مــــدارات ســـــينمائية.. نصف قرن على غياب المخرج الياباني كنجي ميزوغوشي صاحب البصمة المتفردة في السينما اليابانية
بمناسبة مرور نصف قرن من الزمان على رحيل المخرج الياباني القدير "كينجي ميزوغوشي" تداعى عشاق الفن السابع ومعهم العديد من المؤسسات والأندية السينمائية في العالم إلى استعادة إنجازات هذا المخرج وإبداعاته السينمائية.
تكريم ميزوغوشي سواء ببلده اليابان أو الخارج وهو السينمائي المخضرم الذي مارس مهناً متعددة تراوحت بين الرسم والتمثيل وتمثلت في إعادة قراءة أفلامه التي ما انفكت تُكتشف وتُدهش، إلى جوار القيام بتلك الإصدارات الحديثة والمتنوعة بدءا من أشرطة ال /دي في دي/ وانتهاء بالأبحاث والدراسات والكتب المعمقة والمتخصصة التي تتناول مسيرة المخرج ميزوغوشي وبصمته المتفردة التي وضعها في قلب السينما اليابانية الجديدة، والتي قادت السينما العالمية إلى الالتفات إليها، وأخذت مهرجانات السينما العالمية تفرد لها حيزا في الكثير من أقسامها وبرامجها إبان الفترة المبكرة من الانطلاقة اليابانية في سائر الميادين عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، عندها تعرف العالم إلى أسماء في السينما اليابانية مثل : اوزو، كيروساوا، وميزوغوشي نفسه الذي لم يسعفه العيش ليرى ذروة النجاحات التي أخذت السينما اليابانية في تحقيقها في السنوات القليلة التي أعقبت وفاته عن عمر ناهز الثامنة والخمسين.
الجذور الفنية لكينجي ميزوغوشي تُبْحَث في كثير من الأحيان في سيرته الذّاتيّة، حدثان جريا عندما كان المخرج المستقبليّ في السابعة من عمره ربّما لعبا الدّور المحوريّ في أنواع الأفلام الّتي سينجزها . في البداية، ثروات عائلته ضاعت عندما فقد أبوه الطّموح أكثر ممّا ينبغي امواله في مشاريع أعمال فاشلة، مما يدفعهم للتحرّك إلى المنطقة الفقيرة أساكسا في الثّانية، حادثة مأساوية عايشها منذ الصغر، أخته سوزو البالغة من العمر 14 سنة ارسلت للتّبنّي و في النّهاية باعها الوالد إلى بيت للرقص جراء عدم تحمله الإنفاق على عائلته، وهو الحدث الّذي أثّر بشدّة على اتّجاه ميزوغوشي في الحياة. بين هذا و معاملة أبيه الوحشيّة لأمّه و أخته، حافظ على مقاومة شديدة ضدّه خلال حياته . عشق ميزوغوشي لسوزو و أمّه الّتي ماتت عندما كان في 17من عمره، ترافق مع كراهية شديدة لأبيه، الذي دفع ابنه الّذي بالفعل قد اصيب بحالة ملتهبة المفاصل ستبتليه خلال حياته، ليعيش مع الأقارب . يترك المدرسة في سنّ 13 للعمل و لدراسة فنون الغرافيك، و كان عمله الأوّل كمصمّم إعلان، وكان فقط من خلال تضحيات سوزو قادراً أن يدرس الفنّ، ليصبح رسّاماً، و ممثلا ومخرجا في النّهاية. من هنا بدت أفلامه وهي تحمل عنصر المأساة وقسوة الواقع وسوداوية شخوصه في عراكها وتطاحنها مع الحياة وتحمل تركيزا على معاناة المرأة في المجتمع الياباني ويمنحها نصيباً واسعاً من الأحداث وهي تشتبك مع قضايا وهموم عديدة.
كنجي ميزوغوشي ولد عام 1898، وتبدأ في الثانية والعشرين من عمره رحلته السينمائية التي لم تتوقف حتى موته، والتي انتجت ما يقرب من تسعين فيلماً، قد يكون " حكايات القمر الغامض بعد المطر " أشهرها، لكن روائعها تحمل عناوين مثل "حزينة أغنية المهزومين" (1923) و"الانسان" (1925) و"سمفونية المدينة الكبيرة" (1930) و"شقيقات جيون" (1936) و"حكاية الخزامى المتأخر" (1939) وبخاصة "حكاية اوهارو" (1952) و"العشاق المصلوبون" (1954) و"المساعد سانشو" (1954) و"الامبراطورة يانغ كويفي" (1955) و"شارع العار" (1956) الذي كان آخر أفلامه.
