عائد وعائده
-----------
وجدت نفسها فجأة فى عربة جيب تخطفها الى حيث لا تعلم اين ومتى وكيف حدث هذا ..؟؟ كانت الساعة تزيد على الواحدة بعد منتصف ليلة سوداء مظلمة .. والذين سحبوها من غرفة نومها لم يسمحوا لها ان ترى بالعين المجردة .. حاولت ان تصرخ محتجة فكمموا لها فمها , تأوهت وتنهدت ثم صمتت … مرت دقائق سمعت بعدها صراخ وجلبة , تبينت الصوت وصاحبه فعرفته ,… كعادته يثرثر ويناقش ولا يصمت .. والصمت لا يعجبه فيغني اغنية التحدي الدائمة على لسانه .. وتسمعه قويا يقول : مين اللى قام يدافع ؟ مين اللي هز المدافع ؟ ولا يسمحوا له بالاستمرار فى غنائه المفضل , وبكل الغطرسة والكبرياء , المعروف عنهم يؤلمونه , فلا يصرخ الا باسم فلسطين وباسم الثورة الشعبية , انها تذكر الان اول مرة التقته فى كافتيريا الجامعة وقالت له انه مشاغب ورد عليها مصرا : انا لا استطيع ان اكون اقل من ذلك وسط هذا الهدوء .. وفى لقائهما الثاني شاركته حبه للشغب ..
وبعد عـام مضى على حبهما للشغب سألته : ماذا حدث ..؟ أراك تكره الشغب ..!!
فرد عليها بحذر : لان الاخرين بدأوا الشغب ضدنا … والحلقة تضيق حولنا , ولم تمض ايام على ذلك الحديث بينها وبينه حتى رأت نفسها بجانبه فى عربة جيب واحده حيث ضاقت الحلقةالى الحد الذي شعر الاخرون عنده بضرورة تضييقها الى عقدة تعصر الامل .. اهتز بدنها , وشجعت كل اغراء عندها فى مناداته لتطمئنه انها فى العقدة بجواره , مالت على احد الجوانب المدببة لترفع الكمامة وتقول انا عائده … انا بجانبك .. وقبل ان يستفيق هو من المفاجأة , هجم عليها رجل لم تعرفه واغلق فمها بيده .. تأوهت , تألمت , فاسترد وعيه , صرخ بكل قوته منشدا : عائدون ..عائدون .. عائدون … اننا لعائدون يا عائده ..
ضربوه ولم يصمت …, انه المشاغب الأمثل .
وعندما أحضروها أمام المحقق اجابته على كل الاسئلة ولكنها سألته سؤالا واحداً :
- لماذا كل هذه الاسئلة ..؟؟
- لأنكم ضد المعادلة ..!
- ومتى أصبحنا ضد المعادلة ..؟؟
- حاولتم القفز علينا دون أن تستأذوننا ..!!
- وهل هذا يساوي عندكم مجزرة ..؟؟
- لقد اخذتم دورنا , وهذا وحده كاف لذبحكم ..!!
- وماذا عن وطننا , هذا ما يهمنا ..؟؟
- انه المعادلة .. وطنكم ضدكم وانتم ضد وطنكم ..!!
- وأين وحدة الهدف ..؟ أين المصير المشترك ..؟
- الفاظ يتلاعبون بها … كما يطلقون عليك اسم عائده , وأنت سجينة فى زنزانتي ..
- أطلق سراحي , واعطني فرصتي احمل اسمى وأعود به الى موطني ..؟؟
- هذا غير مسموح به .. وانى اقترح عليك تغيير اسمك ..؟؟!!
- لا ..لا يمكن .. لن اغير اسم عائده … ولن أعود لاجئة … سأحتفظ باسمي كما هو .. سيبقى نورا لغيري .. ولتعلم اننى لا احمل هذا الاسم وحدي هناك مئات والاف غيري يحملون مثل اسمى فى داخل وطننا وفى خارجه .. انت تعلم أن هذا الاسم منقوش فى قلوبنا ولن نجتثه .
