ٱخر الفرسان.
الشيخ المجاهد مجدد الاسلام الذي وقف في وجه اتاتورك ورفاقه مدافعاً عن دين الله ... حتي في وفاته وضاقوا به ميتاً فنبشوا قبره ودفنوه في مكان لا يعرفه أحد !!..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو نسيج وحده يجمع في سر أسراره روح الإمام الغزالي في تجديد علوم الدين وبطولة صلاح الدين في قهر غارات الصليبيين الجدد وعبقرية الشيخ عبدالقادر الكيلاني في تصنيع الرجال الأخيار وسحر جلال الدين الرومي في إظهار حقائق المعجزة المعنوية للبلاغة القرآنية وحكمة الإمام أحمد الفاروقي السرهندي في خطوات الدعوة وسياستها الشرعية البعيدة النظر.
انه الشيخ المجاهد العالم العامل بديع الزمان النورسي هو من هو علماً ومكانة في تاريخ تركيا الحديثة التي شهدت وما تزال تشهد تطورات خطيرة منذ بداية القرن العشرين وما تزال آثاره حتى الآن يتفاعل بها المجتمع التركي المعاصر الذي يلقى الألاقي في عهود العلمانية والعلمانيين الذين انسلخوا من دينهم وحاربوا شعوبهم في عقيدتهم وقيمهم وأخلاقهم.
ولد سعيد النورسي الملقب بـ بديع الزمان في قرية نورس الواقعة شرقي الأناضول في تركيا عام 1294هـ - 1877م مع أبوين صالحين كانا مضرب المثل في التقوى والورع والصلاح ..
وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أن تبحر في العلوم العقلية والنقلية بجهده الشخصي فقد حفظ عن ظهر غيب ثمانين كتاباً من أمهات الكتب العربية كما حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته الخصبة الحافلة.
وفي عام 1894 تناهى إلى سمعه أن وزير المستعمرات البريطاني غلادستون وقف في مجلس العموم البريطاني وهو يحمل المصحف الشريف بيده ويهزه في وجوه النواب الإنكليز
ويقول لهم بأعلى صوته ما دام هذا الكتاب موجوداً فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان.
لذا لا بد لنا من أن نعمل على إزالته من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به.
فصرخ العالم الشاب سعيد النورسي من أعماقه لأبرهنن للعالم أجمع بأن القرآن العظيم شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها.
وفي سنة 1911 سافر إلى دمشق وألقى في المسجد الأموي خطبته الشهيرة باسم الخطبة الشامية التي وصف فيها أمراض الأمة الإسلامية ، ووسائل علاجها.
وفي سنة 1912 عين بديع الزمان قائداً لقوات الفدائيين الذين جاؤوا من شرقي الأناضول من الأكراد خاصة.
وفي سنة 1916 تمكنت القوات الروسية من الدخول إلى مدينة أرضروم التركية وقد تصدى النورسي وتلاميذه المتطوعون للقوات الروسية وخاضوا عدة معارك ضدها ثم جرح النورسي جرحاً بليغاً
ونزف نزفاً شديداً كاد يودي بحياته الأمر الذي اضطر أحد تلاميذه إلى إعلام القوات الروسية بذلك فاقتادوه أسيراً وبقي في الأسر في قوصطرما سنتين أربعة أشهر ثم تمكن من الهرب من معسكرات الاعتقال إثر الثورة البلشفية في روسيا.
وبعد أن احتل الحلفاء الإنكليز والفرنسيون العاصمة استانبول ألف النورسي كتابه الخطوات الست
وحكم عليه الحاكم العسكري الإنكليزي بالإعدام على هذا الكتاب وعلى نشاطه المعادي للقوات المحتلة وأراد محبوه إنقاذه فدعوه إلى أنقرة
فأجابهم أنا أريد أن أجاهد في أخطر الأمكنة وليس من وراء الخنادق وأنا أرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول.
وبعد تولي اتاتورك حكم تركيا وانشاء النظام العلماني
دعي الشيخ إلى أنقرة سنة 1922 واستقبل في المحطة استقالاً حافلاً ولكنه لاحظ أن أكثر النواب لا يصلون كما أن مصطفى كمال يسلك سلوكاً معادياً للإسلام فقرر أن يطبع بياناً تضمن عشر مواد وجهه إلى النواب واستهله بقوله
يا أيها المبعوثون ... إنكم لمبعوثون ليوم عظيم.
