منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1

    جدلية العلاقة بين مبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة"؟!

    جدلية العلاقة بين مبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة"؟!
    "الديمقراطية الليبرالية" تجسِّد حالة غير حقيقية لـ "تداول السلطة"، لأنها تُسْقِط العدالة، وتحوِّلها من ثابت إلى وجهة نظر متغيرة..
    و"اقتصاديات الاشتراكية والشيوعية" تجسِّد حالة غير حقيقية لـ "تداول الثروة"، لأنها تُسْقِط "الحرية"، وتحوِّلها من ثابت إلى وجهة نظر متغيرة..
    إذن، فنحن نبحث عن "حرية" غير تلك التي تجسِّدها "الديمقراطية الليبرالية"، وتستطيع أن تحقق "العدالة"..
    ونبحث عن "عدالة" غير تلك التي تجسِّدها "اقتصاديات الاشتراكية والشيوعية"، وتستطيع أن تحقق "الحرية"..
    إن "حرية" تضمن "العدالة" هي المجسِّد الحقيقي لـ "تداول السلطة"..
    وإن "عدالة" تضمن "الحرية" هي المجسِّد الحقيقي لـ "تداول الثروة"..

    أسامة عكنان
    عمان – الأردن

    "تداول الثروة" هو الآلية التي تحكم "حركة الثروة" إنتاجا وتوزيعا، فتحول دون إبقاء مُلكيتها محصورة بين أفرادِ فئةٍ محدَّدة من أغنياء أمة من الأمم، يتوارثونها جيلا بعد جيل، أو يتولون إدارتَها والتحكم في وجهتها في الجيل الواحد. ويتحقق "تداول الثروة" عبر إعادة ضخها بشكل أو بآخر إلى قنواتِ المجتمع الأوسع من الفقراء والمحتاجين والكادحين ومن كان على شاكلتهم، ليُعاد إنتاجُ نظامِ ملكيتها ونظام توزيعها بشكل يكرسُّ التوسُّع المتنامي باستمرار في أعيان مالكيها والمنتفعين منها انتفاعا فعالا وحقيقيا، فضلا عن إعادة ضخها عبر تلك الآلية إلى شرائح مجتمعية في الأجيال اللاحقة، تختلف عن تلك التي كانت تسيطر عليها وتتحكم فيها وتديرها في الأجيال السابقة.
    أي أن الآليات الاقتصادية، سواءً على صعيد "نظام الملكية"، أو على صعيد "تقسيم العمل"، أو على صعيد "توزيع الناتج الإجمالي"، أو على صعيد "أنظمة التَّسعير"، أو على صعيد "علاقات الإنتاج"، أو على صعيد "التعاملات المالية"، أو على صعيد "قواعد التنمية والاستثمار"، أو على صعيد "التركات والمواريث"، أو على صعيد "القوانين التجارية والمدنية".. إلخ، يجب أن توضعَ لتحقيق هذا التصور الإستراتيجي.
    فالثروة وهي تنمو وتتوالد وتخدم الأمةَ ورفاهيتَها ونموها وتطورها، بقيادة فئة من أفراد المجتمع بعضها يتولى السلطة السياسية، والبعض الآخر يتولى السلطة الاقتصادية، يجب أن يتم تداوُلها باستمرار، ولا يجوز أن تبقى في أيدي فئة محددة تتولى هذه المهمة، أي مهمة الإدارة والتوظيف والتشغيل، لا في الجيل الواحد، ولا عبر تعاقب الأجيال. كما أن الفئات المالكة لها والمنتفعة منها انتفاعا فعالا وحقيقيا يجب أن تتوسع وتتمدد باستمرار، لينعكس هذا التوسع وذاك التمدد على واقع ومكانة الثروة في الجيل القائم، وفي الأجيال اللاحقة.
    إن على النظام الاستثماري والتنموي في المجتمع أن يخدم هذه الفكرة الرئيسة. فكما أن هناك دعوة لتداول السلطة تكريسا لقيمة "الحرية"، فإن هناك أيضا دعوة لتداول الثروة تكريسا لقيمة "العدالة". وبالقدر نفسه الذي يتضرر فيه المجتمع على المدى البعيد عندما يُحرم أبناؤٌه من تداول السلطة عبر ضخ الدماء الجديدة إلى الحكم باستمرار، ما يمس مساسا جوهريا بقيمة "الحرية"، فإن اقتصادَه سيتضرر، والأفكار التنموية الخلاقة فيه قد تتجمد، إذا حِيلَ بينه وبين أن يُقَنِّنَ الحراك الاقتصادي، بما من شأنه أن يَخلق آلياتٍ مُتجددة لتداول الثروة، وهو ما يمس حتما وبشكل جوهري بقيمة "العدالة".
