من ذخائر التراث الأدبي العربي
===
موسوعة العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي------
نفاسة العقد الفريد
إنّ الحديث عن كتاب "العقد الفريد" هو حديثٌ عن نموذجٍ من نماذج الموسوعات العلمية الأدبية العربية التي ذاع صيتها، والتي ينبغي أن يتعرّف عليها أبناء أمّتنا، كغيره من موسوعات التراث العربي.
ونبدأ بـالتعريف بصاحبهِ وهو الأديب الأريب أبو عُمر شهابُ الدين أحمدُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ ربِّهِ القرطبي الأندلسي، وهو أحد علماء وأدباء الأندلس المشهورين.
وُلِد في قرطبة عام ست وأربعين ومئتين للهجرة، وكانت قرطبة -ذات الطبيعة الساحرة- من أعظم المدن الأندلسية حضارةً ونهضةً علمية -آنذاك-، وهي تشبه بغداد حاضرة الدولة العباسية في ذلك الوقت، مِن حيث النهضة العلمية، والحضارة، والحركة التأليفية النشطة فيها.
نشأ ابن عبد ربه بين أحضان تلك الطبيعة الساحرة، فبعثت في نفسه حب الشعر فقرضه وبرع فيه، وظهر صداها في شعره، كما تتلمذ في تلك المدينة على طائفة من شيوخ عصره؛ كالخُشَني وابن وضّاح، ويحيى بن يحيى الفقيه، وبَقيّ بن مَخْلَد، وجرياب المغني المشهور.
وقد لزم ابن عبد ربه قرطبةَ طوال حياته، ونهل من علوم الشرق التي زحفت إلى الأندلس، عن طريق استقدام الأدباء والعلماء إليها، ثم أصيب في أواخر حياته بمرض الفالج، كما أصيب الجاحظ من قبله بهذا المرض.
وتوفي ابن عبد ربه بقرطبة سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة للهجرة.
يقول عنه الثعالبي -صاحب "يتيمة الدهر"- في ترجمته له: «إنه أحد محاسن الأندلس علماً وفضلاً وأدباً ومثلاً، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة».
ومن الجدير بالذكر أنه لم يصل إلينا من كتبه سوى هذا الكتاب "العقد الفريد"، وقد آن الأوان لنشرع في الحديث عنه، حيث نجد أنّ ابن عبد ربه بدأ كتابه بمقدمة وضَّح فيها الدافع الذي دفعه لتصنيفه، وبيّن فيها مضمون الكتاب، والمنهج الذي سلكه.
أما عن الدافع لتصنيفه؛ فقال: «وبعدُ، فإنّ أهلَ كلِّ طبقةٍ وجهابذةَ كلِّ أمّةٍ قد تكلّموا في الأدب، وتفلسفوا في العلوم على كلّ لسان ومع كلّ زمان، وأنّ كلّ متكلِّمٍ منهم قد استفرغ غايتَهُ، وبذَلَ جدهده، في اختصارِ بديعِ معاني المتقدِّمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين، وأكثروا في ذلك، حتى احتاجَ المختصَر منها إلى اختصار والمتخيَّر غلى اختيار».
وأما عن المحتوى فيقول: «وقد ألّفتُ هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الألباب، وإنما لي فيه تأليف الأخبار، وفضل الاختيار، وحسن الاختصار، وما سواه -يقصد المعلومات- فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثورٌ عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه».
وهذا الحكم في الحقيقة لا يستقيم إطلاقه دوماً، حيث توجد من التأليفات ما هي أصعب من الاختيارات والتصنيفات أحياناً بحسب الموضوع والجهد والحال.
وفي موضعٍ آخر في بيان المحتوى الذي يميّزُ كتابه عن الكتب السابقة يقول: «وقد نظرت في بعض الكتب الموضوعة، فوجدتها غير متصرفة في فنون الأخبار، ولا جامعة لجمل الآثار، فجعلت هذا الكتاب كافيًا شافيًا، جامعًا لأكثر المعاني التي تجري على أفواه العامة والخاصة، وتدور على ألسنة الملوك والسُّوْقَة، وحليت كل كتاب منها بشواهد من الشعر، تجانس الأخبار في معانيها، وتوافقها في مذاهبها؛ ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا على قاصيته وبلدنا على انقطاعه حظًا من المنظوم والمنثور».
