«في عام 2015 لن يموت أحد بالسرطان في أمريكا».. هذا الشعار لم يكن مكتوباً على لافتة طبيب أورام، أو دعاية لشركة أدوية.. بل هو في الحقيقة هدف تسعى NCA الأمريكية للوصول إليه ضمن مشروع «رفع المعاناة والوفاة من السرطان»، والذي بدأ منذ العام 2002، ويفترض أن يكون محقّقاً في نهاية عام 2015، وذلك بعد نجاح مشروعها (فهم السرطان)، الذي استغرق تطبيقه قرابة الثلاثين عاماً، من 1971 وحتى 2002، وهذا يعني ـ كما يقول الدكتور عامر شيخ يوسف (اختصاصي أورام) ـ أن «نجعل السرطان مرضاً غير قاتل، ومعدّل وفياته السنوية في الحدود العادية، مثله مثل أيّ مرض».
حتماً، تلك النتائج والأهداف لم تكن لتوضع على طاولة الرهان للتطبيق إلا بعد أن قدّم العلماء للبشرية خبر اكتشافهم المراحل الستّ التي يمرّ بها الإنسان منذ ولادته وحتى وفاته، وهي ـ بحسب الدكتور عامر شيخ يوسف ـ «مرحلة التأهب للسرطان، ومرحلة ما قبل السرطان، ومرحلة التحوّل السرطاني، ومرحلة الانتشار، تضاف إليها مرحلتا الولادة والموت»، وفي كلّ مرحلة من هذه المراحل ـ كما يقول الدكتور نبيل مريدن (رئيس الجمعية السورية ـ الإيطالية لأمراض السرطان) ـ «هناك تبدلات جينية معروفة، ويمكن التدخل فيها».. إذاً، وإن لم يستطع الطب منع السرطان بالتشخيص المبكر أو الوقاية، يمكنه تعديل سلوك السرطان حتى لو وصل إلى مرحلة الانتشار.
أدوية ذكيّة
وفيما بعد، وصلت الثورة إلى العلاج، وظهر ما يسمّى «الأدوية الذكية» أو الاستهدافية، لأنّها ـ كما يقول الدكتور عامر الشيخ يوسف ـ «تعتمد على توقيف نموّ السرطان دون أن تصيب الخلية السليمة، فهي أدوية ذكيّة تعرف هدفها بدقة ولن تصوب إلا عليه»، ومن المعروف أنّ الأدوية التقليدية، كالعلاج الكيميائي، أدوية سامة تصيب الخلايا السليمة والمصابة، ولكنّها تُعطى للمريض على اعتبار أنّ الخلية السليمة قادرة على ترميم نفسها، وفضلاً عن ذكاء هذه الأدوية، فهي رحيمة ـ على حد تعبير الدكتور نبيل مريدن ـ لمجرد تجنيبها المريض أيّة مضاعفات جانبية لتعاطي الجرعة، مثل «تساقط الشعر، وفقدان الشهية، والإرهاق، بل يتابع حياته بشكل طبيعي، ويمكنه الذهاب إلى العمل بعد تعاطي الدواء مباشرةً»، وبالفعل، قبل عشر سنوات كان محمد يعاني من سرطانٍ في فقرات الظهر لم يفقده الحركة، كما توقع الأطباء، قالوا له: «إن لم تمت فحتماً ستفقد قدرتك على الحركة»، لكنه اليوم يرافق والده المصاب بسرطان البنكرياس من الرقة إلى دمشق ليتلقّى علاجه.. ويوضح الدكتور عامر الشيخ يوسف، الطبيب المعالج للأب وابنه: «الابن، الذي تلقّى علاجاً تقليدياً، لم يحتج خلال السنوات العشر الماضية إلى أيّة جرعة، أو حتى مراجعة للطبيب، وكذلك الأب، فنحقنه بدواء ذكي لا مضاعفات جانبية له، ليسرع في العودة إلى أسرته وعمله، كما عاد محمد وقتها إلى الصف الأول سيراً على الأقدام».
