منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1

    فيلسوف لم ينل جائزة نوبل ..........د. زكى نجيب محمود

    ثورة فى عالم اللغة

    من اللغة تبدأ ثورة التجديد

    لم أتصور لأمة من الامم ثورة فكرية كاسحة للرواسب ، إلا ان تكون بدايتها نظرة عميقة عريضة تراجع بها اللغة وطرائق استخدامها ، لأن اللغة هى الفكر ، ومحال ان يتغير هذا بغير تلك ، فقد تسود العصر روح دينية صوفية ، تبحث عن الغيب وراء الشهادة ، عن الخفاء وراء الظهور ، عن الثابت وراء المتغير ، عن المطلق وراء الجزئى النسبى العابر ، عن البقاء وراء الفناء ، فعندئذ ينعكس هذا كله على طريقة استخدام الناس للغة - فى مدارج الثقافة العليا لا فى تصاريف الحياة اليومية - فتراهم يجعلونها للايحاء لا للدلالة ، فهى أداة عروج الى السماء لا وسيلة اتصال بالواقع .
    ثم قد تسود العصر روح علمانية واقعية ، ينشغل الناس فيها بالعلوم الطبيعية والرياضية اكثر مما ينشغلون بالوجد الصوفى وتسبيح المتدين ،
    فعندئذ كذلك ينعكس ذلك على اللغة ، فترى أصحابها يتخذون منها أداة ترمز الى الواقع المحسوس ، أكثر مما يتخذونها عدسات ينفذون منها الى اللانهائية والخلود ، ذلك على وجه التعميم الذى لاينفى ان يتناثر فى الحالة الاولى أفراد أشبه بالعلماء فى استخدامهم للغة ، كما لاينفى أن يكون فى الحالة الثانية أفراد أشبه بالشعراء فى صياغة القول .

    فإذا كان الناس فى مرحلة من تاريخهم الفكرى تشبه الحالة الاولى وأرادوا الانتقال منها الى مرحلة أخرى تشبه الحالة الثانية ، كان لابد لهم من تغيير الأداة . والعكس صحيح أيضا بالنسبة الى من يأخذ العلم الطبيعى برقابهم ويريدون الافلات من قبضته ولو قليلا ، فهنا كذلك ترى الدعاة إنما يسوقون دعوتهم بلغة الايحاء المحدودة المعنى .

  2. #2
    ظلم
    كان الفتى فى عامه الثانى عشر أو الثالث عشر ، طويلا نحيلا ، فى عينيه اليمنى حول ظاهر ، ولايفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه ، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التى لايخطئها النظر .
    سأل أباه ذات يوم اذ هما على مائدة الغداء ، فقال :
    - كلمة ظلم ما معناها ؟؟
    - وأين سمعتها ؟؟
    - سمعتها رجلا يصيح بها فى الطريق ، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام ، وكان الشرطى من ورائه يصفعه ويركله .
    - الظلم هو ان يوضع الانسان فى غير موضعه اللائق به ، فاذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم ، واذا اسندت الرياسة الى من لايستحقها فذلك ظلم ، واذا اخذ العامل اجرا على غير عمل فذلك ظلم ، واذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم ، كذلك من الظلم ان يفلت من العقاب من هو حقيق به ، وهكذا . كل هذه امثلة لناس وضعوا فى غير اماكنهم الصحيحة .
    سمع الفتى هذه الاجابة من ابيه فى انصات ظاهر ، وكأنما أعجبه رنين الكلمة فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء ، وبلغاعجابه بالكلمة ان كان ينطق بها فى نغمات مختلفة ، ثم يضحك ضحكاته البلهاء .
    ولما أصبح صباح اليوم التالى ، ارتاعت أم الفتى لما رأته فى كل ركن من أركان الدار......اذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة " ظلم " يكتبها على المقاعد والموائد والجدران ، يكتبها أينما وجد فراغا يصلح للطباشير أن يخط عليه ، فهى على أوانى المطبخ ، وهى على البلاط ، وهى على جوانب الاثاث ، وهى على السجاد القاتم ......
    ونودى الغلام وسئل عما فعل ، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء ، وماذا يصنع الابوان فى ابن يعلمان فيه البلاهة ؟؟
    انهرته أمه ونهره أبوه وتهدداه بالعقاب الصارم إذا عاد الى مثل هذا العبث ، ثم طفقت الام تمسح " الظلم " من أجزاء بيتها بخرقة بالية ! .
    ومضى يوم واحد ، جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه ، فقد ظفر بقطعة من الفحم ، وراح يتسلل الى حيث استطاع سبيل من دورهم ، وأخذ يخط كلمة " ظلم على الاشياء فيفسدها ، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم .
    فضربه أبوه ، وسأله فى غيظ قائلا :
    ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها فى كل مكان ، تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ؟
    فاجاب الغلام بعينين دامعتين : لست ادرى يا أبت ! اعف عنى هذه المرة ولن أعود . لكن لم يكد يمضى يوم آخر ، حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه ، فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره فى يسر ، كما محيت آثار الفحم والطباشير ، ظفر بوعاء فيه طلاء اسود وفرجون ، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها ، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم ، على الطوار : " ظلم " ، " ظلم " فشوه بخطه الردئ من ناحية ، واساء الى المتاجر واصحابها من ناحية اخرى ، لأن هؤلاء يريدون اغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم ، لاتنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الردئ .
    وهاهنا بلغ الغيظ من الوالد ابلغ مداه ، وجاء بغلامه امام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة ، حتى مست الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل ان تمس قلبه وهو الوالد .
    وساله ابوه من جديد : ما الذى يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير ، وللجيران بالفحم ، ولهؤلاء الناس بالطلاء ؟
    فاجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء : لست ادرى يا أبت ! اتركنى هذه المرة ، ولن اعود الى مثل ذلك ابدا .
    لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها " ظلم " يصيب احدا من الناس ، وفى اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة ،وشغل الابوان وبحثا عنه فى مظانه كلها فلم يعثرا له على أثر حتى اذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها فى الليل ، دق الجرس وأسرع الابوان فى لهفة الى الباب ، فاذا ابنهما فى صحبة رجل من رجال الشرطة .
    قال الشرطى : هذا ابنكم وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة : فأخذناه الى قسم الشرطة وكتبنا عن الامر " محضرا" لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا ، ورأينا ان تسوقه الى داره ليقضى ليله مع والديه حتى لايشغلا عليه بالا ونظر الغلام الى ابيه نظرة يطلب بها العفو والعطف ، فلم يسأله أبوه عن شئ ، وبات محزونا .
    حتى اذا ما جاء الصبح ، وذهب الى الدار الحكومية التى أتلف الغلام بابها بمبراته ، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة " ظلم " – حفرها كلمة كبيرة عميقة ، حتى ليدهش الرائى كيف استطاع ان يصنع ذلك كله فى ظلمة الليل ، وأين كان الحارس طول الساعات التى استغرقها الفتى فى حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين .
    واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران ان يخلوا له سبيل الغلام ، وكان ذلك بمشورة طبيب استشارة الوالد فى أمر ولده ، فأشار الطبيب بأن يصحب ابوان ابنهما الى مكان من الريف لتهدأ اعصابه لأنه مريض .
    وكم عجب الوالدان وهما فى القطار أن سمعا عجلاته تقرقع على القضبان فى صوت واضح لاسبيل الى إنكاره : ظلم . ظلم . ظلم .