كان ميزو غوشي mizo guchi، المولود في طوكيو فناناً عاش كل حياته في السينما وللسينما، وهو بعد ان درس الرسم في معهد يدرّس الرسم الأوروبي، ساهم في العمل رساماً وكاتباً ايضاً في مجلة طليعية اسمها "كوبي بوشين نيبو"، ولكن لمدة عام فقط، اذ سرعان ما وجد نفسه ينجذب في العام 1920 الى السينما، ليتحول في العام التالي الى مخرج... وكانت أعماله المبكّرة استكشافيّة، فكان يستمد صياغاته السينمائية من أوجين أونيل، تولستوي وتقليد التّعبيريّة الألمانيّة . وحقق عدداً من الأفلام لم يضاهه في العدد الذي حققه أي مخرج آخر من جيله. منذ بداياته كان ميزوغوشي يعمل بسرعة. أحياناً ينتج فيلماً في عدة أسابيع . وانتاجه يقدر بما يزيد عن سبعين فيلما من العشرينيّات و الثّلاثينيّات، الأغلبيّة فُقِدَتْ الآن . و كانت تظهر في عدد منها ميول ميزوغوشي الاشتراكيّة . وحسبنا ان نذكر انه في العام 1923 وحده، حقق عشرة أفلام. وفي العام 1924 وصل سجله الى 11 فيلماً. صحيح انهما كانا رقمين قياسيين لم يعد اليهما ابداً بعد ذلك، ولكن صحيح أيضاً ان ميزوغوشي حقق طوال ثلاثة عقود عدداً كبيراً جداً من الأفلام، وفي تنوع في المواضيع والأساليب مذهل. وقد ترك يمارس اثرا كبيرا بسبب نجاح انتاجه الغزير في افلامه الصامته الأولى «حزينة أغنية المهزومين، الانسان ، الارض تبتسم ، ملك قطع النحاس، سماء الغسق الحمراء ، الخ » وبعد عام 1926، رواية عصرية عن عصر الميجي «1868-1912 » قبل ان يتجه الى النقد الاجتماعي في « لامعركة بدون مال » 1929 . و"سمفونية المدينة الكبيرة" (1930) و"شقيقات جيون" (1936) و"حكاية الخزامى المتأخر" (1939) وبخاصة "حكاية اوهارو" (1952) و"العشاق المصلوبون" (1954) و"المساعد سانشو" (1954) و"الامبراطورة يانغ كويفي" (1955) و"شارع العار" (1956) الذي كان آخر أفلامه.
واستمر ميزو غوشي خلال السنوات الأولى للسينما الناطقة في معالجة الموضوعات الحديثة . وادار ميزو غوشي وهو في أوج تفتحه حوالي عشرة أفلام كل سنة وكان في اغلب الأحيان واضع نصوصها . وكان يسيطر على عمله نقد للوضع الحياتي المفروض على النساء اليابانيات بين بورجوازيات رفيعات او صغيرات او عاملات او مومسات . وجعل ميزو غوشي الوقائع اكبر نجاح له، أنشأت مرثيّة أوساكا نمطاً لكثير من الأفلام اللاحقة . أياكو ( إيسوزو يامادا ) عاملة تليفون صغيرة مكرهة ان تكون عشيقة رئيسها عندما يُهَدَّد أبوها، المختلس، بالسّجن . تنحدر أياكو باستمرار نحو القاع، لتدفع أخيراً نحو الدّعارة لتعول عائلتها الّتي تشتمها بينما يقبل مالها . ينتهي الفيلم بصورة مذهلة لأياكو المتحدية لواقعها ، جهاز المدير سيستخدم باقتصاد في المستقبل . تحفته الأخرى من هذه السّنة، أخوات جيون، بشكل معبّر يستكشفن الأرض الّتي عرفها ميزوغوشي من التّجربة الشّخصيّة المكرّرة : بيوت الرّاقصة لكيوتو .فيلم « أخوات جيون» تدور في حي جيون الخاص في اوزاكا ، مما جعل الالسنة تلهج عام 1936 بالواقعية الجديدة اليابانية ويمكننا ان نصنف في هذا المنحى بين أعوام 1934 و 1939 "هينو سوكي "و"غوشو "و"ناروز "و"ناشيما "وكذلك تومو أوشيدا في ادارته لفيلم »«الارض » وأنشأت "قصّة الأقاحي الأخيرة" ( 1939 ) بوضوح سمعة ميزوغوشي كمخرج مناصر للمرأة . في أفلام ميزوغوشي الأوسطيّة بدا كأنه اكتشف كمخرج واقعيّة جديدة : الوثائق الاجتماعيّة لليابان تصنع انتقالها من الإقطاع في العصريّة ، ويستكشف الوضع المستهجن للنساء في مجتمع يسيطر عليه الذكر بشكل غير عادل