تشخيص متأخر
منذ 2002 تمّ إنشاء السجل الوطني لمرضى السرطان، وحتى الآن لم يُصدر نشرة واحدة على الأقل عن الأعداد الحقيقية لمرضى السرطان في سورية، وكلّ ما يظهره مستشفى البيروني للعلن هو الإحصائية التقديرية بنحو 1300 مريض جديد سنوياً، في حين توقعت منظمة الصحة العالمية أن يكون هناك سنوياً 35 ألف حالة سرطان في سورية، وهذا لا يعني أنّنا بخير وأفضل حالاً من غيرنا الذي يعلن سنوياً عن أعداد تفوق توقعات منظمة الصحة.. هذا يعني أننا في وضع خطر ـ كما يفسر الدكتور عامر الشيخ يوسف ـ «عندما نعلن عن 13 ألف حالة سرطان جديدة فقط، فهذا لا يطمئن، لأنّ السرطان في هذه الحالة لا يشخّص إلا عندما يظهر سريرياً»، وبمعنى آخر ـ يضيف نبيل مريدن ـ «كلّما زاد الرقم التقديري لأعداد المرضى، معناه أننا نشخص الحالات قبل أن تصل إلى مرحلة الانتشار أو قبل أن يصبح المرض حاداً أو مزمناً».. لذا، كان من المفروض، لتجنب وصول 30 % من مرضى السرطان إلى مرحلة الاحتضار، أن يتمّ تشخيص السرطان ما قبل ظهوره السريري بكتلة. في حين تؤكد الدكتورة لينة أسعد أنّ «أهمية الكشف المبكر ليست في زيادة نسب الحفاظ على العضو المصاب فقط، بل وبزيادة نسب الشفاء أيضاً، أو تحسين الإنذار، والتي وصلت في حالة سرطان الثدي إلى 61 %، والأهمّ من ذلك كلّه التوفير في تكاليف العلاج؛ فالأدوية تؤخذ من الميزانية».
علماً بأنّ منظمة الصحة العالمية أطلقت في العام 1999 برنامج الكشف المبكر عن السرطان، ولكنّه لم يفعّل في سورية، والدليل ما جاءت به الإحصاءات من أنّ هناك 2000 حالة سرطان ثدي مسجّلة، بينما كان من المتوقع، لنكون في مضمار الأمان، أن نسجّل 6000 حالة..
إذاً ـ كما تضيف لينة أسعد ـ «هناك 4000 حالة ليست مشخّصة حتى الآن، وننتظر ظهور الأعراض السريرية لنشخصها، وهذا الوضع خطر، إذ يقتطع من الميزانية دون جدوى، حيث تصبح قابلية الشفاء أقلّ، واحتمالية فقدان العضو أكبر»، أمّا سرطان عنق الرحم، والذي يعتبر مثالياً للكشف المبكر، فيؤكد الدكتور وليد الصالح، مدير مستشفى البيروني «أنه السرطان رقم واحد بعدد المصابات بين سرطانات الجهاز التناسلي الأنثوي»، وغالبيتهن تمّ استئصال أرحامهن وحلمهنّ بالأمومة.
فات الميعاد!!
ومن أشهر أنواع السرطان، التي يمكن الكشف عنها مبكراً: سرطان الثدي، وعنق الرحم، وبطانة الرحم، والقولون، والرئة، والجهاز التنفسي والحنجرة، ووفقاً للدكتور أحمد ليموني (اختصاصي تشريح مرضي): «هناك طريقتان للكشف المبكر عن السرطان، إمّا بتحديد المجموعة المعرّضة للخطر والتدقيق فيها بالتحاليل الدورية، كما في حالة القصص العائلية، حيث يتمّ التركيز على إجراء فحوص دورية لكلّ النساء في العائلة عندما تصاب إحداهن بسرطان الثدي، وإمّا بإجراء المسح على كلّ شرائح المجتمع».
وبما أنّ النوع الأول ـ كما يوضح الدكتور عامر شيخ يوسف ـ «يحتاج إلى إمكانات مادية عالية»، فمن الممكن الإسراع إلى تطبيق النوع الثاني، وهذا ليس مستحيلاً، ففي أمريكا هناك 75 % من النساء أجرين فحص الماموغرام (الأشعة للكشف المبكر عن سرطان الثدي) بالمسح، ولكن ـ كما يقول الشيخ يوسف ـ «لا حاجة بنا إلى الإسراع إلى توعية النساء لإجراء هذا الفحص، إذا كنّا بطبيعة الحال لا نملك إمكانات مادية وبنية تحتية وكوادر طبية قادرة على قراءة التحاليل وإجرائها، فهذا تضييع للجهود التي ستبذل».