  3. #3
    الكبش الجريح
    وثب الذئب على الكبش فمزق منه وانتهش ، وفرح الذئب لأن فى طبيعته أن ينهش ويمزق ، كذلك فرح الكبش ، ولم أكن أعلم أن فى طبيعته ما يستطيب النهش والتمزيق .
    فرح الذئب حين مزق وانتهش ، لأن له فى ذلك طعاما وشرابا فغذاء ونماء ، ان من يلوم الذئب لافتراسه الكبش كان كمن يلوم النار لأنها تلتهم الهشيم ،والسيل لأنه يندفق هدارا من قمة الجبل
    لقد قيل أن الدليل على وجود الله أقوى الدليل هو ما تراه فى الكون من تنسيق جميل ، قلت : وهذا التنسيق ما معناه ؟
    قيل : معناه الذى ليس له معنى سواه هو ما بين الاشياء من توافق كأنها فيه على اتفاق ، فضوء الشمس له طبيعة خاصة ، وشبكية العين لها طبيعة خاصة ، أعدت بحيث تتلقى ذلك الضوء ،ولو تغير ضوء الشمس قيد أنملة أوتغيرت شبكية العين قيد شعرة ، لكان ضوء الشمس لنا عبثا فى عبث ، ولكانت اعين الانسان والحيوان ضربا من الاسراف والتبذير ، وكذلك قل فى الذئب والكبش ، فلولا طراوة الكبش لكانت أنياب الذئب وخالبه زوائد لاتقتضيها الحكمة ولا يرتضيها حسن التدبير ، فمن كمال الله وجلاله أن للذئب أنيابا تنهش الكبش وومخالب تمزقه وتفريه
    قال الانسان : انى موجود لأنى أفكر ، فكان بقوله هذا فيلسوفا .
    وقال الذئب : انى موجود لأنى آكل وأفترس ، فأثبت ان الفلسفة ليست وقفا على الانسان .
    قلت للذئب : هلا سموت بنفسك فأشفقت على هذا المسكين ؟؟
    فقال الذئب ساخرا : هكذا يسمو الناس ، لكن ما هكذا تسمو الذئاب . ومن الذئاب ما يسكن البيوت مع الناس ومنها ما يسكن الغاب .
    ليس على الذئب فى ذلك كله لوم ولاتثريب .
    انما يقع اللوم والتثريب على صاحبنا " الخروف " الذى استمرأ ضرب المخالب واستلذ وقع الانياب ، دماؤه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة ، ويلغ الذئب فيه ويلعق وفى عينيه نظرة استسلام ورضى .
    عبثا ينبرى بقلمه كاتب ليدفع الاذى عن هذا الخروف ، وعبثا يرتقى المنبر فى سبيله خطيب ، لأن عدوان الذئب يصادف فى نفسه القبول ، فليعدل الخروف من طبيعته اولا ، وبعد ذلك فليكتب الكتاب ليدفعوا عنه العدوان وليخطب الخطباء .
    يضحكنى آنا ويحزننى آنا ان ارى أنصار الكرامة الانسانية يتصدون للذئب قائلين : اهكذا يا ذئب يكون الاخاء وتكون المساواة بين عباد الله ؟؟ ولو انصفوا لاتجهوا نحو الخروف وحقنوه بما يشيع فى عضلاته الصلابة وفى لحمه المرارة ، ليخاطب الذئب فى ثقة وايمان كلما خطر للذئب خاطر العدوان : التمس يا ذئب غيرى ان لحمى كان مرا .
    قلت للخروف : هلا أخذتك النخوة يوما فغضبت غضبة الكرام التى لاتقف عند حد اللغو والكلام ؟؟ هلا أخذتك النخوة يوما فأبيت على الذئب هذا العدوان ؟؟
    قال :كيف عرفتنى خروفا وقد تخفيت فى ثياب الرجال ؟؟
    قلت : عرفتك خروفا حين رأيتك ذات يوم وقد ارتديت بدلة من الحرير الابيض الناصع ، واخذ يرفرف على صدرك العريض رباط ملون بالأحمر والأبيض يخطف البصر بجمال ألوانه ،فتلت شاربيك ، وغطيت بالطربوش قرنيك ، وضربت الارض بحافريك ، ثم الى المقهى الفاخر أويت ، وعلى مائدة فى صدر الصفوف استويت ، وصفقت تصفيقا ارتجت له الجدران .
    _ واحد قهوة يا منولى .
    ليس من طبيعة لغتك أن تقول " واحد قهوة " ، ولو تركت لنفسك لقلت " قهوة يا منولى " ، فان اردت تحديدا عدديا قلت " قهوة واحدة يامنولى "
    لكن " منولى جاءك سيدا غازيا ، وظن بك اول الامر خيرا ، فحاول أن يخاطبك بلسانك ، ولكنه اخطا فى تركيب الكلام وترتيب الكلمات ، فانفتحت امامك بخطئه طرق ثلاثة وكان لك ان تختار لنفسك منها طريقا :
    الاول : ان تعلو بنفسك وتسفل به ، وذلك بان تصححه حين يخطئ فتضع نفسك فى موضع الذين يعلمون ، وتضعه فى موضع الذين لايعلمون ، وبالطبع هؤلاء واولئك لايستوون .
    والثانى : ان تعلو بنفسك دون أن تسفل به ، وذلك بأن تنطق بلغتك سليمة ، وله أن ينطق بها كيف شاء .
    والثالث : ان تسفل بنفسك وتعلو به ، وذلك بألا تبين له انه أخطأ حرصا على شعوره وابقاء على عزة نفسه ، لان الخطا – على اى نحو جاء – نقص وعيب ، فتخطئ انت فى كلامك ليبرأ هو من العيب والنقص .
    ولأمر ما يا خروف اخترت لنفسك هذا الطريق الثالث .
    قل فى ذلك ما شئت يا خروف ، قل انها وداعة الحملان ، او قل انه التواضع ، وان فى التواضع عند الله رفعة الشأن ، أو قل انه كرم النفس ، وليس الكرم بغريب على بنى القطعان .
    قل ما فى نفسك من ذل العبيد ، الذى يستمرئ ضرب المخاليب ، ويستلذ وقع الانياب .
    __________________