    ولكن ما هو المعنى الحقيقي لتداول الثروة؟!
    في واقع الأمر إنه من الصَّعْب تَفَهُّم هذا المعنى الخطير والغريب في الحراك الاقتصادي في المجتمع إذا لم نتحرر من تصوُّرِنا التقليدي "الرأسمالي" العقيم أو "الاشتراكي" القاصر للثروة، والذي يجعل منها في أذهاننا شيئا آخر يختلف في سيرورته وفي تأثره بالواقع الموضوعي وفي تأثيره فيه، عن "السلطة السياسية" ومفاعيلها المختلفة. إن التَّحَكُّم في مفاتيح القرار السياسي للمجتمع هو قوة وسلطة ونفوذ. وبالمثل تماماً، فإن التحكم في مفاتيح الثروة هو قوة وسلطة ونفوذ. وكلما كان "تداول الثروة" في المجتمع معدوما، كلما كان "تداول السلطة" معدوما أيضا، وكلما كان هذا التداول شكليا، كلما كان الآخر شكليا أيضا. لا بل كلما كنت السلطة "مركزة"، كلما كان ذلك ناتجا حتما عن "تمركز" أسبق في الثروة، ومؤديا إليه.
    وللتداول في هذا السياق معنىً أعمق بكثير من الظاهرة الشكلية الني نراها في مفاعيل "تداول السلطة" في "الديمقراطية الليبرالية"، عندما يكون الحديث عن "السلطة"، وعن تلك التي نراها في مفاعيل "تداول الثروة" في "الاقتصاد المركزي الاشتراكي أو الشيوعي"، عندما يكون الحديث عن "الثروة".
    إن كلاًّ من السلطة السياسية وتَمركز الثروة مؤشرٌ ودالة على الآخر. فعندما نلاحظ أيَّ تداول ظاهري للسلطة غيرَ مرفقٍ بتداول حقيقي للثروة ناقلا تَمركزَها إلى جانب آخر وإلى فئات أخرى من المجمتع، وموسعا في أعيان مالكيها والمنتفعين منها بفعالية وعلى وجه الحقيقة، سواء في الجيل الواحد أو عبر تعاقب الأجيال، علينا أن نجزمَ على الفور بأن هذا التداول الحاصل في السلطة السياسية، ليس أكثر من خدعة جعلت الانتقال فيها يحدث على مستوى القشور، ليستلمَ السلطة في البلد الذي من هذا القبيل، فريق آخر من فرقاء تَمركز الثروة أنفسِهم بدل الفريق الأول. وبالتالي فلن نتوقع تغييرات تُذْكَر على مستوى السياسات في كافة اتجاهاتها، أو في أهم اتجاهاتها على الأقل، لأنها في الواقع هي ذات السياسات التي كفلت وضمنت "تَمركزَ الثروة". فلن يتنازل عن الثروة من امتلك مفاتيحَها قبل السلطة، عندما يصبح في قلب السلطة، أي عندما يكون أكثر قدرة على التحكم في تلك المفاتيح.
    إن "تداولَ السلطة" يكتسب معنى حقيقياً عندما يكون ناتجا (عن) أو مؤديا (إلى) انتقالٍ حقيقي وإزاحة فعلية في تَمركز ثروة المجتمع، نراها بموجبهما تقفز – وإن يكن تدريجيا وعبر سيرورة تاريخية – من مكان إلى آخرٍ متباينين تباينا لا شك فيه، على صعيد أعيان الأفراد والمجاميع المالكين والمديرين والموجهين للثروة من جهة أولى، وعلى صعيد التوسع والتمدد في أعداد هؤلاء، باتجاه التصاعد المضطرد في تلك الأعداد صوب التطابق الكامل مع الديمغرافيا المجتمعية من جهة ثانية.
