لا يحب الشحم في الطعام
عندما تنضب المواضيع ومواد الكلام، يبحث متثاقل في جيوب معرفته، ويظن أنه بطريقته هذه سيكسر الصمت المؤقت المخيم على جوه مع من يجالسه، سواء كان هذا الجليس رجلا أم امرأة وتتفتق عن قريحته معلومة كأنها اكتشاف (نيوتن) أو (أرخميدس)، فيفاجئ من يجلس معه بأنه لا يحب الشحم في الطعام!
ينظر الجليس الى هذا الفطير، الذي يعتقد أنه يكشف سرا من أسرار الكون، وترتبك قدرته في تصنيف مشاعر نفسه، هل يضحك أم يغضب، ولو تلصص أحد الجالسين أو المارين من جنب هذين المتحاورين المفلسين، وتركهما عدة دقائق ليعود يتصنت عليهما، لوجد أن الحديث قد وصل الى مرحلة أن (شوربة العدس) بماء المطر أشهى من الماء العادي .. وأن الجليس قد انخرط في سرد ما يحب وما يكره من الطعام والأغاني و الدول العشائر والقبائل وحساسيته من قماش النايلون الخ ..
هذا المشهد، يتكرر كل يوم وفي مختلف أنحاء العالم، فالحديث بطبيعته يحب السهولة كجريان الماء ولأنه كذلك، فإنه يجري نحو الانحدار ولا يميل للصعود، فإن بدأ الحديث بكره البصل، فإنه سيمر بعدم الرغبة بركوب الحافلات وانتقاد الشعب الفلاني، وقد ينتهي بالكشف عن جرح في البطن حدث قبل ثلاثين عاما، فيرفع المتكلم قميصه ويضع أصبعه على أثر الجرح، فيفكر جليسه بجرح في جسمه، فإن لم يجد سينتقل بالحديث عن محاولات فاشلة لكلاب أرادت أن تنهشه.
هذا كله يعود للفراغ الكبير، ويبدأ مع عهد الطفولة حيث يقضي الطفل ساعات في محاولة رمي الحصى على صفيحة معدنية قديمة. ويعتبر (القال والقيل) مرحلة متقدمة من تلك المهارات (الفاقسة) التي تنتج عن الفراغ. فالنسوة اللواتي لا يجدن ما يتحدثن به في مرحلة يدخلن في الحديث عما يحب أزواجهن وما يكرهون ويعرجن على الأولاد، ثم يتناولن بحديثهن أي امرأة غائبة.
وكون الفراغ لم يعد يقتصر على الأطفال والنساء، بل امتد للرجال، فقد اكتسبوا تلك العادة المقيتة وتفوقوا بها على النساء.