وكان من أثر هذا البيان الذي ألقي على النواب أن ستين نائباً قاموا لأداء فريضة الصلاة والتزموا بالدين
الأمر الذي أغضب مصطفى كمال فاستدعى النورسي
وقال له لا شك أننا في حاجة ماسة إلى أستاذ قدير مثلك ولهذا دعوناك إلى هنا للاستفادة من آرائك السديدة ولكن أول عمل قمت به هو الحديث عن الصلاة لقد كان أول جهودك هنا هو بث الفرقة بين أهل المجلس.
فأجابه بديع الزمان مشيراً إليه بإصبعه في حدة باشا .. باشا إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإيمان هي الصلاة وإن الذي لا يصلي خائن وحكم الخائن مردود.
وفي عام 1923 غادر النورسي مدينة أنقرة إلى مدينة وان حيث انقطع للعبادة في إحدى الخرائب المهجورة على جبل أرك
ولم يدر شيئاً عن الأعاصير التي تنتظره.
وفي بارلا بدأت المرحلة الثانية من حياة بديع الزمان وهي المسماة مرحلة سعيد الجديد وقد كانت حافلة بالاتهامات والملاحقات والمطاردات والسجون والمعتقلات والمحاكمات والمنافي
مما لم يمر في حياة إنسان وهو صابر محتسب يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة شعاره في ذلك أعوذ بالله من الشيطان والسياسة التي أنجبت هؤلاء السياسيين العلمانيين الظالمين الذين ليس لهم إلاً ولا ذمة.
أمضى النورسي في بارلا ثماني سنوات ونصف السنة ألف فيها أكثر رسائل النور وهو يعاني من عدة أمراض ولا يشتهي الطعام
بل كان يكتفي من الطعام بكسيرات من الخبز مع قليل من الحساء الشوربة ولا يقبل هدية ولا تبرعاً ولا زكاة من أحد.
وتوفي بديع الزمان النورسي في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1379هـ الموافق للثالث والعشرين من شهر آذار 1960م تاركاً موسوعة علمية أدبية إيمانية ضخمة تسد حاجة هذا العصر وتخاطب مدارك أبنائه
وتدحض أباطيل الفلاسفة الماديين وتزيل شبهاتهم من أسسها ، وتثبت حقائق الإيمان وأركانه بدلائل قاطعة وبراهين ناصعة
جمعت في ثمانية مجلدات ضخام .
إن حياة الإمام النورسي لم تكن إلا ملحمة من الوقائع والأحداث التي وضع جميعها في خدمة القرآن العظيم والأمة الإسلاميةلا من أجل منصب زائل أو كرسي مخضب بدماء الأبرياء بل كانت غايتها النهائية بث اليقظة وإعادة الحياة ومبادرة الفعل للأمة الإسلامية بعد طول رقاد.
ودفن رحمه الله في مدينة أورفه.
وبعد الانقلاب العسكري في تركيا في 27/5/1960 قام الانقلابيون العسكر بنقل رفات الإمام النورسي إلى جهة غير معلومة.
وقد وصف شقيقه الشيخ عبد المجيد النورسي نقل رفات أخيه بديع الزمان في مذكراته بعد خمسة أشهر من وفاته
فقد قالوا له سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد النورسي من أورفه.. وقاموا بهدم قبر بديع الزمان وقلت في نفسي لابد أن عظام أخي الحبيب قد أصبحت رماداً ولكن ما إن لمست الكفن
حتى خيل إلي أنه قد توفي بالأمس كان الكفن سليماً ولكنه كان مصفراً بعض الشيء من جهة الرأس كانت هناك بقعة واحدة على شكل قطرة ماء.
وهكذا نقله العسكر بطائرة مروحية إلى جهة مجهولة وكأن الله العلي القدير قد استجاب لرغبة الإمام بديع الزمان بأن يكون قبره مجهولاً.
ضاق الأوباش بالإمام حياً فاضطهدوه وضاقوا به ميتاً فدفنوه في مكان لا يعرفه أحد.. وكذلك يفعلون ولكن هذا لا يضير الإمام
فهو من الصالحين ومع الصالحين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون
لقد كان النورسي أمَّة في رجل ربى تلاميذه بالقدوة وحياته كانت أكبر كرامة.. إنه رجل عصر المصائب والبلايا والمهالك رحمات الله عليه
وسيرته اكبر من ان يحتويها منشور مثل هذا وكم نحن بحاجة فعلية الى أمثال هذا الرجل في ظل تلك الهجمة التغريبية
الالحادية القادمة نحو الوطن العربي والاسلامي .
بتصرف مقال بديع الزمان النورسي أمة كاملة في رجل
عبد الله الطنطاوي مجلة المنار العدد 63 شوال 1423هـ