( خديجة بين يدي الموت )
قصة قصيرة
كان الليل قاسياً كوحشٍ يُزمجر فوق جُثّة الفريسة .. والسماء
تختنق أنفاسها غرقاً تحت الأمواج المتلاطمة والمعربدة لذرّات
الفسفور الأبيض والرصاص المسكوب ... وراحت ذئبة صهيون
تشرب من دماء الشهداء حتى ارتوت ! .
وأخذ قطاع غزة العائل الفقير يتهدّم شيئاً فشيئا ، وطفقت بيوته المحاصرة تندقّ وتُسحق وتتراكم على الأرواح الشمّاء والهامات العالية ..
بينما مجلس الطراطير يتفرّج صامتاً ، وأصحاب الفخامة
والجلالة والسمو يصفّقون مهللين مستبشرين !!! .
وسط هذه المحرقة الإجرامية والتقتيل المجّاني البشع ، ومن جوف
منزل هزيل ضئيل كان لا يزال صامداً بإذن ربّه ،
صرخ صوت متألّم متقطّع الأنفاس لا يكاد يبين لإمرأة عجوز أخذ الوجع والمرض والموت المُنتَظَر بمجامع روحها الصابرة وجسدها
الرميم :
ــ آآآه ... يارب فرجك ... آآآه يارب رحمتك ... الوجع ذبحني ...
ما إلنا غيرك يا الله ، ترُدّ عنا صواريخ اليهود وأعوانهم اللي
قتلوا محمد ابني الوحيد ورمّلوا زوجته ويتّموا ابنه محمد الصغير
... !
وما كادت المريضة الفانية تُتمّ كلماتها حتى على صوت نشيج وبكاء في عتمة الركن المقابل مِن الغرفة ، فهتفت العجوز قائلة :
ــ لا تبكِ يمّه يا خديجة ، لا تبكِ .. ومحمد الله يرحمه ، مات على
الحق ، يعني مات شهيد ، والشهيد يمّه ياخديجة في الجنة
حيّ عند ربّه ... وأنا هيّنيْ إن شاالله لاحقيته بعد شويّة ...!
لملمت خديجة ذات العشرون ربيعاً شتات نفسها ، ومسحت عَبَرَاتها بيدها الرقيقة الهزيلة ، ودنت من حماتها المحتضرة
وهي تحتضن وليدها وكأنها درع له يُحصنه من حمم القذائف النارية التي كانت تنهمر من حولهم :
ــ سلامتك يا عمتي ، لا تقولي هيك الله يشفيكي ويطوّل عمرك
أصلاً أنا ومحمد بنتونّس بكِ بعد ربّنا ...
وقبل أن تسقط دموعها أكملت تقول :
ــ بيكفي نَفَسك في البيت .
مدّت المرأة السبعينية المُشرفة على سكرات الموت يدها بصعوبة
نحو كنّتها التي هوى فؤادها الغض منذ أمد بعيد في غياهب الحزن ، فأخذتها ووليدها الرضيع وغاصت بهما في أعماق حنايا صدرها الذي يكاد نبض الحياة أن يُزايله ، وبكت قائلة :
ــ خلّيني أتودّع منّك ومِن ريحتك الطيبة ، قبل ما أموت ... أنا
شايفة خيال مَلك الموت فوق رأسي .. واقف عند الباب ...
يا أهلاً بلقاء الحبيب ... !!
شايفة النور يا خديجة ؟!!! ...
تمتمت خديجة بصوت الإيمان :
ــ لا إله إلا الله محمد رسول الله ... !
وتكالب المجرمون وتكاثف القصف الشيطاني مِن الجوّ والبرّ
والبحر واشتعلت السماء والأرض بنيران الحقد اليهودي .. فاستحالت غزة إلى أتون يستعر لا برداً فيه ولا سلاما ...
وبغتة قُرِعَ باب المنزل فقامت روحها القرءانية مُنقادةً تمشي على حذر ، وقد تركت طفلها اليتيم وحيداً عند غروب شمس الحياة ،
يكابد شظف الحرمان ويُواجه محرقة الجلاّد ! ..
وهناك خارج حدود الكون وعند بوّابة البرزخ قال الضيف الكريم
الآتي مِن لدُن إله العرش والذي كان يشعّ بياضاً ونوراً :
ــ يا أمَة الله إنّ الله سبحانه يُقرؤكِ السلام .
فقالت خديجة :
ــ الله السلام ومنه السلام وعليك وعلى الشهداء السلام .. هل جئتَ لتأخذ عمّتي ؟ ..هي في انتظارك الآن ! .
فتبسّم ضاحكاً من قولها ثم أجاب :
ــ سبحان مَن يُقدّر المَقادير ويُوقّتُ الآجال .. تلك المؤمنة الصابرة
لا يزال في عمرها بقيّة من رمق .. وإنما جئتُ إليكِ ! ..
ونظرت إليه بذهول وتمتمت : أنا !!! ...
ورنت إلى محمدها الصغير عبر الجدار الفاصل وسالت دمعة
حانية ، وما إن رددت الشهادة حتى اجتاحتها قذيفة تُلمودية معتدية مزّقتها إلى أشلاء نورانية أضاءت
الوطن وهزمت الظلام ! .
بقلم : ايهاب هديب
جميع الحقوق محفوظة بأمر الله