مرسي مطروح
مقالات ملفقة (14\3)
بقلم \ محمد فتحي المقداد
مدينة مرسي مطروح في جمهورية مصر هي عاصمة المحافظة، وميناء بحريّ متوسطيّ، ومصيفٌ يقصده السيّاح؛ لشهرة شواطئها البيضاء برمالها الناعمة، وبُنيَت المدينة على خليج محميّ بامتدار صخريّ شكّل حاجزًا طبيعيًّا من هيجان البحر و أمواجه العاتية، وهناك ممرّ صغير عبارة عن فُرجه في هذا الحاجز تسلكه المراكب الصغيرة و الخفيفة.
تقع المدينة إلى الغرب من مدينة الإسكندرية بحوالي 298 كم، وإلى الشرق من الحدود الليبيّة بحوالي 217 كم، على الطريق الساحلي الدولي. تاريخيًّا في عهد المصريين القدماء كانت مدينة صيد صغيرة، وتعاقبت عليها الحضارات من عهد الإسكندر الأكبر، وعرفت باسم (أمونيا)، و البطالمة أسموها(بارايتونيون)، و استخدمها الرّومان كميناء تجاريّ هام لتصدير المحاصيل و السلع إلى روما، ولم يعرف سبب تسميتها بهذا الاسم على وجه الدقّة و اليقين.
و الشيءُ بالشيء يُذكر، و بالعودة للمقارنة يبدو لي أن التسمية عربيّة؛ جاءت دلالتها على أن الموقع من الممكن أن يكون مرسًى للسفن، حيث يُقال: (طرحت السفينة مَرساتها) بمعنى رَسَت، أو دلالة على طرح البضائع، فمن طَرَحَ شيئًا يكون قد رماه، وألقاه، وقذفه، وكلّ ما تولّد من هذه الصيغة؛ اتّخذ معناه الحقيقي و الاصطلاحي من هذا، وتوأمة تسمية مرسي مطروح المصرية مع مطرح العمانيّة لم يأت عبثًا أبدًا، وفي القرآن الكريم: (اقتُلوا يوسُف أو اطرَحُوهُ أرضًا) \سورة يوسف9\ أي ألقوه أرضًا واتركوه مُهمَلًا لإبعاده من طريقهم.
من هذا المنحى ذهب أهل عُمان بتسمية مدينة مَطرَح التي يعود تارخها للألف الثالثة (ق.م)، تقع مطرح في الجزء الشماليّ الشرقيّ من سلطنة عُمان حيث تطلّ على شاطئ بحر عُمان المرتبط تاريخيًّا وجغرافيًّا بالهند والصين وبلاد فارس وشرقي أفريقيا وكذلك البحرين؛ وهو ما جعلها منطقة تجاريّة هامّة عبر التّاريخ. فيها أهم الموانيء البلاد (ميناء السلطان قابوس)، بقدرته على استيعاب البضائع المستوردة و المصدّرة، كما أنه مكتّظ بالمراكب الصغيرة التي تقلّ الأفواج السياحية؛ للاستمتاع بما تكتنزه هذه المدينة من قلاعٍ وأبراج عتيقة وأزقة ضيقة وسوقٍ به عبق التاريخ، ويعد سوق مَطرَح من أقدم أسواق السلطنة إذ يعود عمره لأكثر من مائتي عام تقريبًا، تُباع فيه مختلف أنواع السلع والأعشاب والتوابل والفضيّات والتذكارات الشعبيّة التراثيّة.
و مُطارَحَة الكلام تبادله مع الآخرين، والمُطارحةُ هي إلقاء القوم المسائل بعضهم على بعض، ومنها طرح الأسئلة و الاستجوابات و الحلول و الاقتراحات من اللجان التخصصيّة، ومن طَرَحَ عليه شيئًا ألقاه وبسّطه، ومن طُرح عليه الرّداء يكون قد ألقاه عليه؛ أي غطّاه به لحفظه من البرد، ومن ألقى شيئًا من يده فقد ألقاه ورماه، ومثله من طرح عنه الهمّ فهو ألقاه و أبعد عنه.
