قراءة للغة الطبيعة في نباتاتها المزهرة
تطورت الطبيعة عبر كم زمني هائل, يقدر بمئات الملايين من السنيين وفق النظم و القوانين نفسها التي تنتجها لاستمرارية الخلق ,وضمن صورة من التوازن تصل حد الإعجاز باستقرار نتائجها الإبداعية ,.فأي خلل في العلاقة بين عنصر وآخر داخل القانون, أو خلل في العلاقة بين مجموعة النظم ببعضها البعض, حتماً سيؤدي إلى فقدان العدالة بالناتج ,وللحفاظ على هذه العلاقات ضمن وضعها الصحي المستقر ,عملت الطبيعة على تكوين الطاقة الوجدانية بحديها الفكري و الشعوري لإبقاء ميزانها العام متعادلاً متساوي الكفتين .
وحتى يتمكن المرء من فهم و احتواء قصة التطور و إنتاج الحياة كان لابد من لغة تكتب بها هذه الحكاية الخلافة ,فمن حوالي /200/ مليون عام بدأت الكلمات التي تحمل معنى الحكاية بالتشكل ,لتبلغ حالياً نحو خمس ملايين نوع من النباتات المزهرة ,حملت أبلغ مضامين النظم و القوانين التي تعمل بتوازن و انسجام يقارب وجدان الإنسان ليحكي وجدان الطبيعة .
***********************
النباتات المزهرة
و النظم الطبيعية
لقد كتبت الطبيعة على صفحاتها منظومة الزمن ببراعة متناهية تكمن عبقريتها ببساطتها وشدة وضوحها, فقد رسمت دورة زمن اليوم و الغاية منها بجملة الأزهار التي تشرق متفتحة و تغرب نائمة مطبقة الأجفان ,كزهرة المرجريت محاكية بهذا السلوك نظام كثير من الأحياء التي تستيقظ صباحاً لتزرع النهار عملاً و سعيا و تنام مساءً, كاستحقاق و تعويض عن الجهد المبذول من أجل استمرارية الحياة المشترط بحدي العطاء و الأخذ ,العمل و الراحة, النهار و الليل ,حدي الزمن لإنتاج الجديد المتطور.
و نقرأ في فصل آخر من موضوع الزمن على صفحات كتاب الطبيعة معاني عمر السنة ومراحله بجملة النباتات المزهرة التي تحكي ثوابت الحياة في_الولادة,الطفولة,الشباب,الكهولة,الموت,العودة الجديدة ,فالحوليات الصيفية كعرف الديك ,عباد الشمس , كوشيا , القطيفة , الزينيا , السالفيا , تلد في الربيع عن براءة الطفولة ,وتبتسم بالصيف عن أنوارها وأزهارها لتلقي كلمة الشباب وحيويته ,وفي الخريف تهرم و تذيل, وقبل أن تموت تترك بذورها في بطن أمها الأرض لتعيدها صورة جديدة في عام جديد.
أما الحوليات الشتوية فتروي عمر السنة بطريقة أخرى فالعايق , المنثور , القرنفل, تزهر في الفترة من الشتاء حتى الربيع ,وتزرع بذورها في الشتاء القادم .
لقد زامنت الأزهار دورة الأرض حول نفسها لترسم مسار اليوم, ودورة الأرض حول الشمس, لترسل منطقية الوجود فكانت دورة العمل والإنتاج مؤلفة مسيرة الحياة واستمراريتها المتجددة.
وإما ما قدمته النباتات المزهرة لتعميق فهم القوانين والنظم الأخرى مثل
قانون الحفاظ على النوع بلغ من الدقة والقرب إلى الفهم حداً لا تستطيع أية وسيلة إيضاحه, أو لغة أخرى أن تقدمه.
إن أول عنصر من عناصر قانون الحفاظ على النوع تقدمه الأزهار يتمثل يتوزعها إلى جنسين مذكرة و مؤنثة , عنصر الفارق الجنسي , وعندما حاولت بناء عملية التفاعل بين أطراف العنصر الأول ,أنتجت العنصر الثاني الجاذب _ أو المتدة الجاذبة غذاء أو شكل يجذب الحشرة عن طريق العنصر الثالث وهو المنبه لجهة و مكان تواجد الرحيق _ الشذا _ الأريج الذي يقود الحشرة الى الزهرة فتعلق على جسمها حبوب الطلع أثناء امتصاصها الرحيق فتحملها الى الزهرة المؤنثة التي تنجذب اليها بالطريقة نفسها فتتم عملية التلقيح و تنتهي المرحلة الأولى التي تلعب دوراً بالحفاظ على نوع الزهرة و الحشرة باّن معاً.