    وبالتالي فلا وجودَ لتداولٍ حقيقي وصادق ومُعَبِّر للسلطة، في مجتمع لا توجد فيه آلياَّتٍ حقيقية وصادقة ومُعَبِّرَة لتداول الثروة ابتداءً. إن العلاقة بين هذين النوعين من التداول، هي علاقة عضوية حميمة، تجعل من أحدهما رحما حقيقياً للآخر لا ينفك عن الاغتذاء منه لتشكيل مُكَوِّنات سيرورته في الواقع المجتمعي.
    أي أن مظاهر "تداول السلطة" التي نراها ونشاهدها في "الديمقراطيات الليبرالية" عموما، وفي مراكزها الأهم في كل من "أوربا" و"الولايات المتحدة" خصوصا، هي مظاهر كاذبة وخادعة لهذا التداول، لأنها في الواقع لم تُرْفَق لحد الآن بمعادلاتِ تداولٍ فعليةٍ للثروة بالمعنى الموضَّح سابقا، ولا هي نتجت عنها. إنها نتجت وتنتج (عن)، وأدّت وتؤدي (إلى) معادلات تَمركز الثروة ذاتها، وإن يكن بتغييرات طرفية تُخومية أحياناً بسبب محاولاتٍ من هنا ومن هناك لدخول لاعبين جدد في ساحة "تَمركز الثروة"، يبحثون في ظل المعادلات السائدة عن مواقع لهم بين الكبار المهيمنين، عبر إحداثِ تغييرٍ في بعض أعيان الأشخاص، وفي بعض أعيان المجاميع المُعَبِّرين عن المعادلات نفسِها، والمُمَرِّرين للتمركزات ذاتها، اقتضت تَباَدُلَهم للمواقع هذه الاختلافاتٌ القِشْرِيَّة الطابع في بعض مفاعيل الحياة الاجتماعية، التي لا تُعتبر ذات دلالات جوهرية، لا على صعيد مواقع الثروة المجتمعية وتَمركزها، ولا على صعيد التأصيل الفلسفي المختلف عن التأصيل "الديمقراطي الليبرالي" القائم لحركة الثروة، مادام التأصيل لا يقوم عادة إلا عندما تصبح حالة ما ظاهرة مجتمعية تتطلب التأصيل والتأسيس الفلسفيين. وإن كانت هذه التغيُّرات القشريَّة تكرِّس الوهمَ بانطواء "الديمقراطية الليبرالية" على "الحرية الحلُم" باعتبارها الضامن لتكافؤ الفرص، لتبقى هي الطوطم المقدس الأبدي الذي يفترض أن البشرية كافحت لأجله منذ القدم.
    هذا ونود أن نوضح في هذا السياق، أن إعادة صياغة قواعد "تَمركز الثروة" في المجتمع، تتأتَّى نتيجةً لاستلام السلطة، إذا جاءت هذه الأخيرة عبر التَّمّرُّدِ الثوري على الفرز الطبقي في المجتمعات التي تعاني من رفضِ ساستها التجاوبَ مع متطلبات الخروج من عنق زجاجة اقتصاد السوق الرأسمالي بصُوَرِه البشعة، بسبب رفض هؤلاء الساسة لفكرة التداول الحقيقي للثروة. لكنه – أي مبدأ تداول الثروة – إذا أصبح هو الركيزة الأساس في النظام الاقتصادي السائد، فإنه سيغدو سببا لكل أشكال تداول السلطة اللاحقة، والتي لن يعيقَها عائق بعد ذلك، بسبب أن مُكَوِّنَها الموضوعي ومُخلِّقَها الحقيقي قد وُجِد، ألا وهو مبدأ "تداول الثروة".
    أما إذا عاد المتحكِّمون الجدد في مفاتيح السلطة السياسية، ليفرضوا نظاما اقتصاديا لا يقوم على مبدأ "تداول الثروة"، بعد أن امتلكوا مفاتيح هذه الثروة بامتلاكهم لمفاتيح السلطة التي كانت قبل ذلك في أيدي غيرهم، وأصَروُّا من ثم على رؤيتهم الاقتصادية المتحررة من اعتماد مبدأ "تداول الثروة" أساسا لسيرورة الحراك الاقتصادي في المجتمع، من منطلق اعتقادهم بأنَّ مَنْ آلت إليهم مفاتيح الثروة هم أصحاب الحق الأزليين في إدارتها والتحكم فيها، وهم قد حصلوا على هذا الحق المسلوب وانتهى الأمر، وهو ما وقعت فيه كافة حركات التحول الاشتراكي والشيوعي، فإن المعضلة ستعود لتتكرر من جديد عبر حالةِ تناقضٍ جديدةٍ ومن نوعٍ مختلفٍ، بين سلطةٍ تبحث عن أَجِنَّة تداولها، وبناءٍ اقتصادي يرفض أن يَسْمَح بذلك، عبر رفضه السماح بتداول الثروة ابتداءً.
