ضمن فعاليات دمشق للفنون الشعبية..السرد الشفهي والقصص المحكية والشعر الشعبي في الشام..الفنان سبيعي: ثورة الاتصالات وتطور وسائل الإعلام أدت إلى اختفاء هذا الفن
ثناء عليان
يعرّف التراث بأنه كل ما ورثناه تاريخياً من الأمة التي نحن امتداد طبيعي لها، أي كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة من عادات اجتماعية وفلكلور,.
فهو قضية موروث, وفي الوقت نفسه قضية معطي حاضر على العديد من المستويات. فهو وعي التاريخ وحضوره الشعوري في الكيان الفردي أو الجمعي، أي كل ما له خاصية وقابلية الانتقال من الماضي إلى الحاضر, وهذا الانتقال إما أن يكون لاعتبارات مرتبطة بالحاضر وحاجاته ومقتضياته, وإما لاعتبارات مرتبطة بالتراث نفسه من جهة طبيعته وقيمته. التراث الشعبي عن التراث الشعبي في دمشق من ناحية السرد الشفهي والقصص المحكية والشعر الشعبي كانت محاضرة الباحث أنس تللو، التي اقيمت في المركز الثقافي العربي بالمزة ضمن فعاليات مهرجان دمشق للفنون الشعبية، والتي بدأها بالحكواتي، فيذكر: يُعتبر الحكواتي واحداً من الشخصيات الشعبية في مدينة دمشق، وهو الذي كان يأتي إلى المقهى في وقت محدد لإلقاء الحكايات، فيتخذ مكانه في صدر المقهى، وكان قبل أن يبدأ بالحكاية يحكي ما يسمى دهليز الحكاية وهو عبارة عن مقدمة يسردها ريثما يصل الجمهور المتأخر، وفيها يتحدث عن أمور ضاحكة، ويقدم بعض النصائح، ثم يروي موجزاً عما قدمه في الليلة الماضية، تماماً كما تفعل اليوم المسلسلات التلفزيونية، وكان من براعة الإلقاء المثير للحكواتي آنذاك أن يتخذ لنفسه وسائل لتحميس الجمهور، حتى إن البعض ممن برعوا في إلقاء الحكايات والسير الشعبية كان يغادر السدّة وينزل إلى الجمهور وقد أمسك سيفاً أو خيزرانة يلوح بها ويضرب على الطاولات، وكأنه هو بطل الحكاية مما يثير الحماس في النفوس، وكان البعض الآخر يستخدم أكثر من لغة في سرد حكاياتهم فتتلوّن نبرة صوتهم حسب وقائع الأحداث. الكراكوزاتي ويضيف: أما الكراكوزاتي، فقد كان أكثر تأثيراً على مشاهديه ومستمعيه من الحكواتي، لأنه كان يعرض صوراً لشخصيات قصصه المختلفة، ويلوّن نبرات صوته من وراء الستارة مع كل شخصية حيث تختلف من شخصية إلى أخرى، وهذا ما كان يسمى بخيال الظل الذي كان يمثّل تمثيلاً دقيقاً لحياة وتفكير ونفسية الشعوب في فترة الاحتلال العثماني، وكان شغل الناس الشاغل ومسرحاً لنكاتهم وتمثيلياتهم، فعكس دائماً الأحداث المهمة والمجريات اليومية لهم. ويشير إلى أن الكراكوزاتي ومعاونيه كانوا ينصبون خيمة الظلال في المقاهي ويعرضون حكايات شخوصها بأنماط ثابتة، تتمدد بالارتجال والتفاعل مع المشاهدين، وكان ذلك يقتضي تنوّعاً وتعدداً في المواهب، ويحتاج لتجهيزاتٍ وبراعات تقنية، أما أشخاص الكراكوز التي تظهر خيالاتها في كل فصل فهي كراكوز وعيواظ ، ثم المدلل وهو أصغر خيال في الخيمة، وقريطم