عناصر جذب
وانتشار و دفاع
و الجدير ذكره أن بعض أنواع النباتات المزهرة تستخدم كعنصر جذب مادة الشكل كما في فصيلة السلحبيات فأزهارها تشبه أنثى الحشرة فتستجلب ذكرها ليلقح أنثاه المزعومة و قبل أن يكتشف الخدعة يكون قد حمل معه غبار الطلع الى زهرة أخرى.
و العنصر الرابع التي تنتجه الأزهار وبالتعاون مع الحيوانات و الطيور هو عنصر الانتشار ففصيلة الورديات مثلاً و منها الخوخ البري و الزعرور و الورد البري تنتج فواكه تتغذى عليها أنواع كثيرة من الطيور و الحيوانات فتنتقل بذورها إلى أماكن أخرى بعيدة عن منطقة تواجدها .كما أن العديد من الأزهار البرية تجهز بذورها بأشواك صغيرة تعلق بفروة الحيوان وعن العنصر الخامس الذي يعتبر قوة الدفاع عن نتائج تفاعلات الحفاظ على النوع و القادر على تأمين الأجواء لاستمرارية النوع ليس فقط للنباتات المزهرة بل لكثير من الأنواع الحية الأخرى بما توفره من و سائل الدفاع ضد الظروف الصعبة من طبيعية و غذائية و أمراض مختلفة .
فقد لاحظ العلماء أن بعض النباتات المزهرة مثل شجرة المر و الخزامى تعطي أريجاً قوياً اذا زرعت بأرض كثيرة الحصى و الحجارة /وعرة/ وكأنها تطلق اشارات الأنذار لتكامل معادلة الحفاظعلى النوع باستجلاب و تنبه الحشرات الى أماكن تواجدها الصعبة .
وليس العسل الذي فيه الغذاء و الشفاء للناس الااحد النواتج المهمة لتكامل علاقة الكائنات الحية ببعضها البعض ضمن ناتج استمرارية أنواع الأحياء المختلفة .
كما أن الغذاء النباتي الضروري لحياة مختلف الأحياء من حبوب و خضار و فاكهة لم يأت إلا من عمليات التدجين التي قام بها الانسان لأنواعها البرية المزهرة.
ولولا المواد الدوائية التي تنتجها النباتات المزهرة لكان حسم الصراع ضد الأمراض التي تهاجم الأنسان لصالح انتشار الأوبئة و نمو عوامل تحطيم و فناء الحنس البشري فهي تنتج المضادات الحيوية و الفيتامينات و مبيدات الحشرات بدرجة تعجز المركبات الكيميائية الصعبة الحديثة عن محاكاة التأثير العلاجي المرغوب /كما تذكرها المراجع العلمية/ .
مثل قشور الكينا لعلاج الملاريا و أوراق الديجيتالس و بصلات العنصل في علاج أمراض القلب , وتنتج نباتات العائلة الخبازية المواد المخاطية و الآلام الجلدية , وهناك أنواع مختلفة من النباتات المزهرة تصنع المواد الزيتية و الدهون النباتية و الشموع التي تستخدم كأساس لصناعة المراهم الطبية و كمسهل طبي مثل زيت نبات الخروع وزيت الكروتون و منها ما يستخدم في علاج أمراض الروماتيزم .
بالأضافة الى التانين لعلاج النزيف و النزلات و معالجة الجروح والحروق و مادة السابونين التي تدخل في صناعة معجون الأسنان و مركبات التجميل كالشامبو و بعضها يساعد طبياً في إفراز البلغم و تخفيض درجة الحرارة و توجد في جذور نبات العرقسوس و نباتات العائلة السرخسية مواد قاتلة و طاردة للديدان المعوية و مواد طبية مختلفة مثل الساليسيليك ومركبات الأنثراكينون وغيرها.
فلقد شرحت الطبيعة قانون الحفاظ على النوع من كافة جوانبه بلغة أزهارها و نباتاتها المزهرة و بطريقة بسيطة و أخرف كبيرة.
النباتات المزهرة
و التوازن البيئي
تختلف البيئة باختلاف موقعها على الكرة الأرضية و المحدد بخطوط الطول و العرض و محتوياته من البحار و الأنهار و المسطحات المائية و الطبيعية الجغرافية و تركيب التربة و الأرتفاع عن سطح البحر الأحمر الذي يؤدي إلى تواجد كائنات حية معينة و غياب أخرى بشكل كامل بينما النباتات المزهرة نراها تنتشر بكافة البيئات و على اختلافها بما يكمن بها من قدرات تلاؤمية تمكنها من التواجد على طيف واسع من تدرجات عناصر المناخ فهي تبتكر النظم و الاّليات المعبرة عن ارادتها بالحياة مهما قست الظروف و توزعت البيئات من العامة الى الخاصة و المحلية .
فزهرة اللوتس_الخس المائي_البردى المصري_تمتلك صفات تؤشر على توفر الماء بغزارة في البيئة التي تعيش فيها مالسطح الورقي واسع و افرعها مرنة لينة و جهازها الجذري بسيط غير متطور فهي تعيش في الماء و تستمد تصنيفها البيئي منه حيث تدعى بالنباتات المزهرة المائية.
وعندما يقل مستوى الماء تبدأ الأوراق بالتطور لتصبح أكثر قدرة على الأحتفاظ به فتغطي وجهها بالمواد الشمعية و يصغر المسطح من أجل انخفاض مستوى التبخر و الأفرع تصبح أقل مرونة و يتطور الجهاز الجذري و ترتفع قدرته أكثر على امتصاص المياه بزيادة عدد تفرعاته و شعيراته الماصة كما في لأزهار المناطق الرطبة مثل الوكاسيا و الكنا_البامبور.
وقي البيئات الصحراوية و الجبلية حيث تنخفض معدلات الأمطار الى الحدود الدنيا و ترتفع درجات الحرارة بمعدلات تؤدي الى تبخر كميات كبيرة من المياه القليلة المتوفرة وفي هذه الظروف تعمل النباتات المزهرة على انتاج نظم تمكنها من مقاومة البيئة القاسية و ضمن مدى الاحتفاظ باستمراريتها فتتحور معظم أجزائها لتخزين الماء في نسيجها الأسفنجي و البعض الاّخر تتحور أوراقه الى أشواك كالاجاف أو تخزن الماء و تصبح عصارية و هناك أنواع تحولت الأوراق فيها الى حراشف.
أن هذه الأمكانيات التلاؤمية تنعكس بمظهر النبات الأمر الذي يساعد على معرفة المستوى البيئي للمنطقة التي تنشا فيها تعطي فكرة واضحة عن درجات الحرارة و الرطوبة وطبيعة التربة و قدراتها الغذائية أي تلعب دور الذاكرة البيئية بكل البعاد.
كما أنها تقدم صورة عن التطور البيئي لمنطقة ما عند ملاحظتها مرسومة على لوحة أو منقوشة على حجر أو تكتشف أثارها في المستحاثات أو قراءة اسمها في الأساطير و الملاحم و الشعر و غيرها من وسائل التوثيق التي تستخدمها الشعوب لحفظ تاريخها, فوجود أثار النباتات المزهرة المائية على أحدى وسائل التوثيق و عدم وجودها لحظة الأكتشاف يؤكد فكرة أن هذه كانت شديدة الرطوبة بحقبة معينة من التاريخ.
الأزهار و التطور
الوجداني للانسان
أن الطاقة الفكرية و الوجدانية للانسان تجاوزت امكانياته التعبيرية رغم تعداد موادها ووسائلها و تنوعها فلم تكمن ضمن سياق تطورها من الصوت فالحرف والكلمة و تعدد فنونها و أساليبها من الأسطورة الى الملحمة فالشعر و النثر و تنوع ضروب سردها بالقصة و الرواية و المسرح كافية بتجسيد ما يحس و يفكر ..فانتقل الى استثمار كل ما يحيط به فاستخدم الجسد ليحول مفاصله الى جمل حركية تحمل مشاعره و أحاسيسه و نظم الألوان داخل خطوط و تدرجات أعماق نفسه و أغوار تفكيره ولما لاحظ أن بعد الزمن قصير بهذه الأدوات استخدم الحجر وبدأ يؤصل عليه معرفته و أحلامه.
ولكن بقيت الأزهارو الورود تحتل عروش التعبير وتتوج ملوكها ففي الأسطورة الأغريقية التي تروي تسمية قارة أوربا تقول باحدى جملها ((كم كانت جميلة سلة أوربا الذهبية لم يكن أجمل منها إلا تلك الزهور التي ملأتها و فاح عبيرها منها النرجس و الخزامى و البنسفج.
ونجد أن الزهور كانت عند العرب الأندلسيين بطاقات دعوة تحمل أصدق ما يشعر به الصديق من شوق للقاء صديقه ,فقد كتب عمر بن هشام بن قلبيل الى صديق يستدعيه بزمن الربيع يقول:
((نحن_أكرمك الله_على بسط الرياحين و درانك الورود و الياسمين ,ووشي رياض مونقة حاكتها أيدي الربيع المغدقة تلاحظنا عن أعين النرجس و السوسان بأحلى المحاجر و أجفان . وتبتسم عن نور الأقحوان بمثل الدر و المرجان ,فهي مصنوعة عن لطائم المسك متنفسه بأرج الورد ,جذله بهجة قائمة أرجه ,فإن تقارن حسنها بحسن وجهك فهي حالية مشرقة وأن عطلت من ضياء غرتك فهي باكية مطرقة ))
ويبدو في الذاكرة الشعرية ذلك الأطار الجميل العبق الذي يسور المكان بمختلف الالوان و الأشكال فهاهي دمشق تتوهج بعاطفة نزار قباني بالوان النرجس و الخميسة و الشمشير و الليك و عبق الفل و الياسمين .
وتستمر لغة الأزهار في اطلاق المعاني المختلفة لتحكي الرواية و القصة كما في شجرة اللبلاب وتتكئ سهام ترجمان على جدارالوردة الشامية لتحكي قصة العلاقة الأبدية بين الأنسان ووطنه .
دولم تبتعد تظم الرقص و نثره عن معاني الأزهار و الورود فإما أن تعلق كالعقد بأعناق الراقصين و الراقصات أو تحيط بخصورهم لتعطي الجملة الحركية معناه الأقصى و الأعمق ,كما أن اللوحات الفنية مازلت تطالعنا من خلالها روح الفنان بشكل و ألوان الأزهار المتمركزة بطيف كبير من المعاني و الدلالات و الأفكار .وتزين بها صور الرموز أو تكون هي الصورة نفسها منحوتة على شكل تاج باعلى الأعمدة التي تحمل مختلف التكوينات و عندما انتقل الأنسان من الريف الى المدينة بقيت في ذاكرته مرسومة بساحات المدن و شوارعها دليلاً على فطرته وبدياته متكيفة مع مراحل تطوره باختلاف نظمها وألوانها وأنواعها فتارة تجلس في الحدائق من النظام الهندسي وأخرة الطبيعي ويمتزج النوعان بالنوع المختلط متلائمة مع مختلف أذواق و ثقافة الشعوب عبر تراكم زمني موغل في مقدمته من الحدائق الفرعونية الى الفارسية فالرومانية_العربية_الفرنسية _الأنكليزية_اليابانية الى الأتجاهات الحديثة في تنسيق الحدائق ووصلت درجة مورنتها الى مستوى التلاؤم مع أذواق الأسر فقد أطر التنظيم المدني هذا المعنى عندما اشترط أن يكون حوالي ثلث مساحة الأرض المخصصة للبناء حدائق ,ودخلت الى المنزل فالعرف حتى تنسجم مع ذوق الفرد داخل الأسرة متلائمة مع كافة الأجواء من النصف ظل حتى نباتات الظل مثل _المكحلة_الملكة_كف حريم_ورق الليمون_الفوجير......الخ.
وأصبحت حالياً المعبر عن الأحاسيس و المشاعر التي يرغب الأنسان بأظهارها بمختلف المناسبات فألوانها حزينة بمناسبات الحزن و فرحة بأجواء السعادة و تحمل الدعاء بالشفاء للمريض عند اعادته وهي رمز العزة و الفخار عندما تطوق أعناق المنتصرين و الأبطال وتحملها براءة الأطفال باقات ترحيب بالضيوف الرسميين للبلاد وتوضع أكاليلاً من التضحية و الفداء و النبل على اضرحة الشهداء.
وهذا الكم الكبير الذي تحويه الأزهار من خصوبة لغتها و مرونتها يضع المبرر للشروط الدقيقة اللازم توفرها فيمن يريد العمل بالازهار من الهواية_والميل الشخصي_المران الكبير_الذوق السليم_الأحاطة بالعلوم_الأساسية _حسن الخلق والتهذيب_الصبر الطويل _الثقافة الواسعة.
أن لغة الطبيعة النباتات المزهرة حملت على عاتقها مسؤولية التقديم العملي لقوانين و نظم وتوازنات ووجدان الحياة لتبرهن بثوابت ينقطع نظيرها أن حضارة الأنسان ترتبط بنسبة ما يقرأ ويعي من حكمة الطبيعة و أمام هذا الدفق الكبير من المعاني و تعبير الأزهار يجد المرء المبرر القوي لطرح سؤال بغاية الأهمية لماذا لا توجد كوادر متخصصة تقوم بتطوير الحدائق و أزهارها كما توجد كوادر متخصصة تقوم بتطوير و تنمية الغابات وحماية أم الطبيعة الشجرة.