  4. #4
    آباء وأبناء
    يحكى أن جماعة من القنافذ كانت تعيش معا فى سفح الجبل ، فلما جاءها الشتاء ببرده المثلوج ، وأخذتها فى الليل رعشة تناولت منها المفاصل والعظام ، اقترح عليها واحد منها ان يجتمع شتيتها فى كومة متلاصقه حتى يدفئ بعضها بعضا بحرارة أجسادها ، لكن جماعة القنافذ لم يكد يلتصق بعضها ببعض طلبا للدفء ، حتى احس كل منها وخز الابر الحادة المسنونه التى تغطى أجساد زملائه ، فما هو الا أن افصحت كلها عن كظيم آلامها وطلبت ان تعود الى مواضعها المتفرقة ، فلذعة البرد أهون من هذا الوخز الاليم ، وعادت القنافذ فتفرقت كما كانت اول امرها ، لكنها كذلك عادت فأحست زمهرير الشتاء يهز كيانها هزا عنيفا ، وكأنما نسيت ازاء هذا البلاء ما كان من الم الوخز منذ قريب ، فصاح بعضها ببعض ينشد كلها التلاصق مرة اخرى حتى يعود لها الدفء ، وعاد وخز الابر وانساها الالم الحاضر الم الماضى ، فضجرت وتفرقت مرة اخرى وهكذا دواليك : اقتراب وابتعاد واتصال وانفصال ، الى ان قال منهم قائل حكيم : خطؤنا فى المبالغة والاسراف ، فاذا ابتعدنا أوغلنا فى البعد حتى فقد كل منا دفء اخيه وتعرض للبرد الشديد ، واذا اقتربنا أوغلنا فى القرب حتى وخز كل منا جلد اخيه فأدماه ، والحكمة هى فى اختيار الموضع الصواب بين الطرفين بحيث ننجو من الوخز دون ان نفقد دفء التقارب ما استطعنا اليه سبيلا .
    وحكاية القنافذ هذه تقفز الى ذهنى كلما سمعت بخلاف يدب بين افراد الاسرة الواحدة ، او بين جماعة من الاصدقاء .
    فكأنما اراد الله لنا الا نقع ابدا على هذا الموضع الصواب فى علاقتنا بعضنا ببعض ، بحيث يبعد كل منا عن شئون الآخرين بعدا يتيح لهؤلاء الاخرين ان يشعروا بشخصياتهم مستقلة قائمة بذاتها .
    وبحيث لايكون ذلك البعد سببا فى حرماننا من دفء العاطفة التى يستمدها بعضنا من بعض .

