جوهر الإنسان العميق
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
يقول درس التاريخ إن في أعماق الإنسان جوهراً أصيلاً بعيداً لا تطاله كل قوى الإرهاب في الأرض..
ربما يغيب هذا الجوهر طويلاً في ظروف القهر والإرهاب أو تحت حجب كثيفة من الانحراف والانحلال واتباع الشهوات والركون إلى ملذات الدنيا لكنه يظل كامناً في الأعماق..
وفي لحظة تاريخية يكتشف فيها الإنسان جوهره ينفض عن نفسه ركام الأغبرة والحجب ويتجلى جوهره العميق الذي هو أجمل ما فيه بل هو سر إنسانيته، فيحطم كل الأصنام والأوثان ويحقق كلمة الله فيه ويجسد أروع آيات البذل والعطاء فتحتار قوى البغي: أين كان كل هذا القدر من التمرد والثورة مختبئاً!!..
إنهم حمقى لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا لذا فهم لا يؤمنون بالإنسان..
لو كانوا يؤمنون بالإنسان حقاً لعلموا أن هذه الثورة لا تزيد عن كونها تعبيراً عن أحق حقائق الإنسانية، تلك الحقيقة التي تستعصي على المحو والاندثار، ولأدركوا أن كل وسائل الترهيب والإكراه التي أنفقوا عليها أموالهم غدت عليهم حسرةً، وأن مكر الليل والنهار وإن كانت لتزول منه الجبال ما هو إلا أوهن من بيت العنكبوت وأضعف من أن يمس هذا الجوهر العميق..
إن هذا الجوهر الإنساني العميق يظهر في اختيار الإنسان وحريته المقدسة، فلا سلطان لأحد عليه حتى الشيطان لا يملك أن ينفذ إلى هذا الجوهر العميق "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين"..
ربما تستطيع قوى الأرض أن تلحق بالإنسان الأذى والضرر وأن تخوفه وأن تكبت حريته، لكنها لا تستطيع أن تقتل جوهره الذي هو سر إنسانيته لأن ذلك الجوهر متصل بالله مباشرةً فهو نفخة من روح الإله "ونفخت فيه من روحي"..
إن أحداً كائناً من كان لا يملك أن يكره إنساناً على الإيمان بما لا يقتنع به أو على الكفر بما قد آمن به ولو استعمل كل أدوات القهر والإرهاب فهذا خارج قدرة البشر "لا إكراه في الدين"..
لقد ظهر هذا الجوهر العميق في سحرة فرعون رغم طول سنوات الذل والعبودية التي عاشوها تحت حكم فرعون حتى بلغ تطويعهم إلى درجة شراء ذممهم بهباته وعطاياه "أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين"، لكن في لحظة صدق مع الذات تجلى الجوهر الكامن في أعماقهم ففاجأوا فرعون بتحول جذري لم يكن يخطر على باله: "آمنا برب موسى وهارون"، وحين تذوقوا حلاوة الإيمان لم يعودوا يبالوا بكل صنوف العذاب التي طالما أرهبهم فرعون بها: "فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا"..
ظهر هذا الجوهر العميق في بلال بن رباح حين اكتشف ذاته فتحرر من أغلال العبودية التي كان يرزح فيها وصرخ في وجه الطاغوت صرخته الخالدة التي سجلها التاريخ "أحد أحد" غير مبال بلهب السياط في رمضاء الصحراء..
ظهر هذا الجوهر العميق في الشعوب العربية حين نزلت فجأةً إلى الميادين من حيث لم يحتسب الطاغوت محطمةً أصنام الخوف والعبودية ومتمردةً على ذل العقود وهي تصدع بكلمة حق في وجه سلطان جائر بعد أن بدا أنه قد تودع منها وأنها شبعت موتاً..
ظهر هذا الجوهر العميق في شعب سوريا الذي ظننا في حقبة تاريخية سوداء أنه استمرأ الذل والمهانة بعد أن غاب كل صوت صادع بكلمة الحق في وجه جور السلطان، فإذا بالحياة تدب فيه من بعد الموت ويفاجئنا بأروع آيات الفداء والتضحية مما تعجز قوانين المادة عن فهمه وتفسيره..
إنها آية الله في بعث الموتى وفي انتصار بذرة الحياة الكامنة على مظاهر الموت المنتفشة "إن الذي أحياها لمحيي الموتى"..
وما شهدناه في مصر وسوريا وغيرها ستشهده كل أرض فيها ظلم حيث البذرة كامنة في نفوس الشعوب لا تغلب أو تقهر، بل سيشهده العالم بأسره حين يتحرر من هيمنة قوى الاستكبار العالمية التي عاثت في هذا الكوكب فساداً وسفكاً للدماء..
أيها المخلصون: لا تغرنكم مظاهر الفساد والانحلال التي تعم العالم فتفقدوا الأمل وتيأسوا من روح الله..
إنها قشور تخفي في طياتها جنين ثورة وتحرر، وحين تحين اللحظة التاريخية المناسبة سوف تفاجئكم هذه الشعوب فيخرج منها خير كثير، وسترون من عصاة اليوم من يجسد بطولة سحرة فرعون في مواجهة الظلم والاستكبار..
أما أنتم أيها الظالمون فلا يغرنكم صمت الإنسان فهو صمت خادع سيتبدد، وسيحقق هذا المخلوق يوماً ما كلمة الله فيه فيحطم الأصنام ويقيم كلمة التوحيد حيث لا يتخذ الناس بعضهم أرباب بعض من دون الله، بل تكون كلمة العدل والسواء، وتسقط كل امبراطوريات الشر والإفساد ومشاريع الهيمنة والاستعلاء في الأرض ونهب الثروات فلا تكون إلا دولة الإنسان التي يتجسد فيها العدل والحق والحرية..
أنى لنفخة الروح الإلهية المغروسة في فطرة الإنسان أن تقهر أو تغلب!!
والله غالب على أمره..
https://www.facebook.com/ahmedaburtema