الاعمى
أمسية من عذاب في إحدى أجنحة اليأس، و رجلٌ في مقتبل العمر هناك يجلسُ و الدموع..
جميلُ الوجه؛ هيبة ووقار، مقلتان كالبحر أسرارهما.. و رموش تحسده عليها آلافُ الجميلات.
كأبطال الروايات وصفه!!
ملامح وجهه اليوم جامدة..
بعد ثورة حياة و صخب شباب!!
ربُّ عائلة؛ زوجة و أطفال في براري الفقر تائهون!!
و هو رويداً رويدا في نفق دامس يسير.
القدر يطلق رصاصة المرض، تصيبه في مقتل نظر..
يكادُ لا يلمس من أقمشة النور إلاّ أثواب الظلام!!
رفيقة عمره مواسية، تشد على يده و العبراتُ تتدافع في عينيها، تصرخ بصمت ألف صرخة..
و صوتٌ على دروب الرجاء خافت يقول: - الصبر حبيبي، اجعل إيمانك بربك كبير.
من أعماق إيمانه بركان قناعة و تبصر: - و نعم بالله.
نافذة أمل تلقي صدى سؤال من زوجة تخشى الأعظم على أرض استيائه: - عزيز النفس، أبيٌّ..
و لكن الحالُ لا يحتمل التأخير، اذهب إلى أبيك، عله إن علم بأمرك رأف قلبه، و حلقت ملائكة الرحمة في نفسه.. عسى أن تتراقص فراشات الأبوّة في روحه اللاهثة خلف جواري المال بعد غياب!!
صوتٌ يقطع أوتار الآمال بسيف " لا".
تعود أم أطفاله لتقول هذا حق لك، إنه والدُك، يملكُ من فضل الله المال الوفير..
و أمام إلحاح الزوجة و جوع الصغار، كان لا بدّ من الرضوخ!!
متلمسّاً سبيله بعصى، متعثراً أحيانا يجوب شوارع القرية، خطوةً خطوة إلى مزرعة أبيه..
منهكاً يقفُ على مشارف تل، و الحرُّ يلهبُّ جسده يرديه ظمآن، و حبّات العرق تلثم جبينه..
نباح كلب و هزة ذيل ترسم لوحة بريشة من سرور!!
و يرتمي هذا الصديق في أحضانه، يكاد من لهفته أن يرميه أرضاً..
من البعيد صوتٌ أجش و خيالُ: - ماذا تريد؟ لمَ أتيت؟!!
قرار بالرحيل أرعد كالعاصفة في وديان أفكاره، و لكن، أطفال ينتظرون الطعام، و هو منذ ثلاثة أشهر عاطل عن العمل... كلمات تنزف حسرة: - أبي، أنا مريضٌ.. نظري بات ضعيفاً، بالكاد أستطيع أن أرى أمامي، أنا عاجزٌ؛ لا مال لدي ولا وظيفة، أريدُ نقوداً لإجراء عمليّةٍ مستعجلة و..
يقاطعه و أفاعي اللؤم تحرك لسانه تنفثُ سموم كلماته الجارحة: - ماذا؟!!! تريد مالي!! ارحل فطلبك مرفوض، أنت الذي عصيت أمري، قتلت في عقر هيبتي الإباء، بمطرقة تهورك هشمت أحجار قراري، نسفت بزواجك برج أحلامي..
مثقلا ً بالخيبة يعود الشاب أدراجه، يرافقه كلبه الأمين..
حروفٌ تتطايرُ ندماً: - كم تريد، سأعطيك المال.
يرحلُ و القلب يعتصرُ ألماً، و كرامته تهدرُ غضبا..
وفي مملكته الفانية أبٌ أعمى القلب، ضرير الحنان، كفيف الإنسانيّة..
جاهلٌ يقتات من أشجار المادة ثمار جشع و سراب!!
السنين تمرُّ؛ و يدُ العون تمتدُّ لهذا الشاب، تساعده على تحمّل قسوة الأيّام.
و صفعة قدر ترمي الأب الجائر سقيما، و قد ألمّت صاعقة وباء بماشيته..
و استعرت نيرانٌ مخفيّة بلون الانتقام من طاغية جبّار، عبداً كان للمال، ينفذ أرضاءً لسيّده جرائم غطرسة و تكبّر!! و هو في القعر مستوطنُ.
روحه تلفظ أنفاسها الأخيرة، صحوة ضمير و قطرات كلام: كنت أعمى.. سامحني.
و في ربيع الحياة شابٌ مبصر الإيمان، قوي العزم، كبير الخلق، جبّارُ.. و زوجة عطوف وفيّة.
حسام فوزي سعيد - كاتب من لبنان