    ولعل فشل الاقتصاديات الاشتراكية في معظم دول العالم في الاستمرار في إدارة الثروات التي كانت تديرها، يرجع إلى شيء من هذا القبيل. كما أن نجاح الرأسمالية في تجديد نفسها من حين لآخر، وإن يكن بشكل قِشري، إنما يعود إلى هذا النَّوع من الوعي بضرورة عدم خلق حالة صارخة من التناقض بين الطبقات الاجتماعية وهي تتصارع على الثروة والسلطة.
    ما معنى هذا الكلام الذي ما يزال يبدو غامضا؟!
    إن "تداولَ الثروة" يقتضي في الواقع أن تُتَداَوَلَ السلطة، فهذا الأخير – أي تداول السلطة – هو نتيجة حتمية للأول – أي لتداول الثروة – ولا يُمكنه الفكاك منه، لأن السلطة في جوهرها "ثروة مكثفة"، ولأن السياسة في نهاية المطاف "اقتصاد مُركز". فحيثما تمَّ "تداول الثروة"، فإن السلطة قطعا ستدور معها حيث دارت. لكن الفكرة المقابلة ليست حتمية، فإذا تم "تداول السلطة" كمنطلق لفلسفة التداول في المجتمع، فليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى "تداول الثروة". لأنه إذا كان بالإمكان أن يُصار إلى تَحقيق تداول مظهري قِشْريٍّ للسلطة غير ناتج عن تداولٍ أسبقَ للثروة، فإن هذا يعني قطعا أن بالإمكان أن لا يؤدي هذا التداول المظهري القِشْري في السلطة إلى تداولٍ حتمي في الثروة، إذا لم ترتبط "الحرية" منذ البداية بالمكونات الثابتة غير القابلة للمساس بها في قيمة "العدالة".
    في الحقيقة فإن هذه معادلة مُمكنة، وهي على وجه التَّحديد ما حدث ويحدث في قلب البناء المجتمعي الرأسمالي العالمي بزعامة الغرب الأوربي والأميركي، عندما تمَّ وما يزال يتمُّ الإيهام بوجود "تداول سلطة" حقيقي في "الديمقراطية الليبرالية"، بينما هو مجرد تداول مظهري وقِشْري لها، لا يعدو كونَه وعاءً لسلوكٍ سياسي جمعي موهمٍ بالحرية، قائما في قلب معادلات سيرورةِ ثروةٍ، تمَّ اعتبار كلِّ حالاتها – تمركزا أو تداولا، من أقصى درجات "الطبقية" الممعنة في تقسيم المجتمع إلى فقراء وأغنياء، إلى أقصى درجات "اللاطبقية" الممعنة في توحيد المجتمع في طبقة واحدة يتساوى أفرادها في الوضع الاقتصادي فقرا أو توسطا أو غنى – مجرد وجهات نظر، لا تحظى أيُّ وجهة نظرٍ منها، ولا في أيِّ مستوى من مستوياتها، بصفة الثبات والقداسة التي يحظى بها "تداول السلطة" الذي يتيح هذه الحالة الخالقة لهذا البون الشاسع من احتمالات "حالة الثروة" في المجتمع.
    إن "تداول السلطة" أمر أيسر بكثير من "تداول الثروة"، والأمور الشكلية والإجرائية المخادعة فيه، أكثر بكثير من نظيرتها في "تداول الثروة". فمن الصعب أن تمرَّر إجراءاتٌ لتحقيق "تداولٍ للثروة" تكون مخادعة وموهمة بالعدالة، بالقدر نفسه الذي يمكن أن تمرَّرَ إجراءاتٌ لتحقيق "تداول للسلطة" تكون مخادعة وموهمة بالحرية. وتاريخُ البشرية يروي لنا القصة بوضوح لمن أراد أن يعرف.
