..
جيش السفياني.... هرمجدون دمشق
محمد حبش
كاتب سوري
قد يكون أقسى أقدار دمشق أن المتحاربين القادمين من بلدان مختلفة وفق الاصولية الشيعية والسنية على السواء يمتلكان قدراً متساوياً من نصوص الغيب التي تأمرهم بالتوجه إلى الشام والقتال فيها، حيث يبطش النواصب بالروافض والروافض بالنواصب على مسرح الدم.
وهنا في غمرة القتال في سبيل الغيب الموعود تغيب كل ملامح القتال من أجل الحرية والكرامة والأمن والاستقرار وحقوق الإنسان، وتبدو هذه الشعارات سمجة وباردة ولا معنى لها عند هؤلاء الذين يقتحمون الهول من آفاق الأرض إلى دمشق الشام حيث الملحمة الكبرى واللقاء الفصل بين الدجال والمهدي، وما يتبع ذلك من كوارث لا تنتهي.
القراءة الشيعية تفترض أن دمشق هي أرض هرمجدون التي ستشهد ملاحم نهاية التاريخ وسيتم فيها تقديم قرابين الشهداء قوافل قوافل حتى يتم اقناع المهدي المنتظر بالخروج ومن ثم القتال والثار من كل من ظلم آل محمد أو سكت عن مظالمهم وهذا قدر يشترك فيه القاعدون عن نصرة أهل البيت ومن تسلسل من ذراريهم، وبهذا المعنى فلا يوجد أحد في هذا الشام الشريف مبرءاً من وصمة هذه الخطيئة.
مئات الحسينيات والمزارات اليوم التي يرتادها ملايين الشيعة في إيران والعراق والهند وباكستان ولبنان تروي الأحداث بصيغة واضحة ممهورة بخاتم آيات الله وحجج الإسلام وأهل البيت والراسخين في الولاء لأهل البيت كلها تؤكد أن جيش السفياني الذي تحدث عنه الرسول الكريم قد ظهر اليوم بكافة تفاصيله وألوانه وملامحه في دمشق، وهو الجيش الحر وجبهة النصرة وداعش التي يجمعها شيء واحد هو إقرار خلافة الثلاثة قبل علي وهذا وحده سبب كاف لاعتبارهم نواصب أعداء يجب قتالهم، وأن خروج المهدي سيكون بدافع هذا القتال المرير.
وحديث السفياني ورد في ثمانية مصادر في كتب الحديث عند أهل السنة وعشرة أضعاف ذلك عند الشيعة، أشهرها في بحار الأنوار وغيبة النعماني وإلزام الناصب، حيث يظهر السفياني على الشام، فيملك حمص ودمشق والأردن وقنسرين وبيت المقدس، ثم تكون هزة فيقتل من الناس مائة ألف، ثم يكون بينهم وقعة بقرقيسا حتى تشبع طير السماء وسباع الأرض من جيفهم، (وقرقيسا بلدة تاريخية قرب دير الزور، تسمى اليوم بالبصيرة).. وينزل الترك الحيرة وتنزل الروم فلسطين، ويسبق عبد الله المهدي حتى يلتقي جنودهما بقرقيسيا على النهر، فيقتل الرجال ويسبي النساء.
ثم تأتي رواية (شريفة) لترسم ملامح الصراع اليوم بين الرايات الثلاث، الأبقع والأصهب والسفياني، عن الإمام الباقر: يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني، فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون فيقتله السفياني ومن تبعه، ويقتل الأصهب، ويمر جيشه بقرقيسيا فيقتتلون بها، فيقتل بها من الجبارين مائه ألف، ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة، وليس عسيراً أن يفهم المحارب أن هذه الرايات الثلاث هي الجيش الحر وداعش وجبهة النصرة.
ومع أن صيغة الروايات بمجملها تكفي العاقل ليدرك أنها مما وضعه دجالو الرواية إبان سقوط الدولة الأموية لإغراء محاربي الفرس للقدوم إلى الشام واستكمال نكبة بني أمية والتنكيل بقبورهم وآثارهم، وفق ما قاله سديف بن ميمون:
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا تغادر فوق ظهرها أموياً
ولكن هذا التأويل التاريخاني لهذا اللون من الروايات لا يقنع أحداً من هذه الجماهير الهائجة التي يمكن أن يثيرها قوال في لطمية أكثر مما يثيرها شيخ الأزهر!! حيث تعصف هذه الروايات بدم الهائج وعصبه وروحه وتدفعه من فوره حطباً لهرمجدون اللاهبة في دمشق الشام حيث سيتم قتل السفياني ونزول المسيح وخروج صاحب الزمان من سردابه حيث يستل سيفه ويطارد أعداء أهل البيت ممن نازعهم الخلافة ومن شايعهم ووالالهم إلى يوم القيامة.