الخيَّال الذي يمثل الرجل المصري بكلامه، وأبو أركيلة، إضافة إلى حمار الخيمة الذي يدعى كرش. بعد ذلك تطرق الباحث للحارات الشعبية القديمة، وبيوتها الدمشقية وسحرها وسرّ مسرة ساكنيها، واصفاً إياها بالملاذ الآمن البعيد عن ضجيج الآخرين ومنقذ من تلوث البيئة، مشيراً إلى حمامات السوق التي مازالت من التراث الشعبي العريق، المعروفة بصحونها وإيوانها، ومتحسراً على اندثار معظم الحارات الشعبية، وتلاشي معظم بيوتها التراثية التي كانت تحمل رونقا وعبقاً تاريخياً، وتحول البعض الآخر إلى مطاعم أخذت أسماء مختلفة، أغلبها حمل اسم صاحب المنزل. وقال: إن الزكرتية صفة كانت تُطلق على طبقة من الشجعان في الحي تتجلى فيهم عادة إغاثة الملهوف، ومساعدة الفقير، وهي كلمة تركية الأصل، أما كلمة قبضايا فتعني الخال الغليظ وهي أيضاً كلمة تركية. الحارات الشعبية ثم قام تللو بدعوة الحكواتي محي الدين قرنفلة ليتلو على الحضور شيئاً من الأدب الشعبي اختلط فيه الجد بالهزل، مشيراً إلى نشأته في بيئة تراثية عريقة، وسط جدات كنَّ موسوعاتٍ وقواميسَ للأمثال الشعبية، إضافة إلى اهتمامه بالأدب الشعبي الدمشقي ومتابعته بشغف لمسيرة الفنان المرحوم حكمت محسن، وأخذ يلتقي بالناس الشعبيين، فغدا خليفة له. ونوه تللو بتجربة فنان الشعب رفيق السبيعي الذي كان حاضراً، فذكر أن «أبا صياح» جمع في شخصيته معظم الشخصيات التراثية القديمة، من خلال عشقه للتراث والأصالة، فتنوعت أعماله وكثرت إبداعاته وتعددت عطاءاته، فرسخ في أذهاننا كل ما حملت تلك الشخصية التراثية العريقة من معاني الأصالة، وتحلّت بأبهى حلل الجمال، كما تجللت برداء عطِرٍ يفوح شذاه بالإنسانية، فعطر الأجواء بالمحبة للتراث وبالتوق للوفاء والإخلاص، ويضيف: إن قصة الفنان السبيعي هي حكاية التجربة الفنية السورية في القرن العشرين تلك التجربة التي لا تزال شاهداً حياً، حيث مازال هذا الفنان مستمراً في نشاطه الفني من خلال الأعمال الإذاعية والتلفزيونية، مشيرا إلى أنه أول من أدخل فن المونولوج الغنائي الناقد إلى سورية، وأول من أحيا الفلكلور الدمشقي والغناء في العراضة والحمامات. واستعرض تللو بعض كلمات أغنية «ياصلاة الزين» التراثية التي أطربنا بها رفيق السبيعي بصوته العريق، والتي مازالت ترن في آذاننا منذ الطفولة، فيصف بنت اليوم، التي أغرتها الحياة الدنيا وتغنت بجمالها فأخذت ترفض العرسان إذ يقول: «عزيزة عزبا لسه عزبا عمرا تلاتين وعيلتها جماعة مستورين ومناخيرها كتير مرفوعين ومبتاخد إلا زنكيل عنده قصرين وأوتومبيلين» ثم يصف الفتاة المتعلمة، التي دخلت المدرسة والجامعة وتعلمت لغات أخرى، دون أن تتعلم فنون الطبخ، فيقول: عزيزة بتقرا بتقرا عربي وأفرنجي كمان وشهاداتها غطوا الحيطان وما طلبوا إيدا العرسان يا خسارة بتعرف كل شي بس ما بتعرف تقلي بيضتين يا صلاة الزين على بنت اليوم يا صلاة الزين» ثم