    فمعظم أوجه الصراع السياسي على كراسي السلطة، والتي رأيناها ونراها تَحدث في الغالب داخل المنظومات الاقتصادية الواحدة، لم تكن تنتجُ عن تداولٍ حقيقي للثروة، ولا كانت تؤدي إليها في الغالب. بل إن من السهل علينا ملاحظة أن الزعامات السياسية الزائلة والتي جاءت على أنقاضها في تلك الصراعات، كانت تنتمي – غالبا – إلى معسكر الثروة ذاته، مع هوامش فروقٍ ضئيلة لا تكاد تُذكر أو تُؤَثِّر في مُحصلة المسار المتعلق بِمواقع الثروة، يُمكن إدراج معظمها بكل يسرٍ وسهولةٍ تَحت بند الصراع على النفوذ والوجاهة البعيدة عن التنافس الاقتصادي بمعناه الاجتماعي التاريخي الواسع.
    فما يَحدث في الغرب الرأسمالي من تداولٍ مُخادع للسلطة، وما يَحدث في الكثير من الدول الهامشية الواقعة على تُخوم العالم الرأسمالي المركزي من ممارسات سياسية تبدو قريبة من ذلك، أو ما نسمع عنه من انقلابات أو حركاتٍ إصلاحية أو ثوراتٍ تحدث هنا أو هناك، بقيادة زُمَرٍ عسكرية أو فئات مثقفة ثائرة، في هذا البلد أو في ذاك، إنَّما يصب كُلُّهُ إما في خانة التغييرات القشرية المُسْتَحْلِبَةِ للاحتقانات المجتمعية مع إبقاء معادلات الثروة قائمة كما هي دون تغيير، وهو ما نطلق عليه.. "تداول البناء الفوقي الذي هو السلطة دون المساس بالبناء التَّحتي الذي هو الثروة".. وإما في خانة التغييرات الجذرية في بُنية السلطة، تتبعها تغييرات في تمركزات الثروة، على حساب "الحرية" ذاتها، من خلال تغييرات تقوم على الاشتراكية أو الشيوعية، لأن العقيدة السائدة على مستوى العالم ما تزال تعتبر أن الحرية الناتجة عن "الديمقراطية الليبرالية"، هي نموذج جالب لـ "اللاعدالة" الاقتصادية في المجتمع وجاذب لها. ولأن التصور بوجود صيغ أخرى للحرية غير تلك التي تنطوي عليها "الديمقراطية الليبرالية" هو تصورٌ غير متاح، ولا هو موجود تأسيسا وتأصيلا، فقد كان من الطبيعي أن يكون أيُّ حراك مجتمعي يريد الخروج من دائرة "اللاعدالة"، متمحورا حول تلك العدالة المنطواة في "الاشتراكية" والقائمة على تحييد قيمة "الحرية" بشكلها "الديمقراطي الليبرالي".
    إن التداول في البناء الفوقي الذي هو السلطة، يأخذ طبيعةً شكلية قِشْرِية عديمة الدلالة وفاقدة المضمون، عندما لا يكون ناتجا عن تداولٍ في البناء التحتي الذي هو الثروة، أو عندما لا يكون مؤديا إليه ومؤسِّسا له. ولأن تنظيمَ آلياتٍ تكفلُ هذا التداول القِشِري المظهري للسلطة أمر سهل يُحَقِّقُ هدفين أساسيين في المجتمعات التي تلجأ إليه هما، الحفاظ على الثروة مَحْمِيَّةً من احتمالات التداول المُغَيِّرَة لموازين القوة الداخلية التي تُعَبِّرُ عنها "تَمركزات الثروة"، وتنفيس الاحتقانات المجتمعية المرافقة لهذا التَّمَرْكُز، بتفريغها على مستوى قمة الهرم السلطوي، عبر تلك المظاهر التداوُلِيَّة المخادعة، التي تظهر وكأنها قد تحققت بإرادةٍ القواعد المجتمعية المخدوعة بما تعتقد أنه مُمارسة للحرية وللحقوق على وجه الحقيقة..
    نقول.. نظرا لكون تنظيم مثل هذه الآليات أمر سهل، فإن الرأسمالية العالمية استطاعت أن تكفل لنفسها التَّجَدُّدَ عبر هذا الشكل من أشكال التداول القِشْري للسلطة دون أن تُعَرِّضَ أفكارَها ومبادِئَها الأساسية للخطر، مُحافظة بواسطة ذلك على تَمركزٍ خطير للثروة يتفاقم يوما بعد يوم.
