جالسة في شرفة بيتها تتأمل في الحياة والبشر، في يدها كوب من الشاي الساخن، تتذكر ملامحه فتبتسم... هي لاتلومه الآن، أي شخص في مكانه كان سيتصرف بنفس الأسلوب ومن الذي سيرحب بمن كان في نفس حالتها... عاشت كأي فتاة بسيطة في أسرة من الطبقة الوسطي، الأب كافح لتعليم أبناءه، تخرجت والتحقت بعمل بعد محاولات عديدة، وفي العمل رأته أول مرة، زميل وسيم ومتدين وشخصيته قوية وأعزب، وفهمت أن معظم زميلاتها يحاولن التقرب منه ولكنه لا يهتم بهذا الأمر، وحسمت أمرها من البداية بألا تفكر فيه وكيف لها أن تفكر فيه؟ وهي لاتتمتع بجمال مبهر وأسرتها بسيطة وهي شخصية محترمة لم تعتد أن ترتبط بشباب ولا تدرك فنون الإغراء فبالتأكيد لن يهتم بها، مضت الأيام وكان هناك رحلة للشركة وهي لم تشترك بها ففوجئت به يأتي إليها قائلاً لماذا لم تشتركي في الرحلة، ارتبكت وخجلت فقال لها انه لن يذهب إذا هي لم تذهب!! وكانت البداية صارحها برغبته في الارتباط بها وأخبرته أنها ستخبر أهلها لأنها لم تتعود أن تفعل أي شئ بدون علمهم فازداد احتراماً لها، سعدت فتاتنا سعادة لايعدلها شئ وغرقت في أحلامها الجميلة...

ولكنها بدأت تشعر ببعض الألم في صدرها وعندما ذهبت للطبيب طلب بعض الأشعة والفحوص... ثم اخبرها بالحقيقة وهي أن مصابة بسرطان الثدي، وأن عليها أن تبدأ رحلة العلاج الطويلة فوراً، ولأنها مؤمنة بقضاء الله تقبلت الأمر بصدر رحب ورضا كامل واستسلمت للعلاج المؤلم بدنياً ونفسياً (عافانا الله منه ومن سائر الأمراض)، وكان زميلها قد علم بحالتها وصدم صدمة شديدة ولكنه كان يتابع العلاج ويسأل إخوتها دائماً عنها، ثم فجأة بدأت اتصالاته تتباعد وأصبح أهلها يتجنبون الحديث عنه، ففهمت الحقيقة وأدركت أنه انسحب بهدوء وبطبيعتها النقية لم تلمه في نفسها بل التمست له العذر... بعد مدة من العلاج قرر الطبيب المعالج أنه لابد من إجراء جراحة الاستئصال حتى لا ينتشر المرض، وصارحها بالأمر وقال لها أنه لم يتردد في حياته في إجراء الجراحة كما يتردد الآن لأنها لم تتزوج بعد ومعلوم ماستفقده بجراحة الاستئصال، فابتسمت له وقالت إنها راضية بقضاء الله... وتمت الجراحة بنجاح وخرجت للحياة.....



وهاهي جالسة في شرفتها تنظر إلي مكان الجراحة والذي ترك ملابسها متهدلة وتفكر أن تعدل من شكل ملابسها لتخفي أثر العملية ولكنها تصرف التفكير وتقرر الإبقاء علي شكلها كما هو والتعايش مع الواقع بكل تفاصيله، وفجأة يرن جرس الباب وتذهب أمها لفتح الباب فتفاجئ بالزميل الوسيم ومعه والده ووالدته وأخوته، ويحضر والدها للسلام عليه وهو غير مصدق، ويجلسون في الصالون، وتذهب الأم إلي فتاتنا الطيبة فتخبرها أنه حضر مع والده ليطلب الزواج منها، فتفاجئ فتاتنا وتندهش وتذهب لترتدي ملابسها وعندما تدخل إلي الصالون تجده جالساً بعيداً لا يجرؤ علي النظر إليها خجلاً منها، ويرحب أبوه بها فتحاول توضيح أثر عملية الاستئصال لهم فيقول لها الأب انه يعلم جميع التفاصيل وأن ما حدث إليها كان من الممكن أن يحدث لأي واحدة من بناته وأنه لن يجد زوجة مثلها لابنه، وتعود الفرحة من جديد لتسكن بيت فتاتنا صاحبة القلب الأبيض، فترسل رسالتها لكي تحكي قصتها ولكي تقول أنه لا يأس مع الحياة وأن اختيار الله أفضل دائماً لنا....



استغرقتني قصتها وشغلت بها حتى النهاية، وتأثرت بمشهدها في شرفة بيتها تتأمل في الحياة وتتذكر الزميل الذي تمنته زوجاً، وانفعلت مع مشهد حضوره مرةً أخري وكأنني أراها تنظر إلي ملابسها المتهدلة من أثر الجراحة وكأني أري فرحتها ووجهها المشرق بعد عودة زميلها الغائب....



تمر الحياة بنا بحلوها ومرها بين فرح وحزن، قدوم ورحيل، بكاء وضحك... فنتعلم أن الحياة في مجملها امتحان قصير، نجح فيه من نجح ورسب فيه من رسب، نجح فيه من رضي بقضاء الله وامتلك القدرة علي الفهم والصبر والعطاء، نحج فيه من أعطي وزاد من جمال الحياة بنفسه الجميلة، ورسب فيه من عاش في فلك نفسه وامضي الحياة في السخط والشكوى، وزاد من قبح الحياة بنفسه القبيحة، فاللهم امنحنا نفوساً جميلة وأخلاقاً كريمة وعزة في غير كبر وتواضعاً في غير ذلة... وقدرة علي الفهم... نعم يارب قدرة علي الفهم....

الشاعر الحزين
كتابات من زمن آخر
الحصن النفسي