يتحدث عن المكياج في أغنية أخرى، وعن الموضة التي كانت السائدة آنذاك كالبنطال الضيق من الأعلى، والعريض من الأسفل، وكان اسمه شرلستون، التي كانت الفتاة تصر على ارتدائه وتضع المكياج مهما كانت حالة أبيها متدهورة مالياً، فيقول: «عزيزة شقرا بيضة وسمرا كل يوم بلون ومكياجا على وشا طون وما بتلبس غير شرلستون وأبوها عايف حالو معمي قلبو عايش بالدين، ياصلاة الزين» على بنت اليوم ياصلاة الزين»، ثم يتحدث عن تحرر المرأة، ودخولها إلى عالم العشق والحب، يقول: «عزيزة حرة وآخر مرة حبت ممدوح وعلى علمي كان قبلو صفوح وما بتفرق داخل أسعد طالع أحمد راجع حسنين. . . يا صلاة الزين على بنت اليوم». رفيق سبيعي وفي نهاية المحاضرة تحدث الفنان رفيق السبيعي عن معاناته الكبيرة خلال حياته الفنية لتحقيق هدفه الأسمى، وقال: ما كنت لأتحمل تلك المتاعب والعقبات التي واجهتني في مسيرتي، إلا لأنني عشقت الفن منذ الطفولة، وكنت دائما أتمنى أن أكون على قدر كبير من الثقة التي أولاني اياها الجمهور عندما كنت أقدم له شيئاً، ويضيف: نعم لقد تعبت في حياتي، ولكنني أعتقد أنني أخذت حقي في المجتمع وانا سعيد جداً في الوصول إلى ما أنا عليه، بينما كان لي زملاء قضوا ولم يحصلوا على ما حصلت عليه انا من النجاح، على الرغم أنهم تعبوا أكثر مني، حتى أن منهم من كانوا أساتذتي، مثل المرحوم حكمت محسن ذلك الصوت الآخاذ الذي كان يوقف المارة عندما كانوا يسمعون صوته الجميل، نعم هذا هو استاذي في الفن الشعبي، الذي تعلمت منه دروساً كثيرة، ولساني يعجز عن وصفه، ولا اعتقد أن هناك فناناً وصل لمستواه من الروح الطيبة والصدق في التعامل وحب زملائه وتشجيع المواهب، فهو بالنسبة لي الأب الروحي في الفن حيث ترك أثراً في نفسي وجعلني أنقاد إلى الفن الشعبي بشكل تلقائي وأن أصل للجمهور بسرعة، حتى أني تفرغت له فترة طويلة، على الرغم من عملي في المسرح باللغة الفصحى، حيث اشتغلت مسرحيات عالمية كثيرة كان لها نصيب من النجاح، إلا أن هذا الإنسان الشعبي الطيب له الفضل في استمراريتي ووجودي معكم الآن. ثورة الاتصالات وعن سبب تلاشي الفن الشعبي وابتعاد الجمهور عن الاهتمام به قال الفنان رفيق السبيعي في تصريح لـ «تشرين»: ثورة الاتصالات وتطور وسائل الإعلام كانت سبباً أساسياً في اختفاء هذا الفن، إضافة إلى أن الفن بشكل عام أصبح مشوهاً وسلعة للتجارة ونوعاً من «البوجقة والمنفخة» للأسف الشديد، فابتعد عن الإصالة والعراقة، وعبر عن انزعاجه الشديد لاستخدام الفلكلور استخداماً دنيئاً فاضحاً وللحالة السيئة والأليمة التي وصل إليها الفن، فيما وصف الفنان عدنان حبال القنوات الدرامية بالمستهلكة جداً، وطالب بتحويلها لقنوات ثقافية، تعالج القضايا الثقافية من مسرح وأدب وسينما وقيام نهضة ثقافية تساهم في القضاء على كل ما هو مشوه على الساحة الفنية. Sna.alyan@gmail.com تصوير: طارق الحسنية