    ومادام "تداول السلطة" هدفا استراتيجيا يَجِبُ أن نسعى إلى تَحقيقه في الواقع بسبب ارتباطه ارتباطَ وجودٍ بِهدفٍ آخر واضحٍ في فرضيته وضوحا لا لبس فيه، ألا وهو "تداول الثروة"، فإننا لن نقف عند حدود ما سيفعله البعد التاريخي لتداول الثروة على صعيد تفعيل مبدأ "تداول السلطة" وتكريسه في الواقع، دون أن نُسْهِمَ بِما نستطيع الإسهام به في رفد هذا المبدأ.
    بل إننا سنقوم برفد مبدأ "تداول الثروة" وهو يفعل فِعلَه التاريخي الحافر في هذا الواقع دفعا به إلى استحضار مبدأ "تداول السلطة"، بكل ما يُمكنه أن يساعدَ على تسريع هذا الأخير وتفعيله. وهذا ما لا يمكننا إنجازه إلا بإعادة النظر في "الحرية" التي نسعى إلى تجسيدها في مجتمعاتنا، لتقفز على محدودية واجتزائية "حرية الديمقراطية الليبرالية" التي ضيعت "العدالة" بحريةٍ منقوصة، أكدت على أن "تداول الثروة" عنصرٌ متغير ومتحرك ويقع في دوائر وجهات النظر، وبإعادة النظر في "العدالة" التي نسعى إلى تجسيدها، لتقفز على محدودية واجتزائية "عدالة الاشتراكية والشيوعية" التي ضيعت "الحرية" بعدالةٍ منقوصة، أكدت على أن "تداول السلطة" هو العنصر المتغير والمتحرك الواقع في دوائر وجهات النظر.
    في حين أن كلا من "الحرية" و"العدالة" ثوابت وليست متحركات ولا متغيرات، ولا هي مجرد وجهات نظر، فمن العدالة أن نكون أحرارا، ومن الحرية أن تسود فينا العدالة. وهذا المبدأ لن يتجسَّد إلا بشكل من أشكال الديمقراطية يمكننا أن نطلق عليها "الديمقراطية الاقتصادية" أو "الديمقراطية الاجتماعية"، التي تضع الأسس لتداول الثروة بالقدر نفسه الذي تضع الأسس لتداول السلطة من منطلق أن هذا وذاك متكاملان، وأن أيا منهما لن يتحقق بدون الآخر، لأنه يمثل وَجْهَه الآخر.
    في سياق آخر متصلٍ بفكرة "تداول الثروة"، يتبادر إلى الذهن تساؤلٌ مشروع مفاده:
    إذا كان "تداول الثروة" مطلوبا في ذاته، كمجسِّدٍ لقيمة "العدالة"، من خلال ما يتمكن به مبدأ التداول هذا من تقليصِ ظاهرةِ "تمركزِ الثروة" أو ربما من تغييبها بالكامل، سواء في الجيل الواحد، أو عبر تعاقب الأجيال، فما الذي يفعله مبدأ "تداول الثروة" في "سيرورة الثروة" ذاتها في المجتمع، كي يكون هذا الفعل في ذاته، هو "العدالة" في ذاتها؟!
    أي وبتعبير آخر أكثر دقة: ما هو وجه "العدالة" في المردود المجتمعي على الصعيد الاقتصادي لمبدأ "تداول الثروة"؟! خاصة وأن الفكرة الكامنة في هذا المبدأ تبدو وكأنها مجرد تعبير عن التغيير في مواقع "تمركز الثروة"، بحيث يمكن القول أن تمركز الثروة في المكان "أ" إذا كان وجها من أوجه "اللاعدالة" التي تتطلب تداولا للثروة للخروج من دوائرها، فأين هي "العدالة" على وجه الحقيقة في هذا التداول، إذا كان مبدأ "تداول الثروة"، سينقلها من التمركز في "أ" إلى التمركز في "ب"، سواء في هذا الجيل أو في الجيل الذي يليه؟! أي هل أن العدالة هي مجرد "هذا الانتقال" في مكان تمركز الثروة؟!