  5. #5
    آباء وأبناء
    يحكى أن جماعة من القنافذ كانت تعيش معا فى سفح الجبل ، فلما جاءها الشتاء ببرده المثلوج ، وأخذتها فى الليل رعشة تناولت منها المفاصل والعظام ، اقترح عليها واحد منها ان يجتمع شتيتها فى كومة متلاصقه حتى يدفئ بعضها بعضا بحرارة أجسادها ، لكن جماعة القنافذ لم يكد يلتصق بعضها ببعض طلبا للدفء ، حتى احس كل منها وخز الابر الحادة المسنونه التى تغطى أجساد زملائه ، فما هو الا أن افصحت كلها عن كظيم آلامها وطلبت ان تعود الى مواضعها المتفرقة ، فلذعة البرد أهون من هذا الوخز الاليم ، وعادت القنافذ فتفرقت كما كانت اول امرها ، لكنها كذلك عادت فأحست زمهرير الشتاء يهز كيانها هزا عنيفا ، وكأنما نسيت ازاء هذا البلاء ما كان من الم الوخز منذ قريب ، فصاح بعضها ببعض ينشد كلها التلاصق مرة اخرى حتى يعود لها الدفء ، وعاد وخز الابر وانساها الالم الحاضر الم الماضى ، فضجرت وتفرقت مرة اخرى وهكذا دواليك : اقتراب وابتعاد واتصال وانفصال ، الى ان قال منهم قائل حكيم : خطؤنا فى المبالغة والاسراف ، فاذا ابتعدنا أوغلنا فى البعد حتى فقد كل منا دفء اخيه وتعرض للبرد الشديد ، واذا اقتربنا أوغلنا فى القرب حتى وخز كل منا جلد اخيه فأدماه ، والحكمة هى فى اختيار الموضع الصواب بين الطرفين بحيث ننجو من الوخز دون ان نفقد دفء التقارب ما استطعنا اليه سبيلا .
    وحكاية القنافذ هذه تقفز الى ذهنى كلما سمعت بخلاف يدب بين افراد الاسرة الواحدة ، او بين جماعة من الاصدقاء .
    فكأنما اراد الله لنا الا نقع ابدا على هذا الموضع الصواب فى علاقتنا بعضنا ببعض ، بحيث يبعد كل منا عن شئون الآخرين بعدا يتيح لهؤلاء الاخرين ان يشعروا بشخصياتهم مستقلة قائمة بذاتها .
    وبحيث لايكون ذلك البعد سببا فى حرماننا من دفء العاطفة التى يستمدها بعضنا من بعض .


    قصاصات الزجاج

    --------------------------------------------------------------------------------

    قصاصات الزجاج

    باحدى الكنائس فى انجلترا نافذة ابدعتها يد صناع فجاءت أيه من أيات الفن الرائع تحفة للزائرين ،

    اتسقت الوانها ، واتقنت تصاويرها، وبلغت فى كل شئ حد الكمال ، ويقص عليك الدليل انه لما بنيت الكنيسه جئ لزخرفتها بفنان طبقت شهرته الخافقين فى الفن الجميل ، واستصحب الاستاذ صبيا كان يلازمه ليتلقى عنه اصول الفن ، وأخذ الاستاذ الفنان فى زخرفة النوافذ ، ورصت أمامه ألواح الزجاج ألوانها شتى ، يجذ من هذا مرة ومن ذلك مرة ، ويرشد الغلام الى قواعد الفن فى صناعته كلما وضع فى النافذة قطعة من زجاج ، فهنا مربع أزرق والى جانبه حلقة حمراء ، وصورة القديس هنا ، وهنا صورة العذراء ، وكان الاستاذ خلال ذلك يقذف بقصاصات الزجاج غير مبال بها ، فينثرها يمينا ويسارا ، والغلام من ورائه يجمع هذه القصاصات ليلقى بها حيث تؤتمن العواقب.
    لكن الغلام فنان موهوب ،فلم يلق بقصاصات الزجاج حيث تلقى سائر الفضلات، بل أخذ يلهو بها فى سويعات فراغه حتى كانت له فى النهايه نافذة رائعة بارعة هى التى يقف عندها الزائرون اليوم ليقص عليهم الدليل قصتها ، ويحكى انه لما فرغ الصبى من نافذته اطلع عليها استاذه
    سأله: ما هذا الذى ارى ؟ اجاب : نافذة صنعتها سأله : وانى لك الزجاج ؟ أجابه قصاصات جمعتها
    ورأى الاستاذ فىنافذة الغلام فنا لايقاس اليه فنه ، وكبر عليه الامر فانتحر

    ان حدث لك ياصديقى ان تقرأ هذه السطور ، فنصحى اليك الا توئسك احكام السادة الذين هم فى ارض الوطن العزيز رعاة الفن الجميل ، انهم لن لن يزهقوا ارواحهم يأسا حين يرون انفسهم صغار الفكر بالقياس الى فكرك ضئال الهمة بالقياس الى همتك كما فعل استاذ الفن مع صبيه الموهوب بل هم سيسحقونك سحقا وهم سينحرونك نحرا ليبدو قليلهم كثيرا وضحلهم غزيرا