فالكتابُ كما هو واضح من تلك العبارات التي أوردها المصنِّف، وتدل على تواضعه أيضاً، يُعَدّ من الموسوعات الأدبية التاريخية الاجتماعية، جمَعَ فيه مجموعة من النصوص الأدبية في الشعر والنثر، ما بين حكمة مأثورة أو قول مشهور أو مثل سائر، بالإضافة إلى طائفة من الأخبار التاريخية والاجتماعية وغيرها، وطبائع النفس والنوادر والملَح، وغير ذلك، وبهذا اندرجَ ضمن الموسوعات العلمية المشهورة.
وفي مقدمة الكتاب أشار المصنِّفُ إلى عنوانه، والسبب في اختياره فقال: «وسميته كتاب (العِقد الفريد) لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة السلك وحسن النظام، وجزأته على خمسة وعشرين كتابًا، كل كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءًا، في خمسة وعشرين كتابًا، وقد انفرد كل كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد».
هذه الفكرة عن التسمية التي ذكرها المصنِّف في المقدمة؛ تقطع كل ما دار حول العنوان من أقاويل، وتؤكِّد أن اسمه (العقد الفريد)، وأنه قائم على التخييل والتشبيه، كما يؤكِّد ذلك أيضاً تقسيم الكتاب، وتسمية كل قسم منها، فقد تخيَّل ابن عبد ربه كتابه عقداً منظوماً، وسمّى كل باب باسمٍ من أسماء ذلك العقد؛ والعقد في حقيقته يتكوّن من خمس وعشرين حبة ثمينة، لكل حبة منها اسم معروف، وأنفس حبات العقد هي الحبة الوسطى التي تسمّى (واسطة العِقد)، عن يمينها اثنتا عشرة حبة، وعن يسارها اثنتا عشرة حبة أخرى، وأسماء الحبات من جهة اليمين تختلف.
وهي على هذا النحو مبدوءة من الواسطة عن اليمين ويقابلها مثلها عن اليسار:
المُجَنَّبَة، ثم العسجدة، ثم اليتيمة، ثم الدرة، ثم الزمردة، ثم الجوهرة، ثم الياقوتة، ثم المرجانة، ثم الجمانة، ثم الزبرجدة، ثم الفريدة، ثم اللؤلؤة.
إلّا أنّ أسماء الحبّات من جهة اليسار أضافَ إليها كلمة (الثانية) فيقول: المجنبة الثانية، ثم العسجدة الثانية، وهكذا...
ولا أحد ينكِر على المصنِّف تفرّده بهذا النظام الذي يدلّ على ابتكارٍ من وحي شاعريَّته، كما لا ينكر أحدٌ أنه استقى أسماء موضوعاته من بعض الكتب السابقة وعلى رأسها كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة الدَّيْنَوَري.
أما عن المنهج الذي سلكه ابن عبد ربه في كتابه فيقول هو عنه: «تطلّبتُ نظائر الكلام، وأشكال المعاني، وجواهر الحكم، ودروب الأدب، ونوادر الأمثال، ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابًا على حدته؛ ليستدل الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كل باب»، يشير هذا إلى جزء من المنهج الذي اتبعه المؤلف، وهو منهج علمي سديد، يعتمد على الترتيب المنطقي المنظم للأفكار والموضوعات، وجعلها في باب واحد، والحقيقة أن هذا المنهج الذي اتبعه قد جنبه الوقوع في عيب التكرار، الذي رأيناه في بعض المؤلفات، وكان ابن عبد ربه دقيقًا عندما وضع في اعتباره حال المتلقي ساعة تأليف الكتاب، إذ كان من دوافع اختيار ذلك المنهج -كما أشار إلى ذلك - تجنيب القارئ مغبة الجهد في البحث عما يريد، فجاءت أبواب الكتاب بمثابة الفهارس. وهذا الجزء من المنهجية يتعلّق بالجانب الأول وهو النظام.
ثم نمضي خطوة أخرى في طريق المنهج أيضًا تتعلّق بجانب آخر وهو اختيار النماذج، نلمحها في قوله: «وقصدتُ من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهراً، وأظهرها رونقاً، وألطفها معنى، وأجزلها لفظاً، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة». وهو بهذا يقصد من وجهة نظره الشخصية، فهو يعتمد على التأثر الذاتي، والتذوق الفردي، ويفصح عن تمتّعه بذوقٍ فنّيٍ رفيعٍ يَعتدّ به.
