بسم الله الرحمان الرحيم
تحرر؟!
منذ ثمانية أعوام كان حفل تخرجه على شاطئ رملي وديع.. لكنّه اكتفى بمراقبة ألوان الأفراح من بعيد.. أذهلته المخلوقات الصغيرة وهي تقود السيارات العظيمة وتنـزلق من الرقابة.. ضحك في سره ثم ترك السرب وراح يغازل نحلة تغرس رأسها في عمق تويج وردة ربيعية..
في الزاوية وضع مجموعة حصر ملونة بهر بها تجار السوق الذين يحاولون تسويق بضائعهم الرديئة، فأثار حسدهم وغضبهم.
لم يكن عبد الإله يأبه لترويج بضاعته لأنه انصرف كليا إلى الإهتمام بفنه.. تنقل بين الأحياء واشتهر بجده في أقناع الناس: أن عيدان الحصائر عصية.. ويمكن أن يصنع منها أشياء أخرى غير الأحصرة.. وكان همه الوحيد أن ينزع السجاد المستورد الذي ملأ كل الأماكن في السوق، وفرش تحت أقدام المارين على الجراح.. كما أنه لم يعد يتحمل منظره.. ولونه الذي بهت..
هدأ تجار الزرابي عندما اطمأنوا إلى أنه لم يكن يطمح إلى اكتساح الأسواق بحصائره التي تحمل علامة تجارية محلية، وتباع بسعر لا يمكن لها أن تنافس أسعار زرابيهم المستوردة.. وزيادة في الإطمئنان، وحرصا على عدم تنقله المستمر بين الأسواق، ملؤوا جيوب السيد المكّاس بالنقود.. ودفعوه كي يطعن عبد الإله بسكين مسمومة في ساقه، مما اضطره إلى قطعها.. وبهدوء تام بدأ عبد الإله يراقب عملية قطع رجله وكأنّها تقع لشخص آخر..
قال في نفسه: الحمد لله ما زلت قادرا على الكلام.
وبالرغم من التخدير الموضعي يحس بصرير المنشار على ساقه، لكنه تحمل الألم: الحمد الله فما زلت قادرا على ربط الأعواد..
لم يكن في السوق سوى مجموعة صغيرة من الحرفييين يقدرون موهبة عبد الإله..
اجتمعوا ذات ليلة وقرروا أن يفتتحوا له مدرسة يديرها لتعليم فن حرفة العصيان.. بعد فترة وجيزة غزت الإحتجاجات وكل ألوان العصيان الأسواق وبدأ الكساد يجتاح تجارتهم الهشّة.
شيخ التجار يكره العصيان، لذلك قرّر أن يقوم بحملة تجمعية إعلامية تدعو الناس إلى الحفاظ على الهدوء وتبتعد عن كل ألوان العصيان المشينة، والمضرة.
وبما أن عبد الإله لم يكن قادرا على مجابهة المكاس، قرر شيئا غريبا أيضا: لصق جفني عينه اليسرى وقطع سبابة يده اليمنى، وجعل يتجول كل صباح في أسواق المدينة، مما أرهق السيد المكاس، الذي أشاع بين التجار أن عبد الإله يتعامل مع الشياطين: انظروا إليه.. إنه يغمز بعينه اليسرى، ويشهر إصبعه الوسطى باتجاهكم..
في نفس الزاوية اجتمع السيد المكّاس وشيخ التجار وقرروا: فعل شيء ما لمواجهته.
قال المكاس: لا بد من نفيه.
لكن شيخ التجار كان أكثر حزما: سنجري له عملية.
وتساءل الجميع: هل نقطع يده الأخرى.. لسانه.. ساقه الأخرى..؟
ـ لا.. لا.. لابد أن نكويه بالنار.. لنخرج من دماغه المنطقه التي تغذي ذاكرة العصيان فيه لنرتاح..!
ربطوه بعربة تجرها الكلاب.. باتجاه المسلخ.. وهناك مددوه.. وباستعجال شديد أحرقوه.. ليستأصلوا منه الذاكرة العصيانية، وكل ألوان التذمر.. لكن الذي أذهل الحاضرين أن ابتسامة عبد الإله الساخرة لم تفارق شفتيه..
توقف الطبّال عن القرع.. ارتجفت أيدي المصفقين للعملية.. ووجموا.
وقف الناس في الزاوية نفسها.. لاحظوا اختفاء بقايا عبد الإله.. في منتصف النهار، جمع شيخ التجار الناس في وسط السوق، وقف على منصّة عالية وإلى جانبه السيد المكاس.
صرخ منادي السوق: أين عبد الإله..؟
تعالت أصوات الجموع: هنا.. هنا..
صرخ المنادي ثانية: من عبد الإله..؟
صاح الشباب والرجال دفعة واحدة: أنا.. أنا..
لم يدم الإجتماع طويلا.. هبت ريح عاتية.. اقتلعت المنصة من مكانها.. أبرقت السماء وأرعدت.. وقبل أن يأتي المساء، كانت الأمطار الغزيرة قد غسلت ساحة المدينة.. وطهرت أعواد الحصر الزاهية من جديد، مبتدأة من محطة بوزيد مارة بشارع عبد الإله حتى الطرف الثاني من المدينة..
اندهش الحضور من سرعة كل مايحدث حواليهم.. لكن..! لم يندهش، لا المكاس ولا شيخ التجار.. فهم قد وضعوا قاطني هذه الصحاري منذ زمن على رفوف الإهمال.. لانهم لم يدركوا بعد لغة الرمال.. ككثير آخرين لم يستطيعوا فك رموز الصحراء المتشابكة كخيوط العنكبوت..