    وفي سياق الإجابة على هذا السؤال نقول:
    من الضروري توضيح أن لتداول الثروة وجهين يحدثان مترافقين أو يجب أن يحدثا مترافقين، ولا يحدث أحدهما في "سيرورة الثروة" في المجتمع بدون أن يحدثَ الآخر. وأنَّ تداول الثروة إذا لم يحدث في هذين الاتجاهين، وحدث في اتجاه واحد، فكأنه لم يحدث، بل وكأنه جسَّد انتقال الثروة من طبقة كان متمركزا عندها معبرا عن "اللاعدالة"، إلى طبقة أخرى لا يختلف تمركز الثروة عندها عن تمركزها عند سابقتها، من حيث تعبيره عن "اللاعدالة" أيضا.
    إن حركة الثروة عبر سيرورة "تداول الثروة"، كي تكون مجسِّدةً لسيرورةِ عدالةٍ مجتمعية، يجب أن تحدثَ في اتجاهين. الاتجاه الأول هو ذلك الذي يُغَيِّر في مراكز إدارتها وتوجيهها، وفي أعيان مالكيها أنفسهم أفرادا ومؤسسات، أما الاتجاه الثاني فهو ذلك الذي يغيِّر في أنماط توزيعها، بحيث تتوسع دوائر المنتفعين بها بشكل متكافئ في مستويات ودرجات الانتفاع، بصرف النظر عن مالكيها ومديريها وموجهيها. فعبر الاتجاه الأول يُعادُ إنتاج العقل الموجِّه للثروة، والفكر الذي يتولى إدارتها، كما يتم تغيير أعيان مالكيها، فيمنحها "التداول" على هذا الإحداثي دما جديدا في الإدارة والتوجيه، ناتجٍ عن تلك التغيُّرات، وعلى رأسها التغيُّرات الحاصلة في أعيان المالكين، لا في الجيل نفسه فقط، بل وفي الأجيال المتعاقبة. وعبر الاتجاه الثاني، تتقلص الفوارق الطبقية، وتتفعَّل المساواة، وتتحقق مستويات متقدمة من العدالة في توزيع الثروة، تتنامى باستمرار خلال الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة.
    هذا هو المعنى الحقيقي لمبدأ "تداول الثروة"، وهذا هو "تداول الثروة" الحقيقي المُنْتِج لـ "تداول السلطة" الحقيقي، وهذا هو ما يجب أن نؤسِّسَ ونؤصِّلَ لحريةٍ تحقِّقُه وتضمنه وتحافظ عليه وتجسِّدُه، لأنه هو وحده المجسِّد لعدالةٍ تستطيع تحقيق الحرية، بعيدا عن عباءة "الديمقراطية الليبرالية" التي أسَّسَت وأصلت لحريةٍ كان هدفها الحيلولة دون تجسيد عدالةٍ لن يجسِّدها إلا "تداول ثروة" على النحو الموضح أعلاه. وبعيدا عن عباءة "الاشتراكية والشيوعية" التي أسَّسَت وأصَّلت لعدالةٍ كان هدفها ضمان حماية نفسها، عبر الحيلولة دون تجسيد "حرية ديمقراطية ليبرالية" اعتُبِرَت هي مصدر اللاعدالة بوصفها هي "الحرية"، وليس بوصفها فقط حريةً مجتزأة مزيَّفَة قدمتها الديمقراطية الليبرالية وصفةً مقدسةً لحريةٍ كانت هي البوابة الضامنة لتمركزِ ثروةٍ ظالمٍ مُذِلٍّ لأنها كانت حرية موهومة.
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  2. #2
    Senior Member
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    البصرة-العراق
    المشاركات
    1,840
    تشدني كتاباتك أ. أسامة وكأنها قصة لا ابتغي لها نهاية . تداول الثروة لو بلغته الأمم لتحققت العدالة الإلهية ولقبل الحمل ناب الذئب كما يقال شكرا لك أ. أسامة مودتي واحترامي

المواضيع المتشابهه

  1. الشاعر احسن معريش يبحث في جدلية العلاقة بين " الدوامة والسلم"
    بواسطة ahcene mariche في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-27-2013, 04:08 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-13-2012, 08:03 AM
  3. "الحرية" المُنْتِجَة لـ "تداول سلطة"
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-05-2012, 03:50 PM
  4. نظرية الملكية في الرؤية القرآنية كمدخل لمبدأ "تداول الثروة"
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-08-2012, 12:56 PM
  5. منهج القرآن الكريم في التأسيس لمبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة"..
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى فرسان الإسلام العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-27-2012, 11:20 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •