أشعر بثقل الكلمات وبرودة الجسد رغم ارتفاع درجات الحرارة.. فكان من الصعب الحديث أو الكتابة فالأمر أكثر بكثير من دموع تنهمر أو حتى أصوات تعلو بالوداع.. وليس أي وداع.. فهو وداع بكى فيه البشر والشجر والحجر.. كان الأمر رهيبًا في وداعك يا طارق.. لقد بكت والدتك وأبكت غزة برحيلك.. ماذا أكتب؟.. ماذا أقول في رحيلك وأنت كنت تحمل أمنيات الأطفال بأن يكون والدك بجوارك وتحتضنه وتتلمس بأناملك الصغيرة ملامح وجهه التي غيبها عنك الاحتلال بسنوات عمرك التي لم تتجاوز التاسعة بعد؟.. قبل أوقات قصيرة من رحيلك كنت تصرخ بصوت الطفولة المحرومة من والدها الأسير (أحمد السكني) وتقول: "أريد أبي.. أريد أبي.. يا عالم استيقظوا".. رحلت وكان رحيلك واحتضان التراب لك أقرب بكثير من احتضان والدك الأسير.. حكاية يصعب الحديث بها، جمع "المركز الفلسطيني للإعلام" حروفها التي اعتصرت القلب ألمًا لا يشفي جرحه إلا الله تعالى.
أريد أبي"أريد أبي .. أريد أبي .." هذه الكلمات التي كانت دائمًا يرددها قلب طفولة طارق أحمد السكني (9 أعوام)، وهو يعد الساعات والأيام والسنوات حتى يحتضن والده, فكان يحلم برؤية والده يداعب طفولتها البريئة.. كم تمنى أن يحمل شهادة تفوقه المدرسية ويكون والده أول من يستقبله بالحلوى والألعاب.. كم تمنى أن يشتري له والده فانوس رمضان.. كم تمنى أن يصطحبه والده لشراء ملابس العيد والذهاب في نزهة تتشابك به أنامله الصغيرة مع أنامل والديه.. كثيرة هي الأمنيات التي صرخ بها قلب طارق وهو يقول: "يا عالم استيقظوا أريد أبي".
كان طارق مثله مثل المئات من أطفال الأسرى يرتدي قبعته وقميصه الأبيض وقد كتب عليه مخيم أبناء الأسرى, وهو يقف في اعتصام أهالي الأسرى بمدينة غزة ليكون صاحب كلمة المؤتمر الذي تحدث بمشاعره وقلبه وجوارحه حينما أخذ يقول: "أيها العالم النائم.. هنالك قطعة من هذا العالم تسمى فلسطين.. فبأي حق يستيقظ أطفال فلسطين بدون أن يرى الأطفال والدهم؟.. بأي حق يحرم الطفل من والده؟.. أبي ليس مجرمًا ولا قاتلاً.. وليس خائنًا، لكن يقبع خلف زنزانة لا يرى بها الضوء ولا تصح إلا للقتلة والمجرمين.. أيها العالم أين الضمير؟.. أين حقوق الإنسان.. أطالب العالم بالوقوف أمام العدو ووقف الاعتقالات الظالمة.. أريد أبي.. أريد أن أسمع صوته"، وبعد كلمته أخذ يردد: "كلنا فداء فلسطين".
وداع طارقوما هي إلا حركات لأوقات قصيرة تحركت بها عقارب الساعة, حتى جاء خبر يحمل دماء طفولة طارق الذي رحل بجسده الصغير وبأحلامه بأن يحتضن والده, حينما اصطدمت حافلة المخيم الصيفي لأطفال الأسرى في حادث سير أدى إلى ارتقائه سريعًا, ليودع العالم بسرعة, بعد أن صمت صوته وصراخه وهو يتمنى رؤية والده.
هذا الخبر كان من الصعب أن تتلقاه والدته التي عاشت سنوات تنتظر زوجها مع طفلها، فاليوم تودع طفلها الوحيد الذي كان يؤنس وحدتها، والحال نفسه حينما تلقى والده الأسير خبر وفاة طفله ليودعه بكلمات أبكت الحجر والشجر والبشر, حينما أخذ يردد على من حوله من الأسرى: "رحل عني مبكرًا.. كنت أتمنى أن أعيش معه ولو ليوم واحد.. كنت أتمنى اصطحابه لشراء ملابس العيد كباقي الأطفال.. الاحتلال منعني طوال اعتقالي أن أشم رائحة جسده لأتذكرها.. كل ما أملك من طارق صورة دخلت إلي عبر السجان, وكلمة شوق ترن في أذني عند أول لقاء لم يتكرر إلا مرة واحدة طوال 9 سنوات".
وأخذ يتابع كلمات الوداع: "طارق ملاكي الوحيد يا أحباب.. طارق الحبيب القريب والبعيد.. والغائب الذي لا يغيب، ورغم أن الدهر أكل من حياتي إلا أني كنت في غمرة الفرح وأنا أحمل صورته لكم لأعرفكم عليه، كنت أقول طفلي طارق أجمل مخلوق على وجه الأرض، وأشعر به كنسمة الربيع الرقيقة برحيق عطره وخفته، فهو بسمتي البريئة الجميلة وسط العذابات، والكلمة الرقيقة بين الآهات، وطلعة بدر في ظلام حالك، وزهرة رقيقة بين الأشواك، وأهون علي أن أحمل كل المرض وأمضى عمري في السجون, على أن لا يمسه سوء, فكيف بخبر موت وإلى الأبد؟!".
وأضاف في كلمات قلبه: "طارق وحيدي وأملي ومستقبلي, وحامى بيتي وسند أمه في غيابي وسجني.. وكنت أحلم بلحظة الإفراج عني لضمك بين ذراعي وأحضنك بين أضلعي وأقبلك... ما أثقل هذا اليوم يا أحبة، هذه فاجعة لم أتصورها ولم أتوقعها، فمنذ سماع الخبر وأنا أشعر بدوخان في رأسي, وأتذكر كل جزئيات ملامح ابني، كشريط مرّ كفيلم من الذكريات فى ثوان معدودة".
وأخذ يردد على من حوله من الأسرى:" الحمد لله .. لله ما أعطى ولله ما أخذ.. حسبي الله ونعم الوكيل.. إنا لله وإنا إليه راجعون".
بكى أحمد على فراق ابنه الوحيد القريب الحبيب، وأبكى الرجال من حوله وهو يتذكر كلمات ابنه طارق على إذاعة الأسرى في برنامج على جناح الطير: "سأحضنك يا والدي عند حريتك, ولن أنفك عنك حتى أشبع منك، فإلى لقاء قريب" ليجيب والده اليوم: "متى يوم اللقاء يا طارق؟ كنت مثلك أتصور كيف سأحضنك يوم حريتي وأول لقاء خارج السجن بك، ولكن حقيقة لا يعرف العشاق أين سيلتقون، أتمنى أن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. آمين".