  6. #6
    ِخبرة السنين
    --------------------------------------------------------------------------------
    ِخبرة السنين
    سئل سوفوكليز الشاعر المسرحى اليونانى مرة ، وكانت السن قد بلغت به مبلغ الشيخوخة :
    " ما موقفك الان ازاء الحب يا سوفوكليز ؟؟ الا تزال قادرا عليه ؟؟ "
    فأجاب : " صه ! نشدتك الله لا توقظه في قلبي من جديد،فكم يسعدني ان اراني قد فررت من حبائله،فاحس كأنما فررت من مستبد متوحش مجنون !! "
    فاذا جعلنا لفظة " الحب " فى هذه العبارة رمزا يشير الى العاطفة فى شتى ألوانها : من غضب شديد وحزن شديد ومقت شديد وحقد شديد وطموح شديد وحماسة شديدة ، الى آخر هذه العواطف التى يحتدم أوارها عادة فى صدور الشباب ، وتبرد نارها فى صدور الشيوخ ، ثم اذا جعلنا " سوفوكليز " فى هذه العبارة ينطق بلسان الرجل اذا تقدمت به السن ، كان لنا أن نضع السؤال والجواب السابقين فى هذه الصورة الآتية :
    - فى أى شئ جوهرى يختلف الشيوخ عن الشباب ؟
    - فى برودة العواطف بعد اشتعالها .
    وفى برودة العاطفة تتلخص خبرة السنين ، فالشيخ المجرب الذى خبر الايام وعرك الحوادث لايقف نفس الموقف الذى يقفه الشباب ازاء مشكلة بعينها ، فلا يغضب أو يحزن أو يثور حين
    يغضب الشاب أو يحزن أو يثور ، ليس الفرق بينهما اختلافا فى الذكاء ،لان علماء النفس يحدونك حديث اليقين ، بأن ذكاء المرء لايزيد بعد سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة ، وانما الذى يزيد بعد ذلك فى المرء كلما تقدمت به الاعوام ، هو الخبرة لا درجة الذكاء .
    وكذلك ليس كل الفرق بينهما هو أن خبرة بعينها يصادفها الشاب لأول مرة فى حياته ، على حين يصادفها الشيخ للمرة العاشرة أو العشرين فيكون الفرق بيتهما اختلافا فى عدد الخبرات ، مما يمكن الشيخ أن يتصرف فى كل موقف على غرار ما تصرف فى الموقف الشبيه به فيما مضى ، ولايجد الشاب فى خبراته السابقة ما يقيس عليه ، فيتخبط فى خطاه ويضل سواء السبيل .
    اقول ان الفرق بين الشيخ والشاب ، حين لايغضب الاول ويغضب الثانى ازاء موقف معين ، او لايحزن الاول ويحزن الثانى ، ليس هو اختلافا فى درجة الذكاء ، بحيث يرى الاول ما لايراه الثانى ولاهو اختلاف فى عدد الخبرات السابقة فقط ، بحيث يجد الشيخ دائما فى خبرته من السوابق ما يقيس عليه الموقف الراهن ، ولايجد الشاب فى خبرته شيئا يهتدى بضيائه ، انما الفرق الجوهرى الهام بين الشيخ والشاب ، هو برودة العواطف عند الاول ، واحتدامها فى الثانى ، وهذه البرودة هى ما نعنيه بخبرة السنين .
    ولما كان التعليم هو بمثابة اختصار الزمن فى تحصيل الخبرة التى تتطلب زمنا اطول بغير تعليم ، رأينا هذه العواطف الحادة اقل حدوثا فى المتعلم منها فى الجاهل ، وقل ذلك بعينه فى الأمم بصفة عامة ، فالأمة التى ارتفع فيها التعليم أقدر من غيرها على التخلص من هذه العواطف الشديدة على اختلاف انواعها ، أو بعبارة أخرى : بردت فيها العاطفة وازداد العقل رجحانا ، فلا تبلغ عاطفة الابوة أو عاطفة الامومة هذه الدرجة من الهوس التى نلحظها فى الامة المتأخرة ، ولايبلغ حزن الوالدين على فقيدهما ما قد يبلغه فى الامة المتأخرة من درجة الجنون ، ولاترى فيها علائم الغضب الشديد والغيرة الشديدة ،بل لا ترى فيها علائم الفرح الشديد .
    ان العاطفةالحادة كائنة ماكانت ، نوع من العربدة الخلقية ، تزداد مع الرعونة وتقل مع رجاحة التفكير ، ولعل أهم ما يؤخذ على اليونان فى تصويرهم لآلهتهم ، انهم صوروهم كائنات تنفعل بالعواطف كما ينفعل البشر ، فيضحكون ويحزنون ويحقدون ويتنافسون ويغضبون ، اما الاله فى الديانات الرشيدة فيوشك ان يكون تفكيرا خالصا لاعاطفة فيه ، واذا اراد انسان من البشر ان يعلو على سائر الناس فى مكانه ، كالملك فى الاحتفال الرسمى ، أو كالقاضى فى ساحة العدل ، خلع عن نفسه مظاهر الخفة والطرب والحزن زالغضب وما الى ذلك ، وبدا للناس كأنما هو كائن بغير عاطفة .
    التخلص من العاطفة الحادة هو – كما قال سوفوكليز " فرار من مستبد متوحش مجنون " :
    فأنت مستبد برأيك اذا سيرتك العاطفة استبدادا يستحيل معه الوصول مع خصمك الى اتفاق .
    وأنت متوحش اذا احتكمت الى عواطفك فى حكمك على الناس الاشياء لانك عندئذ ستحب هذا وستكره ذاك على غير اساس الا مايبنى عليه الحيوان الاعجم حبه وكراهيته .
    وانت مجنون حين تمسك العاطفة بزمامك ، لأن الجنون هو أن تأخذ بما فى رأسك من اوهام ، متحديا بذلك الواقع المحسوس .
    انها خبرة السنين

