القضاء عند العرب قديم وله جذور تاريخية واجتماعية ـــ القاضي المستشار رشيد موعد
إن دور العادات والتقاليد والأعراف في ضبط الأفعال وتحديد منطق الترابط والتعامل بين الأفراد، لا يقل شأناً وأثراً عن دور القوانين... وإذا اعتبرنا القوانين سلطة المجتمع المكتوبة والموضوعة، فإننا نعتبر العادات والتقاليد سلطته غير المكتوبة ودستوره المحفوظ في الصدور.
فلا يتصور قيام مجتمع ما دون عادات وتقاليد اجتماعية تعبر عن مظاهر السلوك، وأساليب الناس في التفكير، وفي العمل، فالعادات الاجتماعية، بإجماع علماء الاجتماع، هي الدعائم الأولى التي يقوم عليها السلوك الاجتماعي المتكرر في كل بيئة اجتماعية... وهذا يعني أن تنشأ في كل جماعة من الجماعات طائفة من الأعمال، والأفعال والممارسات والإجراءات والطرق التي يمارسها الأفراد لتنظيم أحوالهم، وتعبر عن أفكارهم، وما يجول في مشاعرهم.
إن الأعراف القضائية عند العرب، وهي ما يعرف بالسوادي، قديمة قدم البدو أنفسهم، إذ تمتد جذورها إلى آلاف السنين، فالإنسان اجتماعي بطبعه. ومن خلال التجارب العميقة وجدت القبائل العربية أن مصلحتها الجماعية تقضي بحفظ النظام، واستقرار الأمن في ربوع البادية، ولهذا سلمت هذه الجماعات بسيادة العرف واعتبرت السلوك المخالف لذلك العرف جريمة كبيرة تعرض المجتمع للخطر، ويستحق مرتكبه أشد العقاب.
إن نظرة فاحصة للأصالة التي يتمتع بها تراثنا العربي القضائي يوصلنا إلى وجهة نظر تقول، بأن فكرة القانون سابقة لفكرة الدولة. ولهذا، فإن الشعوب البدائية قد عرفت القانون قبل أن تعرف الدولة. ولا بد للإشارة هنا إلى أن الأعراف القانونية لدى كثير من الشعوب البدائية تغرق بالخرافات والشعوذة، بينما تتميز الأعراف القانونية لدى القبائل العربية بالعقلانية والمنطلق.
ومن هنا أكد كثير من علماء الانثروبولوجي على أن هذه الأعراف هي أرقى ما توصل إليه الإنسان قبل الوصول إلى مرحلة الدولة. ومن المعروف أن القواعد القانونية تختلف عن غيرها من قواعد تنظيم السلوك الأخرى بوجود عنصر الجزاء، أي العقاب.
ولهذا، فإن توقيع عنصر العقاب تتولاه فئة محددة في القبيلة كما تتولاه جهة معينة في الدولة الحديثة.
إن الدراسة الميدانية للمجتمع العربي القبلي، عبر المراحل السابقة لوجود الدولة، تؤكد صحة النظرية القائلة، بأن القانون قد ظهر قبل ظهور الدولة بزمن طويل، لأن الإنسان لا يستطيع العيش إلا في مجتمع، وهذا بدوره لا يستقيم أمره إلا إذا ساده نوع من النظام، مما أدى إلى خلق وتطوير قواعد تضبط سلوك الناس في حدودها طوعاً أو كرهاً، وتأخذ هذه القواعد في الدولة شكل النصوص الشاملة الآمرة، وتقوم السلطة في الدولة بسن التشريعات اللازمة لحفظ النظام في المجتمع لضمان استقراره وتقدمه. ومن هنا يبرز أهمية الجهاز القضائي، والأجهزة المساندة له.
أما في المجتمع البدوي.. فإننا نجد مجموعة من قواعد السلوك، تطورت بطريقة فطرية، بحيث أصبح البدوي، يرى من الضروري ضبط سلوكه وفق أحكامها.. وقد تبلورت هذه القاعدة ـ أي الأعراف القضائية البدوية خلال فترة زمنية موغلة في القدم إلى أن أصبحت في صورتها النهائية عند البدو اليوم.
وتتشكل هذه الأعراف من مجموعة العادات، بالإضافة إلى السوابق القضائية، أي المثيلات حسب اصطلاح البدو.
ولا بد في هذا المجال من التفريق بين المثيلات والسوالف... فالسالفة هي القضية القديمة.. فإن حدثت مماثلة لها، سميت السالفة. أي تصبح في هذه الحالة، سابقة قضائية، وجمع سالفة، سوالف، وهي القضايا القديمة، فإن حدثت قضايا مماثلة لها، سميت السوالف (أي المثيلات) والسوالف تصبح عند ذلك سوابق قضائية، ويسترشد القاضي البدوي بأحكام المثيلات عند النظر في القضايا المماثلة لها، كما أن كل طرف في القضية يحاول إيراد السوابق القضائية التي تؤيد وجهة نظره، وغالباً ما تطورت القاعدة (العرف القضائي) حتى أصبحت قولاً مأثوراً.