وفي القراءة السلفية الجهادية كارثة من لون آخر، فأحاديث الملاحم لا تتوقف في روايتها، وقد جمعها البرزنجي في كتابه الإشاعة في أشراط الساعة وكذلك كتاب الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة لصديق حسن خان القنوجي، والكتابان يوردان أكثر من ألف رواية فيما يكون آخر الزمان، وقد قام شيوخ الموت بإسقاط قراءاتهم وتأويلاتهم عليه وفق هدي السلف واختيار المحققين من علماء الرواية، فيكون الأصهب والأبقع والسفياني أسماء لتشكيلات حزب الله ولواء ابي الفضل العباس والرايات السود وغير ذلك من الرؤى، التي لا بد أن تظهر في دمشق التي هي أرض المحشر والمنشر!
وفي النهاية الصورة واحدة، هناك دجال وهناك مهدي، ولكن أدوار القاتلين متناوبة فالقتل هذه المرة حمٌّ حتم، كتبه الله على أهل الحق، حين تكثر الملاحم والفتن، فالأولون يقتلون في الشام النواصب، والآخرون يقتلون فيها الروافض، ويقاتل الأولون لهلاك أعداء أهل البيت ويقاتل الآخرون لهلاك المبتدعة والزنادقة والصوفية والمتشيعة، وفي غمار معركة كهذه فإنه لا بأس بزهوق الأرواح والانفس.
والكارثة أن الشعب المسكين الذي تقتله القذائف لم يسمع أصلاً بهذه الروايات، ولم يخرج يوماً من أجل أي منها، لقد كانت صيحات بريئة هتف فيها للحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم يخطر في بال ثائر في هذه الثورة المباركة أنه خرج من أجل أي من هذه الأهداف الموهومة.
من المؤلم ان فكرة الخلاص بالمنتظر مسيحاً أو مسياً أو مخلصاً أو مهدياً نشأت في الأصل لإحياء الأمل لدى شعوب ترتع في المظالم وبالمناسبة فهي فكرة ذائعة الصيت لدى كل الأمم، وللمسيحيين واليهود والبوذيين والهندوك والأرواحيين أساطير مشابهة تتحدث عن المخلص في آخر الزمان، وعادة ما يكون خروجه أو الأمل بخروجه هو الأمل بالسلام والحب والعدل والرخاء، ولكن هذا المخلص في نسخة الصراع السوري اتخذ طابعاً يهودياً، يشبه ما كان اليهود ينتظرونه قبل مبعث الرسول حين كانوا يتوعدون أهل المدينة ويقولون يوشك أن يظهر نبي آخر الزمان فينا، فنقتلكم به قتل عاد وإرم!! بشارة بنبي موعود رسالته أن يقتل الناس!! أو كما تعبر بعض بياناتهم عقب انتصاراتهم الدامية اليوم: جئتكم بالذبح وأنا الذباح الرحيم!!
الكارثة أن الأسطورة هنا تتحول إلى خطة طريق، وترسم لكل فريق أصدقاءه وأعداءه وفق إرادة رجل الدين المطل على الميتافيزيق، والذي يكون بالضرورة علم أم لم يعلم جزءاً من لعبة سياسية شريرة، آخر ما تفكر به هو حقن الدماء ونشر السلام.
لا نبالغ إن قلنا إن أهم باعث لتقاطر قوافل المحاربين من سلفية جهادية أو شيعية متطرفة مقاتلة إلى دمشق هو هذه القراءات الدموية في الغيب، ومن المؤكد أن هذا التأويل لا يرضي القيادات المستنيرة في الفريقين، ولكن يجب الاعتراف أن صوت الاعتدال لا يسمع في طبول الحروب وأزيز الرصاص، وللناس في يوم الحرب مرجعيات أخرى من نوع أبو صقار وذئب كربلاء، وهؤلاء هم من يقوم اليوم برسم خطة الطريق الدامية لقوافل الموت.
في تساؤل بريء كتب الصديق وليد فليون على صفحته: الأحاديث متواترة في أن الملائكة باسطة أجنحتها على الشام، أنا لا أنازع في هذا، ولكن الملائكة هنا هي عزرائيل بكل تأكيد!
د.محمد حبش أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أبو ظبي