شقاء السعادة
(1)
كان من ينظر الى الرجال الستة الذين يحيطون بموقد أخذ موقعه في الطرف القريب من باب الغرفة القديمة، يُهيئ إليه أنه يشاهد تمريناً لعرض تمثيلية استوحت شخصياتها من رواية البؤساء.
وُضع في الموقد بعض مخلفات الحيوانات المجففة والمخلوطة بالتبن، وبعض أعوادٍ من أطراف أعشاب لم تجف تماماً.
كان الدخان الصاعد من الموقد يتوزع على وجوه الجالسين، قبل أن يكمل طريقه ليستقر على خيوط عنكبوت قرب زوايا الغرفة المتصلة في السقف المصنوع من أعواد القصب.
لم يكن من السهل التعرف على ملامح وجوه الرجال، ولا على بدانتهم أو نحافتهم، فقد كان سوء الإضاءة المتحالف مع الدخان المخيم في أجواء الغرفة كفيلاً لإعاقة مهمة التعرف على وجوه الرجال، الذين كانوا يشبهون خلفيات لوحة لرسام إيطالي في العصور الوسطى.
لم تختلف آثار القحط التي تبدو على الرجال عنها عند الأغنام، ففي المواسم التي يكون فيها الغذاء متوفراً، فإن أوزان الأغنام ستزيد، وعندما لا يتوفر الغذاء فإنها ستهزل، ولا يستطيع أحدٌ التعرف على ذلك في ندرة الضوء الكافي، إلا إذا حمل الكبش بين يديه للتعرف على وزنه، خصوصا، إذا تُرك صوفه عليه دون قص ليمنع عنه برد الشتاء القارص.
ارتدى أبو سعفان معطفاً عسكرياً قديماً، ربما كان لأحد مساعدي الجنرال اللنبي، وقد فقد لونه الأصلي وبريق أزراره التي كان كبار الضباط يحرصون على تلميعها لإبراز إحداثيات انتصابهم في ساحات الاستعراض. فيما كان صاحب الدار (أبو صابر) يضع على كتفيه شيئاً ثقيلاً مكوناً من أكثر من عشرة جلود لخراف بألوان مختلفة، كانت مهارة صانعها تنحصر فقط بربط تلك الجلود ببعضها، فلم يهتم بما سيكون شكل ذلك الشيء، وكان يغطي تلك الجلود بقماش داكن سميك، لا يمكن إعطاءه أي لون مصنف.
كانت ألوان ملابس الرجال الستة متقاربة، رغم أنها كانت تختلف عند بداية صنع نسيجها، فقلة تنظيفها بشكل جيد مع آثار الأدخنة تجعلها متشابهة، وحتى عند غسلها فإن مادة التنظيف كانت من آبار الجمع بالإضافة لبعض الرماد المحترق ليطرد أفراخ البراغيث والقمل، فليس هناك أثر من إزالة آثار الدخان بأحد مخلفات الحريق.
(2)
مضت ثلاث سنين، ولم ينعم الفلاحون بموسم خير يحقق لهم السعادة والرضا، وكان أبو سعفان قد كشف سقوف ثلاث من غرفه المتواضعة، ليستخرج التبن الذي يعتلي عيدان القصب والذي كان مغطى بطبقة من الطين يتم تجديدها سنوياً حتى لا تتسرب مياه الأمطار من خلال مواضع جذور النباتات التي تنمو على السطوح حيث كانت تختبئ في تربة الطين، ليطعم ذلك التبن لحيواناته المنزلية.
لم يرى أبو سعفان فائدة من إبراز شكواه لأصدقائه، فهم يعيشون أوضاعاً تتساوى في كل شيء مع أوضاعه، لكنه كما هم، لا بُد لهم من أن يتفننوا في التغلب على رتابة الوقت والضجر، بالصبر والسكون، وقد تكون تلك الخبرات قد اكتسبت لتقنين صرف الطاقة، فالسكون لا يحتاج لحرق حرارة غير متوفرة مصادرها بالغذاء المتواضع الذي كانوا يتناولونه.
حتى كلامهم كان قليلاً، ففترات الصمت كانت تزيد على فترات الكلام، ونبرات أصواتهم إن تكلموا، كانت همهمة خفيضة، فالصوت أيضاً يستدعي صرف طاقة.
قلب أبو سعفان يديه، ونبس بكلمة، كاد هو ألا يسمعها، كان يريد من أحدهم أن يسأله عما يجول في خاطره. لكن ذلك لم يحدث، فكل الرجال يرمون رؤوسهم الى الأسفل أو الى مركز الموقد، الذي تلاشى بريق الجمر فيه منذ وقت، فكان كل واحد منهم يتتبع حالة الانطفاء الكامل لتلك الجمرات، ويبقي نظره مركزا عليها عل نارها تُبعث من جديد.
(3)
دخل صابر على الرجال، وألقى تحيته بصوت منخفض، وجلس دون أن يهتم إن كان أحدٌ من الجالسين قد رد التحية، رغم أنهم ردوا كلهم، فقد كانوا بحاجة ماسة لكسر فترات الصمت الطويلة.
كان صابر يعلم حالة والده وأهل قريته، فلم يتذمر عندما طلب منه والده عدم السفر للالتحاق بجامعته في بلد عربي، والتي كان قد أمضى سنتين فيها.
تأمل صابر في وضع الرجال، وتمنى لو أن العلم يستطيع جلب الأمطار ليسعد والده وأصدقاء والده بنزوله.
تذكر صابر نمط الحياة في البلاد التي يدرس بها وقارنه بنمط حياة أهل قريته، وتساءل من هم أكثر سعادة؟ أو من هم أكثر تعاسة في النمطين؟
كانت جداول طلبات حياة الفرد بالمدينة أطول بكثير من جداول طلبات حياة الفرد في قريته، ولكنه حاول إسقاط ما تعلمه في الرياضيات على تلك المقارنة، فقال ألف على ألف يساوي واحد وعشرة على عشرة يساوي واحد وواحد على واحد يساوي واحد.
فإن كانت طلبات ابن المدينة مئة طلب وحقق منها ستين طلباً فسعادته تساوي ستة أعشار السعادة، وإن كانت طلبات ابن القرية عشرة طلبات وحقق منها سبعة فسعادته أكثر من سعادة ابن المدينة.
ابتسم في سره، وقال: إن لهؤلاء الرجال طلب واحد وهو نزول المطر، فإن تحقق لهم ذلك ستكون سعادتهم مائة بالمائة.