- وهل تعرفين مصيرك ما دمت مصرة على اسمك ..؟؟
- أعرفه وأملي ان افوز به …
- ما هو ..؟؟
- سنرجع يوما الى حينا , ويرجع العندليب يغنى لنا فى ارضنا ..
- انها اغنية …!!
- لكنها الحقيقة فى حياتنا ..
- لقد جاءوا بزميل لك فى الليلة الماضية … اسمه " عائد " ..!!
- أين هو ..؟؟ ماذا حدث له ..؟؟
- لم يحدث له شىء .. لقد عاد من حيث أتى ..
- هل اطلقتم سراحه ..؟؟
- لم أقل ذلك … لقد كان , وقبل ان يولد لم يكن ,.. لقد مات بالسكتة
القلبية ..
- ودوت منها صرخة متشنجة , فأمسكها المحقق من شعرها بغضب قائلا :
- لقد عاد من حيث آتى .. فهل تحبين ان تكون عودتك مثل عودته …
- اريد ان اعود من حيث اتيت .. اعيدوني الى موطني .. اذبحوني هناك ..
- لقد مات المشاغب دائما اذن … وكانت امنيته ان يموت فى بلدنا ..
وبعد شهر من الزمان , هدأت بعده الامور , كمموها مرة ثانية , ورموا بها خارج الحدود مع مجموعة من زملائها , والقت نفسها على الارض الخضراء اليابسة فى يأس وألم , وأغمضت عينيها تنهمر دموعها باكية .. ومضت عليها دقيقة او دقيقتان قبل ان تسمع صوتا حنونا تعودته مشاغبا يناديها باسمها , ولم تصدق نفسها , وفتحت عينيها المغلقتين لتراه امامها واقفا بشموخ كالجبل , انه هو المشاغب ذاته … لم يمت كما قيل لها … لا تصدق ما تراه امامها … ولم تستطع ان تنطق بكلمة واحدة غير اسمه:
عائد … عائد ..
ووجدته يمد لها يده لتقف شامخة مثله قائلا بحزن يشوبه التحدي : نعم ... نعم يا عائده .. انا عائد بلحمه ودمه ..
ونهضت , ولم تتمالك الا ان تعانقه , وانخرطت فى بكاء عرائسي ..
- لقد قالوا لى انك .. انك ذهبت شهيدا فى الزنازين ..
- وقالوا لى نفس الكلام عنك … انهم لا يفعلوها … انا لا أصدق ان يفعلوها 000 كل ما حدث كان اثبات وجود لوجودهم … كل ما تم كان خطئا لا بد من
اصلاحه .
- وهل تثق بهم بعد الان يا عائد ..؟؟
- لا بد من ذلك … لا بد من ذلك يا عائده ..؟؟
- ولكنى لن أفعل ..
- يجب أن تفعلي ..
- هل انتهيت ايها المشاغب ..؟؟
- ابدا .. ولكنى صاحب حق … وصاحب الحق لا يضام ابدا ..!!
- ولكن …
ووضع يده برفق وحنان على تغرها , قبل ان تكمل عبارتها , وبدأ فى الغناء :" مين اللى قام يدافع .. مين اللى هز المدافع " .
وبعد شهور قليلة , تسلل عائد فى مجموعة واحدة مع عائده الى داخل الوطن المحتل وهم ينشدون :- عائدون … عائدون … اننا لعائدون … فالقلاع والحصون لن تكون … اننا لعائدون ..
وفى منتصف الليل من ذلك اليوم , وضع "عائد" يده متشابكة فى يد "عائده " بعد أن حاصرتهم طائرات ومدرعات العدو , وقبل ان يستشهدوا فى معركة غير متكافئة سألها عائد : هل تتزوجيني … فأجابته : نعم .. أتزوجك … وكان يوم زفافهما هو يوم استشهادهما .
</b></i>