وجانبٌ ثالث من جوانب المنهج العلمي الذي استخدمه يشير إليه أيضاً بقوله: «وحذفتُ الأسانيد من أكثر الأخبار طلباً للاستخفاف والإيجاز، وهرباً من التثقيل والتطويل؛ لأنها أخبار ممتعة وحكم ونوادر، لا ينفعها الإسناد باتصاله، ولا يضرها ما حذف منها»، فهو لا يكثر من ذكر الأسانيد عند إيراد الأخبار؛ حتى لا يمل القارئ أو يطول الكتاب.
وهذه الطريقة التي أشار إليها رغم أنها تُيَسِّر على القارئ الوصول إلى المعلومة، إلا أنها لا تفي بالغرض، فأحياناً يقرأ الإنسان خبراً من الأخبار، فيرى أنه في حاجة ملحّة إلى معرفة أصل ذلك الخبر، وتتبُّع رجاله، وفي هذه الحالة لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الذي نقلَ عنه، فلا ينفعه الاعتماد على هذا المصدر لأنه حذَف الأسانيد. فقد تصبح هذه النقطة مأخذاً عليه.
وهكذا نحس وراء هذا المنهج فكراً ناضجاً، وشخصيةً تتصف بالذكاء والخبرة والتحضّر، وتجمع بين عدّة ثقافات متنوعة، فقد ذكَر المنهج كاملاً في كتابه حتى لا يترك القارئ في حيرة للبحث عن منهجه، وهو كما رأينا منهجٌ علميّ سديد، يتصل بالترتيب، ويتصل باختيار النماذج وكيفية توظيفها توظيفاً حسَناً، حتى تتّسم وتتّسق مع الأفكار، أو الموضوعات التي يعرضها، ثم لم يحرِم المتلقّي مِن مراعاة ظروفه من حيث التخفيف، وتقديم المعلومة في وقتٍ وجيز؛ حتى لا يملّ أو يجهد نفسه.
أما بالنسبة لـ قيمة كتاب "العقد الفريد" في ميدان الأدَب؛ فإنّ الكتاب يمثّل موسوعةً ضخمة في الثقافة العربية، ودائرةَ معارفٍ تكاد تكون مكتملة الحلقات من الأخبار والنصوص الأدبية، ويُعَدّ أوّل كتاب في الأندلس من حيث الإفاضة والشمول والتنوّع، وكثرة التمثّل عن أدب المشارقة، كما يُعَدّ أيضاً مصدراً مهمّاً لمن يريد التعرّف على حياة العرب الأدبية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
ورغم أنّ المؤلِّف لم يترك جانباً إلا وأشار إليه في كتابه، إلا أننا نجد أنّ السمة الأدبية سيطرت عليه من أوله حتى آخره في عَرض المادة العلمية بأسلوبٍ أدبي جيّد، والاستشهاد في كل موقف بما يستجاد من الأدب، فصاحبه أديب بارع.
ومما يؤكِّد أهمية الكتاب أيضاً: إشادة العلماء به، ونقلهم عنه حين تأليفهم، كالأبشيهي في "المستطرف"، والبغدادي في "خزانة الأدب"، وابن خلدون في "المقدِّمة"، والقلقشندي في "صبح الأعشى" وغيرهم.
وفي خاتمة الحديث عن كتاب "العقد الفريد" وصاحبه، تجدر الإشارة إلى تأثّره بالمشارقة؛ بدليل ما جاء عن الصاحب بن عبّاد -عندما وصل إليه الكتاب وقرأه- قال فيه: «هذه بضاعتنا رُدّت إلينا». وهذا الموقف الرافض مِن ابن عبّادٍ فيه مبالَغة، لأنّ الكتاب قد تضمَّن -كما رأينا- أشعار ابن عبد ربه -نفسِه- وبعضَ ما يتعلَّق بالأدب الأندلسي، كما أنّه ضمّ إلى تصنيفه هذا بعض التأليف والنقد، حيث نقَدَ ابن قتيبة في رأيه في الشعوبية، ونقَدَ المبرِّد في بعض مختاراته من الشعر.
________________________________________