  7. #7
    --------------------------------------------------------------------------------
    البرتقالة الرخيصة
    لم اكد افرغ من طعام الغداء حتى جاءنى الخادم بطبق فيه برتقالة وسكين فرفعت السكين وهممت أن أحز البرتقالة ، ولكنى اعدتها ، وأخذت أدير البرتقالة فى قبضت وأنظر اليها نظرة الاعجاب ، فقد راعنى اذ ذاك لونها البديع وجمالها الخلاب ، وشممت لها اريجا طيبا هادئا ، ولمحت فى استدارتها ومسامها نضارة عجيبة ،فأشفقت عليها من التقطيع والتشريح ،ثم نظرت الى خادمى ، وقلت مبتسما : لعل برتقالة اليوم يا سليمان لايكون بها من العطب ما كان بتفاحة الامس ؟
    فقال : كلا يا سيدى فلن يكون ذلك قط ،فان من خلال البرتقال يتميز بها عن سائر ألوان الفاكهة ان العطب يبدأ من خارجه لامن داخله ، فان وجدت قشور البرتقالة سليمة فكن على يقين جازم بأن لبابها سليم كذلك ،
    فالبرتقالة أمينة صادقة لاتخفى بسلامة ظاهرها خبث باطنها ، ولاكذلك التفاحة ،التى قد تبدى لك ظاهرا نضرا لامعا ،فاذا ما شققت جوفه ألفيته أحيانا مباءة يضطرب فيها أخبث الدود !
    فقلت : تلك والله يا سليمان خلة للبرتقال لم أكن اعلمها من قبل ، ولكنى أتبين الان انها حق لاريب فيه ، وانه بهذه الخلة وحدها لجدير من بائع الفاكهة ان يرصه فى صناديقه الزجاجية ،وان يلفه بغلاف من ورق شفاف حرصا على هذه النفس الكريمة ان تستذل وتهان فى المقاطف والاقفاص ،فهو لعمرى بهذه العناية أجدر من التفاح الخادع ............
    وماذا تعلم يا سليمان من صفات البرتقال ؟؟؟؟؟
    فقال :انها لتشبع الحواس جميعا ، فهى بهجة للعين بلونها ، وهى متعة للأنف بأريجها ، ولذة للذوق بطعمها ، ثم هى بعد ذلك راحة للأيدى حين تديرها وتدحرجها كما تفعل يا سيدى الان ، وقد لبست البرتقالة معطفا من جلد جميل ، فاذا ما انتهيت من اكلها نضت عن نفسها ذلك العطاف الذى لامسته الأيدى ، لتبدو لصاحبها بكرا لم تفسدها جراثيم السوء والمرض ، وهى فوق ذلك كله لم تنس ان تحنو بفضلها على الفلاح المسكين ، لأنها قررت منذ زمن بعيد ان تمنحه جلدها ليملحه فيأكله طعاما شهيا ،وليس بالقليل ان يطفر زارع البرتقال بقشوره مادام الساة قد نعموا باللباب ، فهو اعتراف بالجميل محمود على كل حال .
    قلت : أفبعد هذا كله يستخف بقدرها الفكاهانى ن فيقذف بها قذفا مهملا فى الاوعيه والسلال ؟ !! افبعد هذا كله تقوم البرتقالة فى سوق الفاكهة بمليمين ، وتقدر التفاحة بالقروش ؟؟؟؟ !!!!
    تالله لو كنت موزع الارزاق على هذه الفاكهة لغيرت معايير التقويم وقلبتها رأسا على عقب ، فابيع هذا البرتقال الجيد بالوزن والثمن الكثير ، والتفاح بالعدد والثمن البخس الرخيص ، فلست ادرى لماذا لايكون اساس التقويم ما تبديه الفاكهة من جودة واخلاص .
    .................................................. ........................
    من موضوع البرتقالة الرخيصة من كتاب قصاقيص الزجاج
    --------------------------------------------------------------------------------
    الكوميديا الارضية ( الجزء الاول
    )
    يحكى ان شاعرا كان اسمه "دانتى " ، عاش فى قديم الزمان وسالف العصر والاوان ،قد كتب قصيدة طويلة عظيمة أسماها له الناس من بعده " الكوميديا الالهية " طاف فيها بصحبة استاذ له قديم من الشعراء الاولين ، هو ( فرجيل ) طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الاثمين وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب اليم .
    ثم شاء الله – ولا راد المشيئة الله اذا شاء – أن يبعث " دانتى " حيا شاعرا كما كان ، وأن يبعث معه (فرجيل ) دليلا هاديا كما كان ايضا ، وعادت لدانتى شهوته القديمة فى وصف الاهوال ، فكان ان زار بلدا يقال عنه انه بلد العجائب ، حتى اذا ما رجع الى بلاده عمد توا الى ما كان قد كتبه فى حياته الاولى ، وادخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث ، مستفيدا بما علمته التجربة فى بلد العجائب ، وادراكا منه بأن الشاعر الحق لامندوحة له عن مسايرة الزمن ، لكن هذه المرة أطلق العنوان بنفسه على قصيدته ، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة ، كما قد فعل اول مرة ، ثم اختار عبارة " الكوميديا الاضية " .......... عنوانا لقصيدته الجديدة .
    وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم فى الكوميديا الاضية كما كتبها الشاعر القديم الحديث .
    يقص علينا " دانتى " كيف سار فى صحبة دليله " فرجيل " حتى بلغا باب الجحيم الارضى ، فقرأ على قمة الباب هذه الاسطر الاتية مكتوبة بماء الذهب " ادخلوا الى مدينة الاحزان ، ادخلوا الى ارض العذاب ، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل الى ابد الابدين ، فيأبها الداخلون انفضوا عن انفسكم - عند مدخلى – كل رجاء .
