حب الوطن
المؤرخ والمحقق حسون حسن الشيخ علي
الولاء والحب أولا لله سبحانه وتعالى ولرسوله ثم تأتي بعد ذلك عبارات أخرى تقتضي محبة الشخص لها بما يوافق الولاء الأول وينسجم معه ولأجل المحافظة على هذا الإنسجام لابد أن تكون تلك الإعتبارات على هيئة دوائر كل دائرة داخل دائرة أكبر منها ما هو خاص بدائرة ضيقة كالإنتماء الأسري ومنها ماهو عام كالإنتماء لشعب أو أمة ومن بين هذه الدوائر دائرة حب الوطن وهي دائرة مهمة.
فالإنتماء إلى الأسرة إنتماء مشروع ويحرم تجاهله بقوله سبحانه: (وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) الأحزاب:6
وقوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) محمد:22
وقوله سبحانه: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِنلَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) الأحزاب:5
وقول الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ( من ادعى لغير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام).
ثم تأتي الحلقة الأخرى وهو حب جاره ومحلته فقد نقل عن عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)
وأوصي صلى الله عليه وآله وسلم بالجار فقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليحسن إلى جاره) .
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أن لي جارين فإلى أيهما أهدي فقال صلى الله عليه وسلم: (إلى أقربهما منك بابا).
ومنهم من يرى أن حد الجوار أربعون دارا هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا. فهذه رابطة مكانية إستمدت صلتها وعلاقتها من سكنى الأرض ثم تمتد الدائرة وتتوسع إلى الحي والبلدة والوطن. فحب الوطن طبيعة وغريزة ويدعم ذلك أن الفقهاء قالوا لا تنقل الزكاة من بلد ما دام في البلد فقراء محتاجون لها.
فمحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء:97
فقد خرج الأنبياء من أوطانهم لظروف قاهرة كإبراهيم وموسى ويعقوب عليهم السلام ونبينا محمدعليه أفضل الصلاة والسلام حين أخرجه قومه مع صحابته المهاجرين فضحوا بأوطانهم من أجل عقيدتهم وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحشر:8
فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرنو إلى مكة مسقط رأسه فخاطبه سبحانهإِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْك َالْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) القصص:85
وهذا بلال يتمنى الرجوع إلى وطنه مكة فكان إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة......بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما ما مجنة..........وهل يبدون لي شامة وطفيل
وذكر الازرقي في أخبار مكة:حدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن قال سمحت طلحة بن عمر يقول قال إبن أم كلثوم رضي الله تعالى عنه وهو أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف:
حبذا مكة وادبها ........أرضي وعوادي
بها ترسخ أوتادي....... بها أمشي بلا هادي
وهذه ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية أسكنها قصرا ولكن هذا القصر لم ينسها الحنين إلى خيمتها ومضارب قومها وأهلها وعشيرتها فأنشدت:
لبيت تخرق الأرواح فيه.... أحب الى من قصر منيف
لبيت تخفق الأرياحُ فيه.... أحب إليّ من قصرٍ منيفِ
وكلب ينبح الطراق عني.... أحب إليّ من قطٍ أليفِ
ولبس عباءة وتقر عيني..... أحب إليّ من لبس الشفوفِ
وhكل كسيرةٍ في كسر بيتي......أحب إليّ من أكل الرغيفِ
خشونة عيشتي في البدو أشهى.....إلى نفسي من العيش الطريفِ
فما ابغي سوى وطني بديلاً ....وماأبهاه من وطنٍ شريف
أما الجاحظ فقد جاء في رسالته المسماة الحنين إلى الأوطان أن العرب كانت إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه.
وقد إقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس فقال تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِاخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ( النساء:66
واقترن في موضع أخر بالدينلَايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( اللمتحنة:8
فحب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والمساكن هذا هو الوطن لكنه لا يكون على حساب حب الله ورسوله فمنهي أن تكون أحب إلى المسلم من الله ورسوله بقوله تعالىقُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين( التوبة:24
وأخيرا لسان الغريب عن وطنه يقول:
هل يعلم الصّحبُ أنّي بعد فرقتهم....أبيت أرعى نجوم اليل سهرانا
أقضي الزمان ولا أقضي به وطراً.....وأقطع الدّهر أشواقاً وأشجانا
ولا قريب إذا أصبحت في حزنٍ......إنّ الغريب حزين حيثما كانا