وليس من باب الدعابة ما رواه أحد مراكز معالجة السرطان، من أنّ طبيباً أرسل فتاة عمرها 14 سنة لتجري فحص ماموغرام للكشف المبكر عن سرطان الثدي؟؟ .
وبالنتيجة، برامج الكشف المبكر أصعب من برامج العلاج، لأنّها مرحلة تقتضي اختيار وسيلة التشخيص الصحية ذات النوعية العالية والحساسية العالية والسعر المعقول، ولا توجد بروتوكولات معايير للكشف المبكر، وفي رأي الشيخ يوسف: «نحن نعيش في حالة فوضى، وغياب المعايير يمثل مشكلة أودت بـ 99 % من مرضى السرطان إلى مرحلة الاحتضار والمرض المزمن».
إبرة ماء
يحتاج مرضى السرطان، في مراحل متقدّمة من المرض تسمى «مرحلة المرض المزمنة»، إلى عناية متكاملة تشتمل على معالجة الأعراض الحسية والجسدية والنفسية والعضوية، وفي الوقت نفسه مساعدة المريض وذويه على تحمّل المرض ومضاعفاته، وهذا ما يطلق عليه علمياً «العلاج التلطيفي» (Palliative car)، الذي يعد بمثابة منهاج طبي متكامل نفسياً ودوائياً للارتفاع بمستوى نشاط المريض ومساعدته على ممارسة حياته بطريقة طبيعية أو أقرب ما تكون إلى الطبيعية.. وبحسب الإحصاءات التقديرية التي قدمها الدكتور وليد الصالح، مدير مستشفى البيروني: «يوجد في سورية من 20 – 30 % من مرضى السرطان وصلوا بالفعل إلى مرحلة المرض المزمنة»، وبالتالي هم الآن ليسوا في وضع يسمح لهم بتلقّي أيٍّ من المعالجتين الشعاعية أوالكيميائية، لأنها ـ كما يضيف الصالح ـ «لن تفيدهم في شيء، بل قد يكون ضررها أكبر من نفعها، بالاستناد إلى تحاليل الكبد والكلية»، ولكن، يبدو أنّ مستشفى البيروني لا يعرف شيئاً عن منهاج المعالجة التلطيفية أكثر من الاسم والمبدأ فقط، لأنّه، وبمجرد كشفت التحاليل عدم جدوى الدواء بالنسبة إلى المريض، يعرض الأطباء على أهل المريض إمّا الإبقاء عليه في المستشفى وحيداً ليتلقى علاجاً للمضاعفات وليس للمرض نفسه، من سيرومات ومسكّنات، أو أخذه معهم إلى المنزل والتسليم بأمر الله.. و»الجزء الكبير من أهل المرضى، الذين يتفهمون الواقع ويأخذون مريضهم معهم، هم في الحقيقة تفهّموا واقع المستشفى فقط، هذا الواقع الذي يقرّ بوجود ممرضة واحدة لـ 37 مريضاً، والأطباء حتماَ لن يجدوا الوقت الكافي لمريض حاد، حتى يجدوه لمريض مزمن.
ا
لموت مرتين
وريما واحدة من هؤلاء.. خرجت بزوجها المشرف على الموت، لتموت معه كلّ يوم في المنزل، لعدم معرفتها كيفية التعامل معه، وإسكات آلامه، ومساعدته في التغلب على صعوبة تناوله الطعام، تشكي همّها: «في كلّ مرّة احتاجَ فيها أب أولادي، الذين ذاقوا طعم اليتم قبل أن يموت، إلى مسكّنات أو سيرومات، كنّا نركض به من حمص إلى دمشق، ربما لو فارق الحياة كان ذلك أرحم له ولنا من رؤيته يتعذّب».. فإذاً أيّ نوع من العلاج التلطيفي يقدّم لمرضى السرطان إذا كان العلاج التلطيفي ـ كمفهوم ـ هو «خدمات تقوم بتحسين نوعيّة الحياة لدى المريض المحتضر، الذي فقد الأمل في شفائه بالعلاجات المتوافرة للمرض نفسه»؟، في حين تعرّف منظمة الصحة العالمية العلاج التلطيفي بأنّه «العلاج الذي يهدف إلى منع حدوث وتخفيف المعاناة، وتقديم المعونة والدعم للحصول على أقصى درجة من الحياة الجيّدة والمريحة للمرضى الذين يعانون من أمراض مستعصية كالأورام»، بل يمكن القول، وفقاً لنبيل مريدن، «إنّ غياب هذه المعالجة تزعج المريض من الناحية الجسدية، وتمتد لتص إلى آثار نفسية سيئة، تصعّبُ على المريض تعايشه مع المرض والبقاء في حالة سلام وراحة نفسية إلى أن ينهيه المرض».
صحيح أنّ المعالجة التلطيفية حديثة العهد، ولم يعرفها العالم قبل الثمانينات، وهو العام الذي عولجت فيه أوّل حالة سرطان مزمن تلطيفياً، إلا أنّ الدكتور نبيل مريدن يؤكّد أنّها «أصبحت اختصاصاً مستقلاً في غالبية دول العالم منذ عام 2000»، و»يطبّق هذا العلاج أكاديمياً ـ كما يضيف نبيل مريدن ـ بتشكيل فريق طبيّ مكوّن من أطباء وممرضين واختصاصيين نفسيين ومرافقين للمرضى لا علاقة لهم بالطبّ، بل لمساعدة المريض على التنقل والخروج».
ويأخذ العلاج التلطيفي في الاعتبار ليس المريض فحسب، بل وذويه أيضاً، لأنّه يقوم أساساً على احترام اهتمامات المريض، ورغبته في البقاء مع عائلته لأطول مدة، ومتابعة ما تبقى له من أيام حياته برفقتهم، غير أنّ الأعراض المزعجة التي يتعرّض لها في مرحلة المرض الأخيرة ـ كما يقول أحمد ليموني «تجعل مريض السرطان المزمن لدينا يموت من الألم النفسي، ومن قلّة الاهتمام، وربما على يد أهله الذين لم يعلّمهم الكادر الطبي حتى كيفية إعطاء مريضهم الجرعات المناسبة من المورفين».
محكومون.. بالموت
لم يعد جديداً، التحدّث عمّا يعانيه مرضى السرطان من آلام، تختلف شدتها ونوعها بحسب اختلاف نوع ومكان السرطان ومدى انتشاره، ويتوقّف تأثيره في المريض على درجة تأثّره وقدرة تحمله، والمساعدة التي يقدّمها محيطه للتعايش مع هذه الآلام.
ومع غياب معايير الكشف المبكر، وتزايد أعداد مرضى السرطان المزمن، يمكن القول: إنّ الطريقة، التي نتعامل بها مع مريضنا المصاب بسرطان مزمن، لا تحقّق العناية التلطيفية أياً من أهدافها الأساسية، التي تتمثّل في تحرير المريض من ألمه الجسدي والنفسي ومعاناته وإعطائه شعوراً بالاطمئنان إلى أنّه إلى جوارعائلته، من خلال تقديم الرعاية الصحية والعاطفية والنفسية والروحية والاجتماعية والتمريضية له، وتحسين نوعية حياته، ورفع المعاناة عنه وعن عائلته، مع الأخذ في الاعتبار حاجاته البدنية والنفسية والاجتماعية والروحية، وإذا كانت سورية غير قادرة حالياً على افتتاح مراكز للعلاج التلطيفي، فلماذا لا تتركز أولويات صرف ميزانية السرطان في ثلاثة أساسيات هي: «تأمين الدواء، واعتماد العلاج الناجح المتمّم للجراحة، والتشخيص المبكر للسرطان، وزيادة معدلات الشفاء من السرطان»، والاستفادة من تجارب الغير لن تقف عائقاً في وجه هذه الأولويات الثلاث، ومن هذه التجارب ما تحدّثت عنه الدكتورة فالنتي دانيلا، رئيسة قسم مركز أوسبيس HOSPECI لمعالجة مرضى السرطان المزمن: «استبدلنا في إيطاليا المستشفى العادي، الذي يعالج بالكيميائي والأشعة بمستشفى خاص لمرضى السرطان في مرحلة الموت، الذين لم يتبقّ أمامهم إلا فرصة قليلة للحياة، وبالاعتماد على تمويل الحكومة والتبرعات».
ونحن أيضاً، من الممكن أن نعطي مريض السرطان كرامته في آخر مرحلة من حياته، وأن نمنحه فرصة البقاء مع العائلة، والموت في أحضانها، دون ألم جسدي أو نفسي.