تماما التحليلات الجادة كما في بقية الدول المحترمة، غير المقبول أيضا أن يُتهم الصُرحاء بتشويه الأبطال والزعماء التاريخيين. لأنه ليس في الأمر تشويها، إلا لو كان ما يجري في الخفاء يُخشى الحديث عنه في العلن لعدم جوازه. شفافية علاقة زعمائنا بالغرب فيه حماية لهم من ابتزاز الغربيين، وكذا حماية لهم من التورط في أمور قد تضر بمواطنيهم.
وإذا كان مثل هذا الكلام ينطبق على القرن ال20، فهو يصح وبدرجة أقوى في عصر الرقمية. لا نريد هيمنة المُضللين وتفسيراتهم الغائمة، يُفرز ذلك، على الأقل في المستقبل البعيد، دولة فاشلة ومجتمعا فاسدا، وليس ما نعيشه اليوم ببعيد.