    ويدخل الرجلان فاذا بالجحيم هوة سحيقة فى هيئة واد طويل مديد ، رأسه عند مركز الارض وقدمه على حافة البحر ، وجوانبه مدرجة درجات عراضا ، وعلى هذا الدرج حشر الاثمون ، ولايكاد الشاعران يدخلان ابواب الجحيم حتى يبلغا نهرا يسمى بنهر الاسف والاسى ، وعلى شطه الفيا نفرا يريد العبور الى الشاطئ الاخر ، وكان العبور تحت اشراف حارس فظيع بشع يجذب الناس جذبا قاسيا عنيفا ، وعيناه تدوران فى راسه كأنهما حلقتان من نار ، فلا يحتمل دانتى هذا المشهد الرهيب ، ويسقط فى اغماءة لايفيق منها الا على صوت رعد يقصف قصفا شديدا ، وعندئذ يعلم انه وزميله قد عبرا نهر الاسف والاسى ، حيث انتهى بهما العبور الى اولى حلقات الجحيم ، وها هنا وجدا عبدة المبادئ الذين انهكوا قواهم واضاعوا حيواتهم فى سبيل مبادئهم ، ولذلك فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس ، واخذت تلدغهم الزنابير فى وجوههم واعناقهم ، فيصيحون من الالم ، ولايعرفون الى الطمأنينة والراحة سبيلا .
    ويجتاز الشاعران هذه المرحلة ليجدا امامهما فريقا من الآثمين المجرمين ، وهو فريق أولئك الذين شغلتهم فى الدنيا عقولهم عن اشباع شهوات اجسادهم ، فعصفت بهم ريح شديدة فاخذتهم الراجفة كانهم الكراكى فى العاصفة ، وهنا يقول دانتى : " ها هنا بدأت اسمع صيحات الحزن والاسى ،فها هنا قد اتيت ال حيث الانات الشاكيات ، تقرع أذنى فتؤذيها ، اذ ها هنا أتيت الى مكان خفت فيه الضوء وزمجرت رياح عواصف ، كأنه البحر مزقته العاصفة برياحها الهوج ، وهبت فى جنبات الجحيم رياح عاتيه اخذت فى صورة الغضب تسوق امامها هؤلاء الاثمين سوقا فتدور بأجسادهم حتى الدوار ، وتدفعهم دفعا موجعا ........
    __________________
    الكوميديا الارضية (الجزء الثانى
    )
    وهنا سقط شاعرنا دانتى فى اغماءة اخرى ، لانه رقيق الحس كسائر الشعراء ، حتى اذا ما أفاق الفى نفسه فى الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم – فى هذه الحلقه الثالثة اعد العقاب على من عف فلم يلحف فى السؤال عن حقه لدى اصحاب السلطان ، قشاهد الشاعران أولئك الخائبين الخاسرين وهم يتمرغون فى حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع ، بينما وقف صف من كلاب وحشية تنبح فى وجوههم وتعوى وتمزق جلودهم تمزيقا بأنيابها ومخالبها .
    وبعدئذ سار الشاعران الى حيث الحلقة الرابعة من حلقات الجحيم ، فوجدا جماعة كانت تشتغل بلاصلاح فتفسد على غيرهم نعاسهم وأحلامهم ولذلك حقت عليهم اللعنة ونزل العقاب ، فرآهم الزائرون هناك يدحرجون جلاميد صخر عاتيات فى اتجاهين منقابلين ، ثم لا تلبث جلاميدهم ان يصدم بعضها بعضا ، ويعود كل جلمود كما كان اول أمره ، فينفجر الاشقياء المجرمون بالغضب من كثرة ما نالهم من نصيب واعياء ، ويلعن فريق منهم فريقا ، لان كل فريق يعتقد ان الفريق الثانى هو الذى اتلف عليه ما صنع .
    وينتقل الزائران الى الحلقة الخامسة من حلقات الجحيم ، وقد خصصت لمن اخذ زمانه بالدقة فلا يؤخر موعدا ولا يؤجل عملا الى غد ، ويغضب ويحزن اذا ما رأى من المستهتر تراخيا وتفريطا – كان هؤلاء المغفلون يسكنون فى الجحيم قاع بحيرة من وحل .
    يتنهدون فتنتفخ على سطح البحيرة فقاقيع لا تلبث ان تنفجر ، وقد قال منهم قائل حين احس مرور الشاعرين الى جانب البحيرة : " كنا ذات يوم حزانا على الفوضى الضاربة فى ارجاء البلاد . كنا رغم الهواء الحلو الذى كانت تبهجه اشعة الشمس ، نحمل فى اجوافنا نفوسا مظلمة وضبابا ثقيلا ، لذلك حق علينا الحزن فى هذا المكان القاتم "
    وبعدئذ وصل الشاعران الى مكان الحلقة السادسة حيث ابصرا خلال الضباب الكثيف ابراجا وقبابا متوهجة بالسنة اللهب فقيل لهم ان هذا مدخل مدينة الشيطان ، وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة ابوابها ، ويدخل الرجلان بابا فاذا هما يشهدان سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء تتأجج فى كل منها تلتهمه لأن صاحبه كان حرا فى رأيه يعلنه كيف شاء ، فحقت عليهم جميعا هذه الفضيحة المنكرة لجرأتهم الشنعاء .
    وبلغ الرحلان حدود الحلقة السابعة من حلقات الجحيم فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب ، حتى انتهيا الى نهر من دماء وقف فى لجحه اولئك الحمقى الذين كانوا يتورعون فى حياتهم عن اعتراك الاحزاب السياسية ، ويقفون فى ركن هادئ يفكرون ، أو يمضون فى سبيلهم الجاد ينشئون ويعملون .
    وكانت الحلقة السابعة ذات شقين ، فدخل الشاعران شقها الثانى ، وابصرا فريقا آخر من المغفلين الذين اخذتهم الغيرة فى سبيل الضعفاء والمرضى والمعوزين ، فهؤلاء قد انقلبوا فى الجحيم ،، اشجارا جافة قصيرة ، تتدلى منها ثمار مسمومة ، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصب من جسم مجروح وذلك جزاء ما احدثوه من قلق فى نفوس كانت آمنة مطمئنة.
    __________________