ميزوغوشي، اليساريّ الحسّاس و مخرج المرأة، كان أيضاً مثاليّا و طاغية على مجموعة عمله . قصّة واحدة، ربّما ليست دقيقة، يقال أنه في فيلم مضايق الحبّ و الكره ( 1938 ) أجبر الممثّل فميكو ياماجي على أن يتمرّن سبعمئة مرّة على مشهد. كينيو تاناكا، ممثّلة ميزوغوشي المفضّلة و أحد رائعات الشاشة ، تذكّر بدون حقد المخرج الذي أجبرها أن تقرأ تقريباً مكتبة كاملة للإعداد لدور . كانت الأصالة أحد مثيراته، و أفلامه الأثيرة قُدِّرَتْ خصوصاً لدى الجماهير اليابانيّة لتفاصيلها التّاريخيّة .
أثناء الأربعينيّات، أُجْبِرَ ميزوغوشي أن يعمل أفلاما ناسبت حاجات الحكومة للدعاية . انتقل في أرض الساموراي بأعمال غير معتاد عليها مثل "سبعة و أربعون رونين المخلصة" (1942)، "مياموتو مساشي" ( 1944 )، و "السّيف المشهور" ( 1945 ) . كانت هذه الافلام شعبية بدرجة كافية للمخرج لتكرارها فيما بعد، كما في حكايات "عائلة تيرا" ( 1955 ) . لكنّ حتّى في الأعمال الوطنيّة رفض إيقاف اهتمامه - او لنقل هاجسه - بظلم النساء، كما في فيلميه المثيرين للجدل بشكل عاطفي " نصر النّساء "(1946 ) و " نساء الليل" ( 1948 ) .
أفلام ميزوغوشي من أواخر الأربعينيّات إلى آخر اعماله، شارع الخجل، في عام 1955، يقدم شكلاً ابداعياً للعمل فريداً في سينما العالم، رائعاً بفضل تمام الإخراج، التشكيلات المشهدية الفاتنة و النّقد الاجتماعي ( كما في ويو آنسة 1951، و بصورة وحشيّة، كما في سانشو المأمور) و الشدّة العاطفيّة السّاحقة أحيانا .
وفي أفلام ميزوغوشي اللاحقة يقدم طبقة اجتماعية هي " الشونين " او طبقة التجار و الحرفيين الذين كانوا يشكلون طبقة برجوازية في العصر الاقطاعي تتمتع بالسيطرة الاقتصادية وبالرغم من خضوعهم لسلطة السامورائيين فقد أتاح لها ثراؤها الوفير الاسهام في ازدهار الحضارة . ويصور ميزوغوشي طبقة الشونين في افلامه التاريخية التي اعدت عن اعمال أدبية ترجع الى العصر الاقطاعي : "حياة اوهارا " و " الزوجة الوفية " و " العشاق المصلوبون " .
جاء الاعتراف الدّوليّ بحياة أوهارو ( 1952 )، اثر فوزه بالجوائز العديدة في أوروبّا و اليابان . أوهارو ( كينيو تاناكا ) هي ابنة ساموراي في قصر كيوتو الإمبرياليّ . بعد حبّ رجل من طبقة دنيا، هي تكره على المنفى و هو يقُتلَ . من هذه اللحظة تصبح حياتها كابوساً مذهلاً للتّدهور فريداً في السّينما، بينما تحاول قتل نفسها، تصبح عشيقة رجل غنيّ، ثمّ عاهرة، ثمّ خادمة، و أخيراً معدمة و عاهرة متهالكة . يحدّد ميزوغوشي بطلته في فوضى اجتماعيّة و تاريخيّة، ينتهي بمحاولتها المثيرة، مسجّلة بكاميرا مؤثّرة بسرعة، للمطالبة بالابن الّذي حملته عندما كانت عشيقة الرجل الغني، و الّذي نفسه أصبح غنيّا و قويّا .
ويلاحظ في جميع أفلام ميزوغوشي انها تعبر عن كراهية السلطة والتعاطف مع المضطهدين وخاصة النساء، ومع ذلك فالمخرج لايتعاطف بابتذال مع مصير هؤلاء بل يجعلنا نشارك مراحل التحولات المختلفة لشخصياته التي تزداد قوة من خلال المحن التي تصهرها .
في الرّغبة المستمرّة للتّقسيم، قسم النّقّاد اهم ثلاثة عظماء للسينما اليابانيّة الكلاسيكيّة ، مع كوروساوا كمخرج عاطفيّ، أوزو كمتأمّل، و ميزوغوشي في مكان ما في الوسط . لكنّ الأعمال مثل أجيتسو (1953) و سانشو المأمور ( 1954 ) لديه تأثير عاطفيّ يسحب المخرج من التأطير، استراتيجيّاته لتحقيق هذا دقيقة و مذهلة . بينما كوروساوا يخلق اشتراك الجمهور من خلال المونتاج و الاستعمال المتحرّر للصّور ، ميزوغوشي يتجنّب كليهما لكنّ يتمكّن من خلق مزاج أقوى خلال الإضاءة، وضع الكاميرا و الحركة، و المعالجة الغريبة للممثّلين خلال المألوف . نرى احدى شخصيّاته تمشي ببطء، بطريقة منظّمة، مثل الدّمى تحت سيطرة قوّة غير منظورة، كما في الآنسة ويو، حيث تعكس هذه التّحرّكات الضّعيفة العلاقات المعقّدة المتردّدة للمثلّث المميت في مركز الفيلم . في لحظات الأزمة، انحناء شخصيّات ميزوغوشي، يخفي وجوههم، يستلقي على الأرض، بالكاميرا عادة في مسافة متحفّظة، كما لو ان المشاعر الّتي يجرّبونها شديدةً جدًّا لتُسَجَّل .
في المشهد الختامي الشهير من المساعد سانشو ، على سبيل المثال، شابّ قد بِيعَ في العبوديّة يُجْمَع أخيراً على شاطئ مع أمّه الّتي اُغْتُصِبَتْ، وهو مشلول و مهجور .. المآسي تجربة شخصيّاته ( هي حتما مآسٍ - كوميديا ميزوغوشي غير متخيّلة بالتّأكيد ) تحَدَّد بطبيعة الإنسان و القدر ولا تعوّض .
لدى ميزوغوشي قدرة لانتزاع عواطف شديدة من أصغر الإشارات الواضحة، خصوصاً عندما يذهب الولد - الّذي اُغْتُصِبَتْ أمّه و قُتِلَتْ - إلى قبرها و يضع سلطانيّة أرز عليه، العمل المشكّل بانحناءة بسيطة، فيما بعد تشرئبّ فيه الكاميرا إلى أعلى و بعيداً، صنع هذا المشهد بسبب رفض ميزوغوشي معالجته بشكل عاطفيّ، كما أيّ من الأحداث المأساويّة الّتي سبقته . حتّى الشّأن اليائس لجينجرو الفخّاريّ مع سيّدة الشّبح واكاسا يُسَجَّل بهواء موضوعيّ تقريباً، دراسات الكاميرا المتوتّرة للقصر المخيف و إيقاع جينجرو قدّم ببساطة تخفي قوّة عواطفه .
بعد تقديم فيلمه الأخير المعنون ''شارع العار'' في عام 1956 ، وبعد سنوات قليلة فقط من تحقيق الشّهرة العالميّة، مات ميزوغوشي ... صوت ميزوغوشي السينمائي يتضمن نوعاً خاصاً من الرنين الرّوحيّ، و قد جاوز موته لتكون افلامه شهادة على جيل وعصر بأكمله في اليابان ما قبل الحرب، واليابان المعاصرة كحالة تمتلك خصوصيتها وفرادتها في تجاوز آثار الحرب والمضي قدما نحو التميز والتألق في مسيرة الفن السابع .
وكانت آخر عبارة خطها قبل ايام من وفاته، في دفتر كان يدوّن فيه يومياته وانطباعاته :
" لقد حلّ الخريف، آه كم انني على عجلة من أمري لكي استعيد فرح العمل مع زملائي في الاستوديو".
محمد عبيدو
obado@scs-net.org
جريدة البعث