ويمكن تلخيص الفروق بين المحاكم في الدولة الحديثة التي تعتمد على القانون بنصوصه الصريحة والشاملة، وبين المحاكم البدوية التي تعتمد على الأعراف القضائية غير المدونة بالأمور التالية:
أولاً ـ القضاة العرفيون ليسوا متفرغين لمهنة القضاء، ولا معتكفين في بيوتهم للفصل بين المتخاصمين... بل يعيشون حياتهم العادية، ويمارسون مهناً مختلفة، مما يمنحهم مجالاً أرحب لمعرفة طبائع البشر، ودقائق الأمور، وما اعتاد عليه الناس من سلوك في حياتهم اليومية.
ثانياً ـ يحكم القضاة بما ألفوه واعتادوا عليه وسمعوه من أحكام في قضايا مماثلة، وليس هناك قانون، أو دستور مدونين، ولكنها محفوظات على شكل أقوال مأثورة، وأمثال مطروقة، وهذا لا يمنع أن تكون هناك اجتهادات جديدة، وتطرأ بعض التعديلات من جيل لآخر للتناسب الأحكام مع العصر..
فالديَّة مثلاً كانت أربعين جملاً وتساق معها فتاة غرة جميلة، فتغيرت هذه الأيام إلى مبالغ من النقود.. واستبدلت الغرة بمهر عروس، يضاف إلى الدية في قضايا الدم.
ثالثاً ـ القضاء لا يتم إلا في بيت مشهور، وأمام جمع غفير، لا وراء الكواليس، وكذلك بحضور الكفلاء الذين يتعهدون بتنفيذ ما يصدر من أحكام.
رابعاً ـ الأحكام التي تصدر شفاهية، ولكنها محفوظة من قبل الكفلاء والشهود، وهذا لا يمنع من تدوينها، وحين انتشرت الكتابة والقراءة أخذ بعض الأطراف المتقاضية يقوم بتدوين الحجج والحق الصادر بشأنها، ويعطي كل طرف من المتخاصمين نسخة، وتبقى النسخة الأصلية عند القاضي.
خامساً ـ تقتصر العقوبات في القضاء العرفي على المغارم النقدية أو الإجراءات المعنوية، وليس هناك حكم بالإعدام، أو بالمال، فقد يحكم أحد القضاة ببتر يد المعتدي على المرأة، لكن يضيف عبارة، أو تشترى بالمال.
وقد نسمع عبارة في حكم القتل تقول «غلام مكتوف أو أربعون وقوف» أي على ذوي القاتل أن يحضروا لذوي المقتول غلاماً مكتوفاً ليقتلوه بدل رجلهم المقتول، أو أربعين بعيراً واقفاً. وبالطبع يحضر الأهون والأيسر... وفاقئ العين يدفع نصف دية ولا تفقأ عينه إذا وصل إلى القضاء، أما إذا ثأر المعتدى عليه لنفسه، فتسد هذه بتلك.
سادساً ـ في العرف ليس المجرم هو المسؤول عن الجرم الذي اقترفه، بل تطال المسؤولية جميع أفراد عائلته ممن تربطهم به بالجد الخامس.. في حين تقع المسؤولية على عاتق الجاني نفسه وفقاً للشرائع السماوية «ولا تزر وازرة وزر أخرى» سورة الإسراء، آية رقم 14 وكذلك القوانين الوضعية المدنية، وكذا في دفع الدية، أو الغرامات الناجمة عن القصاص، أو الحقوق، نرى أن أفراد عائلة الجاني يدفعون معه التعويض، كما توزع الدية على أقارب المقتول... يستثني من ذلك جرائم السرقة والاعتداء على العرض، حيث يتحمل الجاني ما فعلت يداه بمفرده، ولا يجد من يعيه، أو يساعده، بل يتنكر له الأقارب الذين كانوا يقفون إلى جانبه فيما عدا ذلك.
سابعاً ـ لسود الاعتقاد بصحة «البشعة» أي لحس النار باللسان لمعرفة المذنب من البريء... فهي حسب الاعتقاد السائد لا تؤثر ـ أي النار ـ في البريء، في حين تحرق لسان المذنب المنكر لذنبه.
ثامناً ـ المرأة مصدَّقة، إذا اتهمت رجلاً بأنه اعتدى على شرفها وفق القول الشائع «لا على دم شهود.. ولا على عيب ورود» لأنه ليس من مصلحة المرأة ولا من مصلحة عشيرتها ادعاء ذلك، لما يجلبه عليها وعلى عشيرتها من عار لا يمحى، وتبقى فضيحة أبدية... أما في ما يتعلق بتوريث المرأة، فإنها غالباً ما تعطى حلي أمها ومصاغها الذهبي، ويعطيها إخوتها عدداً من المواشي، وقد تعطى قطعة أرض تسمى «مارساً» ليزرعها زوجها، ويقوم على استثمارها.
المصادر:
1 ـ أخبار القضاة، قضاء العرف والعادة، لعبد الكريم الحشاش.
2 ـ تراث البدو القضائي، د. محمد أبو حسان.
جريدة الاسبوع الادبي العدد 1089 تاريخ 2/2/2008