و لايفوتني التعريج على ذكر عمّنا الشاعر أحمد فؤاد نجم، بقصيدته ذائعة الصّيت: ( مصر يُمّة أنت يا بهيّة\\ يامّ طَرحة وجلّابيّة\\ الزّمن شاب وأنتي شابّة\\ هو رايح وأنتي جايه)، وهي من أشهر ما غنّى الشيخ إمام مترافقًا مع نغمات عوده الحنونة، وطَرحةً العروس هي طيلسانٌ عبارة عن كساء تُلقيه على كتفيْها ورأسها، وتتشابه مع هذا اللّباس الأخضر لمشايخ والعلماء وهو طَرحَة المشايخ.
وتفرّعت استخدامات مصطلح الطّرح لتشمل أعمال الحكومات عند تشكيلها في الدول الديمقراطيّة، حين طرح الثقة على الحكومة بطلب التّصويت عليها لنيل ثقة البرلمان؛ لتكستب شرعيّتها من أصوات الأكثرية البرلمانيّة، مما يُكسبها المصداقية و الشفافيّة، وقد تطرح هذه الحكومات مشاريعها الإنشائية والتنمويّة في مناقصات لاستدراج عروض الراغبين في تنفيذها، و الحصول منهم على أفضل الامتيازات في المواصفات المطلوبة، وإذا تعرّضت أيًّا من هذه الحكومات إلى هزّه اقتصاديّة، أو ضائقة مالية للوفاء بالتزامتها تلجأ لطرح سندات الحزينة بإتاحتها للمستثمرين في أسواق الأوراق الماليّة (البورصات)؛ للحصول على السيولة الماليّة اللازمة، وفي هذه الحالة تكون الميزانيّة مدينة.
وبعيدًا عن عالم المال و الأعمال الحكوميّة، فإنّ ذاكرة المكان تتجلّى بهيّة في رواية (مَطارِح) للروائيّة السوريّة سحر ملص، فتأخذ القارئ إلى عوالم دقائق الحياة الشعبية، وما يتخللها من عادات و تقاليد أدمن النّاس البسطاء الاعتقاد بصحّتها.
يُروى أن أحد العُشّاق طارح حبيبته الغرام، فطلب إليها أن تتمنّى عليه، فلم تطلب منه: إلّا الفُجُل. فوجئ ..!! لانخفاض سقف مطالبها، ظنًّا منه أنّها ستطلب من الحِلي و المجوهرات أو لذيذ الطّعام، والمرأة الحامل إذا طرَحَت جنينها تكون قد أسقطته من بطنها، ويُسمّى الطِّرْح.
وطرحُ النهر ما يتشّكل على ضفّتيْه نتيجة توالي الغِرين أو الطّمي، مما تحمله المياه معها من أماكن منابعها وما يأتي في طريقها، أمّا الطّرح الثلجي ما يتخلّف من صخور و أتربة و أوساخ بعد ذوبان الثلج، وهو ما نعبّر عنه بأمثالنا الشعبيّة: (غدا يذوب الثّلج ويبان المرج) وبعضهم يرويه بطريقة أخرى: (غدًا يذوب الثلج ويبان الوسخ).
ومن نزل ضيفًا على صديق له و أراد المعزّب إكرامه بإجلاسه في صدر المجلس، و الضّيف يتعذّر بقوله: (كلّ المطارح خير وبركة)، و المكان هو المطرَح، وعندما يجيء موعد الغداء ومن شدّة الترحيب يُقال على سبيل الدعاء: (مِطرَح ما يسري يِمْرِي) أي هنيئا مريئًا، ومن حلّ بمكان شخص ما، يعبّرون عنه: (جَمَل مطرح جمل)، لكن الطّرحة عند الفلّاحين في بيادرهم، حينما يجعلون أكوام القشّ في وسط ساحة البيدر ويقومون بتنعيمها لفصل الحبوب وتصفيتها من القشور و السيقان.
ولن أغادر مطرحي هذا قبل أن أُعرّج على أوّل ما تعلّمتُه في الصفوف الإبتدائية الأولى في طفولتي من العمليّات الحسابية البسيطة، بداية من الطّرح و الجمع، وهي من أساسيّات التكوين العلمي للطالب، وبهذه العجالة من الفُسحة طرَحتُ ما كان يدور في خُلدي من الطروحات التي ربّما طُرِحَت من قبل، لكن مع تقادم الزّمان عليها جعلها مطروحة خارج أذهاننا.
عمّان \ الأردن
3-4-2017