    الكوميديا الارضية ( الجزء الثالث )

    --------------------------------------------------------------------------------

    الكوميديا الارضية ( الجزء الثالث
    )

    وفى الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم حشدت طائفة اولئك الذين كانوا لايرائون ولا ينافقون فى عالم خلق للرياء والنفاق ، فحق على هؤلاء الكفار عقاب شديد ، اذ غمسوا فى حفرة ملئت بقار يغلى ، وقد يحدث الفينة بعد الفينة ان يعلو الاثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم ، ثم يختفى فى سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف .
    فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها ، لايبدو فوق الماء منها غير خياشيمها ، كذلك وقف هؤلاء الاثمون فى لجة القار ، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت الموج .

    وقد شهد " دانتى " هنالك مشهدا رهيبا ، اذ شهد أحد الجناة يطفو ويطيل الظهور على سطح القار بعض الشئ ، فجأه الحارس وأمسك بخصلات شعره وجذبها جذبا شديدا ، ثم القى به فى عنف طريحا حتى بدا له كانه كلب من كلاب الماء .
    وفى الحلقة التاسعة حشر اولئك المجانين الافدام البلهاء الذين استنصحوا فى حياتهم فنصحوا بالحق ، فكل فرد من هؤلاء قد البسوه هناك قلنسوة ثقيلة من رصاص زخرفوه له بالذهب ، وكلما ثقلت القلنسوه على رأس الذنب حتى مال عنقه الى صدره ، الهبه الحارس بسوطه على ظهره ، قائلا له : اعتدل فان على رأسك طلاء من ذهب هو علامة الصدق فى القول والاخلاص فى العمل .

    وفى الحلقة العاشرة والاخيرة من حلقات الجحيم ، شهد الشاعران – وياهول ما شهدا – شهدا فريقا من الناس اتوا فى حياتهم امرا ادا ، واقترفوا جريمة هيهات ان تجدا لها عند الله غفرانا ، هؤلاء هم الذين لم يتشفعوا بشفيع او يتوسطوا بوسيط وعملوا فى صمت ، مع ان اله قد اراد لهم ان يصيحوا ويملأوا الدنيا جلبة كلما خطوا خطوة او نطقوا كلمة .
    فكان جزاؤهم فى جهنم ان ينزلوا فى قاع الجحيم ، وهو بحر من ثلوج تبدو فيه اشباح المعذبين كأنما هى ذباب يضطرب فى وعاء من البلور ، وكتب عليهم هناك ان يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع كما تفعل الكلاب الجائعة ، فهذا جزاء من يعمل صامتا معتمدا على نفسه ، فلماذا خلق الله للناس آذانا اذا لم يسمعوا بها صياح الصائحين ، ولماذا خلق لهم قلوبا اذا لم ترق لشفاعة المتشفعين ؟؟
    وكانت الكروب عندئذ قد اضاقت صدر " دانتى " وطلب من دليله ان يسرع به الى حيث الفردوس ونعيمه .
    فما هو الا ان وجد مركبة مغطاة بالزهر ، حماته مع زميله بين مروج من الخضرة اليانعة والقصور الشامخة والاكل الطيب وطمأنينة النفس وراحة البال .......... فها هنا يقيم من رضى عنهم الله من المنافقين اصحاب الشهوة المسعورة والكذب المبين والخداع والرياء .
    وأفاق " دانتى " وهمس لزميله فرحا مستبشرا ، فقال : ادع لنا الله ان يهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين انعم عليهم بهذا النعيم .


    عن منتديات العز-حورية البحر

المواضيع المتشابهه

  1. ماريز كوندي تنال جائزة بديلة عن نوبل 2018
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى أسماء لامعة في سطور
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-12-2018, 04:28 PM
  2. الشيخ العبيكان يحصل على جائزة نوبل
    بواسطة ذيبان في المنتدى فرسان المآثر والمنجزات.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-07-2011, 10:16 AM
  3. جائزة نوبل الأدب العربى
    بواسطة يحيي هاشم في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-29-2006, 05:29 PM
  4. تاريخ جائزة نوبل
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-11-2006, 02:42 PM
  5. وفاة الأديب العالمي الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الأخبار.
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-31-2006, 08:50 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •