النُّبُوَّة من “الأسطورة” إلى “الدين”، ومن “الصعود” إلى “الهبوط”، تكشف عن مركزية العرب في النقلات النوعية لظاهرة النبوة عبر التاريخ (!!) بقلم أسامة عكنان
العرب هم أول من استخدم ضمير الغائب "هو" في الفصل بين "الأنا الإنسانية" و"الآخر الطبيعي"، عندما كان العالم لا يعرف سوى ضمير المتكلم "أنت" في التعبير عن الطرفين (!!)
أسامة عكنان
مقدمة لابد منها للتأسيس لدلالات التطور في ظاهرة "النُّبُوَّة" (!!)إن "الوعيَ" بطبيعته عنصر ديناميكي يتطور "مُتَأَثِّراً بـِ "الواقع" وبـ "ذاته"، ويُطَوِّر "مُؤَثِّراً في "الواقع" وفي "ذاته".. خلافا لما قبل الوعي من مستوياتِ تواجدِ المادة، وهي المستويات التي لا تتطور إلاَّ "مُتَأثِّرَةً بـِ "الواقع" ومؤثرة فيه، فقط لا غير. لهذا فقد كان الامتداد الزماني لتطور الحياة مثلا – كواحدٍ من المستويات "ما قبل الواعية" للمادة – إلى مراحلها المتقدمة كبيرا جدا، نظرا لأنها تتحرك على درجات سُلَّمِها التطوري في ضوء قوى الدفع المتحقِّقَة لها من خارجِ ذاتِها، فيما لا تقوم هي بدفع ذاتها إلى الأمام على ذلك السُّلَّم إلا في حدودٍ تكاد تكون معدومة ومُهْمَلة بالقياس لما يُحْدِثُه الدفع الخارجي لها من تطور. وما يقال عن الحياة يقال عن الحس، بل وعن الحالة غير الحية للمادة، أي الحالة الذرية وما قبل الذرية لها.إن هناك ظاهرة عجيبة وهامة نلمسها بوضوح ونحن نتعقب حركة المادة في رحلة تطورها المديدة، وهي أن كلَّ مرحلة من مراحل التطور تغطي حقبة زمنية أكبر بكثير من الحقبة التي تليها. فالوصول بالمادة الأولى التي ما نزال لا نعرف كنهها عندما تم خلقها، إلى مرحلة البُنى الذرية والجزيئية، تطلب حقباً زمنية فلكية في ضخامتها. والانتقال من البُنى الذرية والجزيئية إلى البُنَى الحيوية الأولى تطلب حقبا زمنية أقل. فيما قَلَّتْ المدة الزمنية اللازمة للتحول من مجرد الحياة البدائية إلى الحياة الحاسة. أما الحياة الحاسة فلم تكن قد تطلبت إلاَّ عدة مئات من ملايين السنين لكي تدرك مستوى المادة الواعية "الإنسان"، في صورتها البدائية.وعندما ظهر الوعي في المادة تسارعت وتائر تطوره وما تزال، بحيث أن بضعة ملايين من السنين أو ربما أقل كانت كافية للوصول إلى ما نحن فيه من إنجازات عملاقة. والملفت أنه في داخل نفس مرحلة الوعي يحدث التطور بوتائر متسارعة جدا. فالخمسة آلاف سنة الأخيرة من حياة الإنسان شهدت معظم منجزاته الحضارية والعلمية والمعرفية إن لم يكن كلها تقريبا. والألف سنة الأخيرة تضمنت أكثر من ثلاثة أرباع المنجزات التي تمت في تاريخ البشرية كله. ولا نريد أن نقول أن المائة سنة الأخيرة شهدت لوحدها معظم هذه الإنجازات. وهكذا دواليك.إذن فديناميكية الوعي أوضح من أن ينكرها أحد (!!)ولقد أسهم في تشكيل هذه الديناميكية ذلك النوع من التأثير المتكافئ والمتراكم الذي تُحدثه العلاقة التفاعلية الجدلية الدافعة، بين كل من الإحداثي المكاني للتطور الوعيوي والإحداثي الزماني له. إنه التأثير المتبادل للواعين بمستويات وعيهم المختلفة بعضهم في البعض الآخر مكانا وزمانا.إن هذا التأثير له دور السحر في تسارع التطور، لأن هذا النوع من التأثير الدافع إلى مستويات متقدمة من التطور لم يتحقق بهذا القدر إلاَّ للمادة الواعية وحدَها، فيما كان شبه معدوم تقريبا في المستويات ما قبل الواعية من المادة. ففي الوقت الذي لا توجد فيه حياة تؤثر في حياة أخرى تشاركها المكان والزمان لتؤديا إلى تغيير شكل الحياة في الزمان اللاَّحق إلاَّ في حدود ضيقة للغاية، بحيث يمكن القول بانعدام تأثير البعد المكاني في تطور الحياة. فإن الوضع في حالة الوعي مختلف من حيث أن التلاقح بين مستويات الوعي في الزمان وفي المكان الواحد حقيقة تَصْبِغُ الوعيَ – بحكم طبيعته – بصبغتها الخاصة. فما من وعي إلاَّ ويؤثر في وعي يشاركه الزمان والمكان ليؤديا معا إلى التأثير شكلا ومضمونا في الوعي اللاَّحق.وهكذا يبرز لدينا أحد أهم الأسباب المُساعدة على هذا التسارع المهول في تطور مستويات الوعي، ألا وهو تأثير الوعي في الوعي ذاته على المحورين الزماني والمكاني، علاوة على الديناميكية الذاتية الدافعة إلى التسارع في البُنْيَة التكوينية للوعي ذاته عندما يبرز كشكل راقٍ للمادة يعمل على تطوير نفسه بنفسه أيضا. إلى درجة أن الوعي حَقَّقَ منجزاتٍ جعلته يقترب من التحكم في الحياة ذاتها، وفي الحس ذاته، وفي المادة ذاتها، في مُدَدٍ زمنية يحتاج أيُّ مستوى من مستويات المادة غير الواعية إلى أضعاف أضعافها كي ينتقل خلالها مجرد خطوة تكاد تكون غير مرئية على سُلَّمِ تَطَوُّرِه الخاص به..هل معنى ذلك أن الوعي سيتحكم في يوم من الأيام في التطور ذاته ويوجهه ويقوده إلى إرادته وغاياته الجزئية ضمن الغاية الكلية للخلق (؟!)حتما سيحدث ذلك مادام الإنسان ينمو بوعيه ضمن معادلة التَّأَلُّه الأبدية التي لا تنتهي.لم تكن هذه المقدمة التي سقناها ونحن نستعد للحديث عن علاقة النبوة بالأسطورة وبالدين، إلاَّ من أجل تأكيد حقيقة تطور الوعي وتسارع هذا التطور وتَلاَقُحِ مستويات الوعي في بعدها المكاني قبل الزماني، لما في ذلك من منطلق متين لفهم السياق التاريخي لأنساقِ النبوة المختلفة.
تتبُّع مسيرة النبوة منذ بواكير الوعي الإنساني (!!)إذن فقد بدأت "رحلة الوعي" بكل آلامها ومآسيها، وبكل أعاجيبها ومُبْهِراَتِها، وبكل عثراتها وسقطاتها، وبكل إنجازاتها وطموحاتها. بدأت صغيرةً وُلِدَت من رحم الظلام الدامس الذي كان يخيم على كلِّ أشكال المادة حتى الحيَّة الحاسَّة منها. وراحت وسط هذا الظلام تبحث عن بصيص أمل وعن ومضة نور، وتُشَيِّدُ بناءَها لَبِنَةً لبنة، وتنمو وتكبر. فكانت مولودا غضا وَجَدَ نفسه فجأة في عالم مُبْهِر مدهش له معنى لا يعرف عنه سوى حقيقة واحدة هي أن عليه أن يعرفه ويعيه ويفهمه، وهو مربوط بخيط رفيع لا يُرى، إلى حقيقة الحقائق وسرِّ الوجود الذي فرض نفسه عليه منذ أولى لحظات وعيه، وذلك بأن يحسَّ به، ويستأنسَ بوجوده من حوله، ويستوحشَ من بعده عنه.إنه الله الذي رَكَّبَ المادةَ منذ أن ركَّبَها أول مرة مقهورة بهذه القابلية التي ما كان لها إلاَّ أن تسيطرَ عليها منذ اللحظة الأولى لوعيها بذاتها وبمحيطها وبالوجود من حولها. وهكذا كان "الله"، أو "القوة الخفية"، أو "الآلهة"، أو "المقدس"، أو سَمِّهِ ما شئت، هو الصورة الأولى لوعي الإنسان، والمادة الخام الأساسية التي راحت تصقل وعيَه وتنميه وتطوره خطوة خطوة إلى أن وصل هذا الوعي إلى ما وصل إليه من مستويات التطور.منذ اللحظات الأولى لبزوغ فجر الوعي، استشعر المخلوق الواعي"الإنسان"، أنه يفتقدُ أمرا هاما أشعره افتقادُه إياه بالوحشة والغربة والقلق، ولأنه لم يتصور هذا المُفْتَقَد إلاَّ كائنا عظيما قادراً على تخليصه من وحشته وغربته وقلقه، فقد تصوره أقوى منه وأفضل وأعلم.. إلخ. ولماَّ لم يستطع أن يجدَ تفسيرا بحكم بدائية الوعي لديه، لعدم وجوده إلى جانبه كي يؤنسَ وحشتَه ويقضي على بواعث قلقه وخوفه وغربته، فقد قاده تفكيره إلى ابتداع فكرة "الخطيئة" التي اعتقد أنها لابد أن تكون هي السبب الذي جعله ينفصل عنه.وهكذا ظهرت بواكير التفكير الأسطوري لعلاقة الإنسان بتلك القوة الخفية المُحَبَّبَة إليه، في تلك القصة التي تمحورت حول الخطيئة، مُتَّخِذَةً أشكالا مختلفة، حسب طبيعة العناصر التي راحت تُسْهِم في تشكيل الوعي لدى الأقوام والشعوب والأمم والتجمعات البشرية في كل زمان ومكان، والتي راحت النبوة تتعامل معها بِما يناسبها من أدواتٍ يُمليها الواقع الموضوعي والبعد التاريخي.إذن فالنبوة قد ظهرت إلى حَيِّزِ الوجود – بِما هي وسيلة للاتصال بهذا الوجود المُحَبَّب المؤنس المنفصل عن الإنسان الذي أحسَّ بأنه في أمس الحاجة إليه – كنتيجة للإحساس بأزمة مُؤْرِقَة، في محاولة لتجاوز هذه الأزمة التي تمثلت في انحدار الإنسان إلى طوق الخطيئة التي قيَّدَته بأن جعلته يفقد هذا العزيز المُحَبَّب الذي آثر الانفصال عنه عقابا له على تلك الخطيئة.ومن الملاحظ رغم أن كلَّ أساطير النبوة تشترك في حالةٍ تشبه الإجماع على فكرة الخطيئة كمبرر للانفصال بين الإنسان وخالقه، فإنها قد اختلفت في الخطيئة نفسها من حيث هي قصة وحدث وتفاصيل. وهكذا فإن النبوات جميعا سواء كانت أسطورية أو دينية، وسواء كانت بسيطة وبدائية أو معقدة ومتطورة، إنما جاءت كردٍّ على أزمة الشعور بالانفصال في محاولاتٍ متتابعة لقهره – أي الانفصال – وإعادة الأمور إلى نصابها، والمياه إلى مجاريها في توحيدٍ مستهدفٍ بين الإنسان وبين الله."فقد كشفت معظم الميثولوجيات القديمة والأديان، عن عصرٍ شاركت فيه الآلهة البشر حياتَهم، ثم حدث الانفصال بينهما نتيجة خطيئة الإنسان. إن مهمة الأنبياء قد انبثقت من هذا الانفصال الفاجع، وذلك لإعادة الوصل بين الإله والإنسان. الوحي الديني إذن هو الذي يقضي على الاغتراب الذي يتمثل في انفصال الإنسان عن الله بعد أن كان يحيى في وحدة معه". (كتاب النبوة، دكتور على مبروك، ص 74). وكلما كان المستقبل بالنسبة للإنسان مُدَثَّراً بطلاسم المجهول الباعثة على الوحشة والقلق والاغتراب، كلما كان في حاجة ماسة إلى الوحي والنبوة لغمره بالاطمئنان ولمنحه الأمل.الميثولوجيا "الأسطورة"، ارتبطت في الاصطلاح بالنبوة التي تنطلق من "الأرض إلى السماء"، أما الدين فقد ارتبط بالنبوة التي تهبط من "السماء إلى الأرض". وبكلمة أخرى فإن "النبي" في "الأسطورة" هو صاحب المبادرة في ربط الله بالإنسان. بينما "الله" في "الدين" هو صاحب المبادرة في ذلك. وهذا الاختلاف بين النَّسَقَين "الأسطوري" و"الديني" في بُنْيَة "ظاهرة النبوة" ليس ناتجا عن فراغ، بل هو يرجع إلى المسار الذي اختطه الانفصال المُتَصَوَّر بين الله والإنسان منذ بدأت تهيمن على تفسير الإنسان لواقعةِ الانفصال فكرةُ الخطيئة الإنسانية كسببٍ لها.فمسار هذا الانفصال قد اختلف في تُراَثِياَّت "النَّسَق الأسطوري" عنه في تراثيات "النسَّق الديني". فالميثولوجيات تتحدث عن إنسان جاور الآلهة على الأرض. لكن هذه الآلهة ما لبثت أن غادرت هذا المسكن الجماعي بعد الخطيئة الأولى. أما الديانات فتتحدث عن جيرةٍ بين الله والإنسان في السماء ما لبثت أن انهارت بهبوط الإنسان إلى الأرض بسبب الخطيئة بطبيعة الحال.
فمسار الانفصال قد اتخذ إذن خطاًّ صعوديا بانزواء الآلهة في السماء ابتعادا عن الأرض الموبوءة بالخطيئة في "النَّسَق الأسطوري". وخطاًّ آخر هبوطيا بإلقاء الإنسان في الأرض بعيدا عن السماء بعد أن أصبح موبوءا – أي الإنسان – بالخطيئة في "النَّسَق الديني". ففي الوقت الذي تعالت فيه آلهة النسَّق الأسطوري عن الأرض الملَوَّثَة بالخطيئة فآثرت مغادرتها نكالاً بهذا الإنسان. فإن إله النَّسَق الديني تعالى بسمائه عن أن يسكنها إنسان مخطئ فقذفه منها إلى الأرض نَكالاً به.وبالتالي فإذا كانت النبوة هي ظاهرة تعمل في الاتجاه القاهر لهذا الانفصال في محاولةٍ لاستعادة اللحمة بين هذين الوجودين اللذين تنافرا فجأة بسبب الخطيئة، فإن ما يلفت الانتباه حقا هو أن المسار الذي اختطته النبوة في سياق تلك المحاولة كان يحدث في خطوطٍ متوازية ومتطابقة تماما مع تلك التي اختطتها حادثة الانفصال ذاتِها. فمسار محاولة إعادة التوحيد بين الله والإنسان أو بين الآلهة والإنسان في النَّسَق الأسطوري كان يتم عبر حركة صعود من الإنسان نحو السماء. أي أن النبوات المرتبطة بهذا النسق كانت تنطلق من الأسفل متجهة نحو الأعلى في مبادرة من الإنسان إلى طلب المساعدة من الآلهة التي انتقمت منه بتركه غريبا ووحيدا على الأرض. أما في النسق الديني فقد كان مسار محاولة إعادة اللحمة بين الإنسان والله يتم عبر حركة هبوط من الله نحو الأرض. أي أن النبوات المرتبطة بهذا النسق كانت تنطلق من الأعلى إلى الأسفل في مبادرة من الله بإرسال وحيه إلى الإنسان.إن كافة ما ذكرناه سابقا سواء ما تعلق منه بأولى مظاهر الوعي بالوجود والتي تمثلت في فكرة الخطيئة وفي ما كان سببا لها وفي ما أدت إليه، أو ما تعلق منه بِمسارات الانفصال بين الله والإنسان وبما اتخذته ردا على ذلك، المساراتُ العاملة في اتجاه إعادة الربط واللحمة بينهما. إن كل ذلك هو انعكاس طبيعي لوعي الإنسان وهو يتطور وينمو. وهو ما تُمكننا ملاحظته بوضوح وجلاء من خلال تتبع مسار تطور النبوات.يمكننا أن نلمسَ أن المسار الذي تحركت فيه واختطته لنفسها النبوات الأسطورية لم يبتعد عن كونه انعكاسا لبناء وعيوي فسَّرَ الإنسان البدائي من خلاله العالمَ من حوله ووضعَه ومكانتَه فيه. وداخل النسق الأسطوري نفسه لم يتَّسِم البناء النَّبَوِي بالثبات على شكل واحد وأحادي الدلالة. بل هو – أي هذا البناء النبوي – أخذ في التطور ضمن نفس أساسيات التصور الأسطوري للإنسان البدائي بحيث أمكننا التمييز داخله – أي داخل النسق الأسطوري – بين شكلين رئيسين للنبوة يعبر كل واحد منهما عن مستوى معين من مستويات الوعي وعن شكلٍ مختلف له.أولا.. النمط الطبيعي.. حيث كانت إرادة الآلهة تتجلى في هذا المستوى من الأنساق الأسطورية من خلال الطبيعة ذاتها، وتحديدا من خلال بعض موجوداتها التي كانت ذات دلالة معينة عند أصحابها مثل: "أحشاء الأضاحي المرتبة على المذبح الإلهي، أو حفيف الأوراق في السنديانة المقدسة عند الإغريق، وملاحظة الإشارات والعلامات وحركات الأشياء الملقاة في عين ماء، أو حركات صورة الإله عندما يُحْمَل عند قدماء المصريين، وإجراء القرعة وضرب القداح أو ملاحظة الطيور المحلقة عند العرب".(النبوة، على مبروك، ص 84).وكلما توغلنا بعيدا في العصور الإنسانية الغابرة كلما اتضحت لنا أكثر هذه الظاهرة، أي ظاهرة انعكاس العالم في نُبُواَّت الإنسان البدائي بصورةٍ فَجَّة لا تعني إلاَّ تصوراً بعدم القدرة على التمييز الفعلي لذلك الإنسان بين الطبيعة وبين نفسه. أليس مثيرا للدهشة أن الإنسان في تلك الحقب الغابرة من بدائية الوعي كان يشير إلى الظواهر الطبيعية المحيطة به بضمير المخاطب "أنتَ"، مؤكدا على وعيه بشكل من أشكال التَّوَحُّد بينه وبين تلك الظواهر، في حين أن ضمير الغائب "هو"، لم يبدأ يظهر في الإشارات إلى تلك الظواهر إلاَّ في مراحل متقدمة من وعيه بذاته – أي الإنسان – وبانفصاله وباستقلاله التام عن الطبيعة؟!وفي جملة معترضة ضرورية تعني لنا الكثير في هذا السياق، نجد لزاما علينا أن نشير إلى أن العرب بلغتهم العربية هم أول من استخدموا الضمير الغائب "هو" تعبيرا عن تقدم وعيهم بذاتهم المنفصلة عن الطبيعة على نحوٍ أسبق من كلِّ الأمم الأخرى، ما يجعلهم على قمة هرم الأمم المتقدمة، عندما نحدد التقدم باعتباره تقدما في الوعي بالذات، وفي فصلها وتمييزها عن الواقع الطبيعي المحيط بها والمفارق لها من حيث التمايز بين الوجودين في "الأنا" وفي "الآخر" (!!)ثانيا.. النمط الذاتي.. وذلك حين نَما البناء الوعيوي للإنسان من نسقٍ طبيعي فَجٍّ إلى نسق ذاتي قائم على وعي الإنسان بذاته ككيان منفصل عن الطبيعة وعن العالم. إن هذا النمو في الوعي باتجاه الذاتية واكبَه تطور في النبوة باتجاه أن تكون ذاتية الطابع أيضا، كتعبير عن كونها انعكاسا لوعي الإنسان. وهكذا يظهر الإنسان في هذا النوع من النبوات وقد انتهج نهجا جديدا في التعرف على إرادة الله، وهو نهج ينصب باتجاه التعرف عليها داخل الذات الإنسانية من خلال الأحلام والرؤى، أو ما كان على شاكلتهما. وينتشر هذا النوع من النبوات في الحضارات المتقدمة عموما، وكانت من أجلى مظاهر النبوة عند العرب. بل إن النبوات في النسق الديني ذاتها لا تتحرر تحررا كاملا من هذا النمط الذاتي في إبراز نفسها. فالرؤى الصادقة التي تجيء كفلق الصبح، أو التي يشعر النبي فيها بأنه مطالبٌ بأمر ما، كانت جزءا من نبوات النسق الديني، كما تدل على ذلك نصوص تلك الأديان، بدءا من رؤى إبراهيم، وانتهاء برؤى نبي الإسلام محمد عليهما السلام، وهما فاتحة وخاتمة نبوات الدين التي تحركت في البيئة الجغرافية والديموغرافية العربية، في دلالة لا تحتمل الشك على أنها البيئة الأكثر تطورا لجهة التعاطي مع ظاهرة "النبوة".ويواصل الوعي نُمُوَّه وتَقَدُّمَه. ومع كل لحظة يتقدمها يتقدم ويتطور وعيُه بالإله وتصورُه له، تساعده في ذلك، المسيرة الطويلة للنبوة، إلى أن يصل في النهاية إلى مقدرةٍ فائقة على تصور مفهوم الإله المجرد. يكشف عن ذلك ما كان النَّسَقُ الميثولوجي للنبوات يطرحه من صور للآلهة على هيئة الإنسان. أي أن تَصَوُرَ الإنسان للإله – في تلك المراحل من الوعي – كان مشوبا بالطبيعة من حوله ثم بذاته. الإله إذن كان صورة عنه وعماَّ حوله. أما كلما كان الإنسان قادرا على الفصل بين ذاته وبين العالم كلما انعكس ذلك على صورة الإله في وعيه. وإذ وصل الإنسان إلى مستوى متقدم من هذا الفصل فقد اقتربت صورة الإله إلى مستوى متقدم من التجريد الناتج في الأصل عن هذا الفصل.فبعد أن كان الإنسان في نُبُواَّتِ النسق الميثولوجي يتعامل مع إله راح يبحث عما يمكنه أن يوجد فيه – أي في الإله – منه – أي من الإنسان – ليؤَنْسِنَه ويُشَخْصِنَه، نجده في نبوات النسق الديني، وهي النبوات التي وصل فيها الإنسان إلى مستوى راق من التجريد في تصوره للإله، يتعامل مع إلهٍ راح يبحث عما يمكنه أن يوجد فيه – أي في الإنسان – منه – أي من الإله – لكي يُؤَلِّه ذاته، وبكلمة أخرى، فبعد أن كان الإله الميثولوجي صورةً عن الإنسان، أصبح الإنسان الديني صورةً عن الإله. ولأن نبوات النسق الديني تتخذ مسارها هبوطا كما مر معنا، فإن الله هو الذي أصبح يبادر بإرسال أنبيائه وإنزال وحيه والتعريف بإرادته قبل أن يطلب منه البشر ذلك كما كان عليه الحال في نبوات النسق الميثولوجي. وكان ذلك بطبيعة الحال راجعا إلى التطور الحاصل في مستويات الوعي فنقلته إلى القدرة على التجريد وتكوين مفهومٍ وتصورٍ راقيين نسبيا عن الإله.وهنا أيضا نورد جملة معترضة بالغة الأهمية، مفادها أن النبوات الدينية التي تُجَسِّدُها حالة "التواصل الهابط" من الأعلى إلى الأسفل بين الله والإنسان، إذا كان محتَّما لها أن تبدأ في بيئة إنسانية متطورة جغرافيا وديموغرافيا وقيميا ووعيويا، بحيث تكون قد تخطت حاجتها الميثولوجية والإبستيمولوجية لنبوات "صاعدة" بعد أن صقلها التاريخ وهيأها التطور لأن تتقَبَّل النبوات "الهابطة" باعتبار هذه الأخيرة الخطوة المتقدمة والأكثر تطورا في سلم النبوات، فما لاشك فيه أن "النبوة الهابطة" التي بدأت بنبي الله "إبراهيم"، وانتهت بنبي الله "محمد" عليهما السلام، لابد أنها بدأت بقرارٍ إلهي أخذ في الاعتبار حتما واقعة أن البيئة الجغرافية والديموغرافية والوعيوية والقِيَمِيَّة في المنطقة العربية – الثلث الغربي من الجزيرة العربية تحديدا – التي احتضنت هذه الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، هي أنسب البيئات العالمية لها بلا جدال من حيث الأهلية والقابلية والتطور الوعيوي والقيمي، وإلا فليقدم لنا كل عقلاء وحكماء وفلاسفة الأرض تفسيرا يتناسب مع فهمنا الراقي للإله وصفاته وإرادته الخبيرة الحكيمة يجعله يختار هذا المكان لمرحلة النبوة الهابطة المتطورة، إذا كانت هناك في هذا العالم أمكنة أخرى أكثر صلاحية منه "جغرافيا وديموغرافيا ووعيويا وقِيَمِيا" (؟!)"لقد رأى الإنسان البدائي إلهَهُ قائما في جوانب الطبيعة (قطعة حجر، حيوان، طائر، كوكب، نجم.. إلخ). ثم ارتقى الوعي قليلا فظهر الإله في صور الإنسان (هكذا كان الإله في مصر القديمة وهكذا كانت آلهة الإغريق). ولم يُقَدَّرْ للإنسان أن يبلور مفهوما غاية في التجريد والعُلُو إلاَّ بعد أن بلغ الوعي ذروةَ تَقَدُّمِهِ. وهكذا فقد كانت مسيرة الإله كتصورٍ في التاريخ هي نفسها مسيرة الإنسان، إذ يرتقي بوعيه من أكثر صُوَرِهِ طبيعيةً وفجاجةً إلى أكثرها تجريدا وتعاليا".(النبوة، علي مبروك، ص86).وفي هذا السياق نجد أنفسنا مضطرين لتسجيل جملة معترضة ثالثة على قدرٍ من الأهمية غابت عن بال كلِّ من تعاطوا مع تاريخ العرب وتاريخ الإسلام، حتى في تعامله مع الديانة الوثنية التي وصمها القرآن الكريم بالشرك. ومفاد هذه الجملة المعترضة الجديدة هو أن العرب – عبدة الأصنام – يختلفون في ديانتهم عن كلِّ أتباع الديانات الأخرى في مختلف بقاع الأرض، لجهة أنَّ من صوروا الآلهة على هيأة بشر كاليونان مثلا، كانوا يعتبرون تلك الصوَّر البشرية التي تخيَّلوها هي الآلهة ذاتُها دون أيِّ تحفظات، رغم كل هالات القوة والمهابة التي أسبغوها عليها. في حين أن العرب الوثنيين ولأنهم وصلوا في تصورهم للإله إلى مستويات متقدمة ارتقت به إلى اللابشرية التي عجزوا عن تخيلها، فقد جعلوا بينهم وبينه وسطاء هي تلك الأوثان، عابدين ما افترضوا أنها أرواح ملائكية تسكنها فتقربهم إليه زلفى.فالإله عندهم واحد ومجرد وسامي وفوق كل شيء ولا يشبه البشر، لكنهم يعبدونه بالوساطة، وهو ما جاء آخر الأديان لينهيَه ملغيا فكرة الوساطة التي كانت قد تحولت إلى نظام اجتماعي قامت عليه منظومة طبقية في تقسيم غير عادل ولا إنساني للعمل وللثروة وللمكانة الاجتماعية.. إلخ. أي أن صورة الإله عند العرب كانت – على الرغم من الوثنية التي لم نفهم تعامل القرآن الكريم معها فهما صحيحا مع الأسف – على أرقى ما يكون إذا ما قيست بصورته عند باقي الأمم أو عند أغلبها على الأقل، وعلى رأسهم اليونانيون الذين لم تنفعهم فلسفة أرسطو وأفلاطون وسقراط في أن يتحرروا من آلهتهم الوثنية المُشَخْصَنَة تلك (!!)ولعل القرآن الكريم كان واضحا في التأكيد على أن العرب الوثنيين المشركين كانوا يؤمنون بالله الواحد خالق السماوات والأرض بالكثير من صفاته الإيجابية التي ذكرها القرآن الكريم، عندما كرَّرَ في أكثر من آية قولَه: "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض، ليقولن الله، قل فأنى تؤفكون". وفي هذا دليل قاطع على أن الله عز وجل، والقرآن الكريم، والنبي محمد عليه السلام، لم تكن لديهم مشكلة حقيقية مع حقيقة فكرة، ومع معظم جوانب صورة الإله في الذهن العربي، وإنما كانت مشكلة هؤلاء مع البُنية اللاهوتية العربية التي خلقت نظاما وسائطيا في العبادة والتواصل مع هذا الإله الواحد الراقي الصورة لديهم، جعل التواصل مع الله حكرا على فئات محددة عرفت كيف تستخدم هذه الوسائطية المُختلقَة والمُخترَعَة لتمرير منظومة ثقافية مجتمعية تتعارض مع منطق العدالة في إطارها المذهبي، كما هو شأن معظم أصحاب المصالح عندما يستخدمون الدين والإله لشرعنة المنظومة الثقافية التي تحفظ لهم تلك المصالح في كل زمان وفي كل مكان تغيب فيهما حرية الإنسان في الاختيار، أو تهيمن فيهما ثقافة الاستسلام لللاهوت الوسائطي، الذي كان وما يزال أكبر حجر عثرة يعرقل مسيرة التحرر الإنساني. وهو ما جعل قريش عندما تعارض الدعوة الجديدة التي صدَح بها النبي محمد بن عبد الله عليه السلام، تعلن بصراحة ووضوح "أن آلهة مكة عبادة وتجارة"، وأنها "لا تمانع من دمج محمد بن عبد الله في منظومة المصالح المكية بجعله السيد والملك والأكثر غنى.. إلخ، إذا ما تنازل عن فكرة الإله الواحد في سياق ما تقتضيه هذه الفكرة من تبعات مجتمعية واقتصادية.. إلخ" تتعارض مع البُنية الطبقية والتركيبة المجتمعية الناتجة عنها والمنتجة لها في مكة بل وفي جزيرة العرب، وهو الأمر الذي كان يرفضه الرسول الكريم بطبيعة الحال، لأنه كان يعرف دوره جيدا، ويفهم جوهر رسالته على أكمل وجه (!!)وإذا كان النسق الميثولوجي للنبوة وهو النسق الصاعد كما مرَّ معنا، قد تضمن العديد من النبوات، فإنه لم يتضمن أيَّ رسالات. إن الميثولوجيا لم تفرز إلاَّ أنبياء، لأن "النبوة الميثولوجية الصاعدة" لم تكن أكثر من ميكانيزم معرفي محدود، يتولى مهمة التعاطي مع الوحدة البشرية المنغلقة على نفسها معرفيا وقيميا وثقافيا، حتى في أضيق صورها القائمة "القبيلة، العائلة، القرية.. إلخ" إذا اقتضى الأمر ذلك، إعدادا لها، وتنظيما لواقعها، وتطويرا لإمكاناتها، وتقريبا لبُناها المؤسسية ولثقافتها المجتمعية، من صور التفاعل الإنساني مع الآخر.. إلخ، باتجاه التأسيس للأمة الإنسانية، ولثقافة إنسانية قائمة على مبدإ: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".لكن الرسلَ كانوا إفرازا للنَّسَقِ الديني، أي لـ "النبوة الهابطة من السماء إلى الأرض"، بعد أن تكاملت صورة الإله ومهمة النبوة، وبعد أن أصبح للرسالة معنى مفهوما وقابلا لأن يُجَسِّدَ عالميته. فالنبي الميثولوجي – ومن ثم وبالتبعية النبوة المثولوجية الصاعدة ككل – لا يمكنه وهو يجسد ديانة قبيلة، ويتعاطى مع قيم وثقافة وعادات قرية أو عائلة، أو جزء من شعب، أن يمتلك أيَّ مبرر منطقي لفرض منظومته المعرفية على بٌنى مجتمعية مغايرة، لها نبواتها وأنبياؤها الصاعدين اللذين جسدوا احتياجتها المعرفية والقيمية الخاصة.إن النسق الميثولوجي كان أكثر بدائية من أن يحتمل رسالة أو من أن يحتاجها أو من أن يتمكن من توظيفها التوظيف الأمثل. لهذا فلم تكن مسيرة النبوات في النسق الميثولوجي إلاَّ حلقاتٍ في سلسلة تفعيل الواقع ودفعه باتجاه مراحل متقدمة تستطيع احتضان النسق الديني عموما والرسالات خصوصا وتحديدا عندما يأتي وقتها ويحين نُضْجُ التاريخ الإنساني لها.لقد اشتمل النسق الديني فيما اشتمل عليه، على النبوات الكبرى (الرسالات الكبرى)، اليهودية والمسيحية والإسلام. وهي بحكم كونها نُبُواَّتٍ نسقٍ ديني فقد قامت كلها وما كان لها إلاَّ أن تقوم على مبادرات إلهية صرف، ولكن دون إهمال عنصر الأزمة الذي تَحدثنا عنه فيما مقالات سابقة كصاعقٍ مُفِّعٍل لإعداد الواقع بما يكفل قدرته على احتضان هذه الرسالات (الثورات).وإننا عندما نتحدث عن هذه النبوات الثلاث فنحن في واقع الأمر نتحدث عن لحظات ثلاث أو عن نقاط ثلاث على خط مستقيم واحد رسمه مُعَلِّمٌ واحد لهدف واحد، يعكس الانتقال من نقطة منها إلى النقطة التي تليها، استجابةً من ذلك المعلم الذي رسم المستقيم، لمختلف المستويات التي راح الوعي والواقع ينموان من خلالها بينهما – أي بين هاتين النقطتين – مُتَطَلِّباً بالتالي هذا الانتقال الثوري. وإذا لم نقبل القول باعتبار أن الانتقال من نقطة إلى أخرى جاء كنتيجة لهذا التطور الحاصل في الوعي وفي الواقع، فإن تفسيره – أي الانتقال – سيبقى غير مفهوم وغير معقول وخالٍ من الدلالات. "فالله لا يضيره أبدا أن يكون فعله مُبَرَّراً بوضع إنساني تاريخي معين، بقدر ما يضيره أن يكون فعله بلا غاية".(النبوة،على مبروك، ص87). إن علاقة التكامل بين لحظات النبوة الرسالية الكبرى الثلاث في النسق الديني، حقيقة واضحة لا ينكرها إلاَّ جاهل بتاريخ النبوات. لا بل إن جوهر التكامل والتعاضد يُعْتَبَر أحد المكونات الأساسية لظاهرة النبوة عموما، ابتداءً بنسقها الميثولوجي الذي صَبَّ مسارَه التاريخي في خانةِ ولادةِ حالةٍ وعيويةٍ تستطيع توجيه الواقع وتطويره ليتجاوبَ مع النسق الديني عندما يحين وقته في نبوة الرسالة، وانتهاءً بهذا النسق الديني ذاته، وهو ينطلق من لحظات الوعي التجريدي الأولى لدى الإنسان مُكَثِّفاً مساره التاريخي في نقطة محددة أحاطها بالرعاية والاهتمام، ثم وهو ينتقل منها إلى نقاطٍ لاحقة ضمن خطة التجاوب العامة مع تطور الوعي الإنساني.إن هذا التكامل هو ما قال عنه السيد المسيح.."لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل". وعن هذا التكامل ذاته تحدث رسول الإسلام محمد عليه السلام، عندما أوضح أنه اللبنة الأخيرة في بنيان النبوة الطويل. ناهيك عما تعنيه النظرة الإسلامية الخاصة إلى الاعتقاد في الله وفي كتبه وفي رسله من مؤشر واضح على هذا التكامل.إن "نبوة الرسالة الهابطة" من لحظتها الأولى إلى لحظتها الأخيرة هي عبارة عن ظاهرة مديدة مترابطة الحلقات. كل حلقة فيها ذات أهمية بالغة بالنسبة للحلقات التي تليها، كما أنها لا تستغني قطعا عن الحلقات التي سبقتها. وهكذا يغدو كل دين – إذا قبلنا الافتراض القائل بأن اليهودية والمسيحية والإسلام هي ديانات مختلفة وأن كلا منها قائم بذاته – في حاجة إلى الأديان الأخرى. أي أن الإسلام بوصفه إحدى لحظات نبوات النسق الديني بحاجة إلى المسيحية وإلى اليهودية بصفتهما كذلك، لأنهما مبررا وجوده ومنبعا تعاليمه. وهما أيضا – أي المسيحية واليهودية – بصفتهما حلقتين في هذه السلسلة في حاجة إليه حتما لأنه يمثل غايتهما التي يصبوان إلى إدراكها.لكننا في الواقع لا نأنس إلى هذا التفريق بين حلقات النبوة الثلاث في النسق الديني. بل إننا نعتبره – أي هذا النسق– قد أفرز في المحصلة دينا واحدا، بدأ باليهودية، وانتهى بالإسلام، ومرَّ بالمسيحية. علما بأن هذه أسماء اصطلاحية قد نتفق عليها وقد نختلف، وقد نقبلها وقد نرفضها. وقد كان من الممكن أن نسميها – أي تلك اللحظات الدينية الثلاث – بغير هذه الأسماء. نقول.. إن النسق الديني أفرزَ في المحصلة دينا واحدا، ليس بذي أهمية أن نعرف كيف تمَّ اختزاله في مسيرة دينية سُمِّيَت لحظاتها المصيرية الكبرى، "يهودية، مسيحية، إسلام". بل إن ما يهمنا حقا أنه – أي النسق الديني – بدأ بعد أن تطلَّبَه الواقع، وبعد أن لم يعد هذا الواقع يَكْتَفي بالنسق الميثولوجي لتلبية احتياجاته في ضوء معادلات الأزمة، وبعد أن أصبح الواقع مهيئا له كلَّ التهيئة، وبعد أن أصبحت صورة الإله الواحد الأحد صورةً صالحة لأن تتأسَّس عليها فكرة عالمية الدين، وعالمية الرسالة النبوية بالتالي، بعد أن كان ذلك متعذرا بل مستحيلا في ظل مرحلة "نبوة الميثولوجيا الصاعدة"، ليقوم هذا الواقع بمكوناته الجغرافية والديموغرافية والقيمية والوعيوية بحمل تلك الصورة الراقية السامية وما يتوالد عنها من مشروع قيمي إنساني، رسالةً إلى كل البشر في شتى أصقاع العالم، بعد أن كانت قد هيأته نبوات الميثولوجيا بمختلف مستوياتها ليصبح قادرا على التعامل مع هذه الصورة الجديدة للإله، ومع هذه المنظومة القيمية الإنسانية بعد ذلك.إن هذه الرسالة الدينية القائمة على "النبوة الهابطة" من السماء إلى الأرض، اختتمت مهمتها بمحمد بن عبد الله عليه السلام، وبالكتاب الذي أُنْزِلَ عليه وهو "القرآن" الكريم، منهية بذلك، الدور الوظيفي التاريخي لظاهرة النبوة بكافة أنساقها. وهو الأمر الذي لا يساعدنا على فهم أيِّ سبب موضوعي عميق يكمن وراء توقف البعض عند الحلقة التي سميت باليهودية، وتوقف البعض الآخر عند الحلقة التي سُمِّيَت بالمسيحية، وعدم التعامل الإيجابي مع الحلقة الأخيرة، مع أن اليهود والمسيحيين على حد سواء ما يزالون يعيشون في وهم انتظارها وترقب النبي المرسل بها، وهو النبي الذي لن يأتي وإلى الأبد مع كل أسف، ومع اعتذار السماء لهم عن هذا الوهم الناتج عن خلطٍ وكِبْرٍ آثمين.ولعله من السهل على أي مُنْصِفٍ أن يُدْركَ أن تَوَقُّفَ هؤلاء المتوقفين عند تلك الحلقات ورفض التجاوب مع الحلقة الأخيرة أو حتى اعتبار أنها هي بالفعل الحلقة الأخيرة، هو توقفٌ عند صورٍ ما تزال متخلِّفة في تصورها للإله عن التصور الذي قدمته تلك الحلقة، وهي تتعامل معه في إطارٍ أكثر تجريدا. تماما كما كان التوقف عند الحلقة الأخيرة وعدم اعتبارها قابلة للتطور من خلال العقل والعلم، هو توقف عند حدود لا شك في أنها متراجعة في تصورها للإله عما يقدمه العقل – النبي الأبدي – في مستويات وعيه وإدراكه الراهنة. ولا نَجد من افتراضٍ نفسر به رفض أولئك التعامل مع آخرِ حلقات النبوة متمثلة في اللحظة التي اصْطُلِحَ عليها بالإسلام، إلاَّ القول بأنهم يعتقدون بواحد من أمرين كلاهما يقطع بسفاهة من يعتقده. الأول هو تكذيب محمد بن عبد الله في دعوى النبوة، والثاني هو اعتبار أن إلها آخر غير الإله الذي أرسل عيسى وموسى هو الذي أرسل محمدا، وبالتالي فإن رسالته لا تعنيهم لأنها من إلهٍ غير إله اليهود والمسيحيين. وحسب إهمالِ الرسالة الإسلامية في حلقتها الأخيرة تهافتا، هذا السَّخف الذي تقوم عليه مبررات إهمالها المتصورة.يمكننا أن نلاحظ بطبيعة الحال اختلافات ذات دلالة بين النبوات في أشكال التعبير عن إعادة اللحمة بين الله والإنسان، سواء بين النبوات ذات النسق الواحد، أو بين النبوات وهي تقفز من نسق إلى نسق. وبكلمة أخرى فإن هذه اللحمة قد تحققت بشكل أو بآخر في معظم إن لم يكن في كل حلقات النبوة. ولم يكن أيُّ شكل من أشكال الاختلاف في صور التعبير النبوية – أيا كانت مستوياتها – عن "إعادة اللحمة" ناتجا إلاَّ بسبب الوعي الذي ظهر بصُوَرٍ عديدة سواء في الزمان الواحد باختلافه من مكان إلى مكان، أو في المكان الواحد باختلافه من زمان إلى آخر، أو باختلافه في الزمان والمكان معا.ومع أن ظاهرة النبوة قد ارتبطت منذ نشأتها بالوعي، لأنها لم تبرز إلى حيز الوجود إلاَّ انعكاسا له وتعبيرا عنه وتجاوبا معه في صُوَرِهِ وأشكاله العديدة، كاشفة لنا بالتالي – أي النبوة – عن ظاهرةٍ تعددت أشكالها وتنوعت واختلفت. إلاَّ أن ذلك لا يَمنع من الإقرار بأن التشابه في النبوات يكمن في أحد أهم عناصره، في هذا الاختلاف والتباين ذاته، من حيث أنه كله ناتج عن حقيقةٍ واحدة، هي حقيقة ارتباط ظاهرة النبوة بالوعي. إن هذا الارتباط إذن يمثل عنصر تشابه أساسي بين لحظات النبوة في كافة أنساقها.
الخلاصة