تطور الفهم العربي الإسلامي للدولة
يطرح الكاتب التركي (علي كازانجيكيل) التساؤل التالي: (لماذا تسعى التكوينات غير الأوروبية ـ التي لم تمر بتركيبة مماثلة من العوامل التاريخية ـ الى خلق الدولة الحديثة بدلا من أن تبحث عن أنماط أخرى للدولة؟ ولماذا نجد أن المجتمعات التي تعارض الأيديولوجية السائدة فيها (مثلا " الأصولية الإسلامية") فكرة الدولة ـ الأمة، عاجزة عن أن تتخطى مرحلة الرفض لكي تشكل نماذج سياسية بديلة للدولة؟) *1
من يتمعن في تساؤل المفكر التركي، سيجد أن بين ثنايا تساؤله يكمن الخلل الذي تمر به معظم بلداننا العربية، كما هي الحال الكثير من بلدان العالم الثالث، ولكن تزداد وطأة المشكلة عندنا، أن إصرار الكثير من المفكرين العرب وبالذات أولئك الذين يستحضرون روح الدولة الإسلامية، ينتقون من تاريخ تلك الدول (أو بالحقيقة التجارب الإسلامية للدولة في أكثر من عهد) ما يحتاجونه لدعم وجهات نظرهم. وأن رداءة الأداء الحكومي الراهن تسعف هؤلاء المفكرين ليصعدوا بخطابهم وكأنهم يملكون حلا حاسما وقاطعا. وقد كان حظهم في شيوع خطابهم، أنهم بقوا في صفوف المعارضين طيلة قرن من الزمان، فلم يسجلوا أخطاءً تتعلق بالحكم كما هي الحال عند القوميين .. وفات هؤلاء أن انهيار الدولة الإسلامية (كنظام) قد سبق ظهور الحركات القومية بالعالم بقرون ..
وطالما أن تاريخ أي أمة، له علاقة بكل أبنائها بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو طبائع تفكيرهم، فتاريخ الدولة الإسلامية هو تراث لكل أبناء الأمة وليس مجيرا لصنف من المفكرين أو المثقفين دون غيرهم. وعليه فإن استحضاره من أجل استخلاص العبر منه، ليس وِقفا على جهة دون غيرها، وإن تمت الإشارة الى مثلبة أو إبداع فهي لا تعني أن هناك انتقاد لأحد، إن فُهِم كذلك في بعض الأحيان .
يقارن الكاتب والمفكر التركي بين الدولة في العالم الثالث والعالم المتقدم، ويعزي تردي الحالة في العالم الثالث الى عدم حسم موضوع (الأمة ـ الدولة) وكذلك يربطه بمسألة بناء الاقتصاد الوطني، ويذكر للتدليل على ارتباك مفهوم الدولة بالعالم الثالث، أنه في الفترة الواقعة بين عامي 1960و 1982 حدث 108 انقلابات في دول العالم الثالث، مما يعبر عن ارتباط ظواهر التخلف والعنف والتسلط في هذه البلدان.
ويقترب (جاكسون) و (روزبرغ) في تحليلهما (1985) من هذه الفكرة، فهم يفرقان بين الدولة كمفهوم قانوني فقهي (Juridical) والدولة كمفهوم اجتماعي تطبيقي (Empirical)، وفي رأيهما أن الدولة في العالم الثالث .. قد اتبعت نمطا تطوريا معاكسا للنمط الذي اتبعته في أوروبا الغربية عموما، حيث في الأخيرة تطورت حقيقة الدولة ككيان سياسي وعسكري واجتماعي أولا، ثم سعت للحصول على الاعتراف القانوني بوجودها. أما في العالم الثالث فقد ظهرت الدولة بمفهومها القانوني أولا (كميراث استعماري) في وقت لم تكن قد توافرت لها فيه العناصر المجتمعية والإدارية الكفيلة بجعل هذه الدولة حقيقة واقعة. ويذهب الكاتبان الى أكثر من ذلك عندما يقولان : إن قانونية الدولة في العالم الثالث قد أعاقت من إمكانات تبلورها كحقيقة اجتماعية وتنظيمية، لأنها أعطت إيحاءً كاذبا بوجود الدولة.*2
فكرة الحكم وشرعيته
الحكم رديف للدولة، وعندما يتم الحديث عن الدولة، فإن المعني بالحديث غالبا هو الحكم وليس الأرض والشعب المكملين للحكم. والحكم في اللغة العربية (لغة بني إياد وقريش) هو القضاء .. والتحكيم هي عملية المقاضاة، والتحكم هو التسلط لانتفاء شرط قبول المتقاضين بقاضيهم.
عندما يختلف اثنان على مسألة فإنهما يُحَكِمَان طرفا ثالثا بينهما، وفي حالة عدم رضا أحد الطرفين عن الحكم، تبقى مسألة التحكيم ناقصة وقد يتم تغيير المحكم. ومن شروط المحكم النزاهة وعدم التحيز لطرف ضد طرف، ومن شروطه أيضا الدراية بالمسألة التي يُحكم بها فلا يجوز أن يحكم أعمى بغش في الصبغ أو التلوين. كما يجب أن يكون المحكم صبورا ..
إذن، فإن تحقيق العدل، هو أساس رضا المحكم بينهم. وقد أحب العرب والمسلمون الدين الإسلامي، لأنه قد حض على العدل ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)المائدة 8.
لكن يبرز سؤال، ما هو النظام السياسي الذي يقبل أن يوصف بأنه (إسلامي) ويكون بنفس الوقت متلائما مع ظروف عصرنا مستجيبا لحاجاته واتجاه تطور التاريخ؟ لا يكفي أن يقال إن الحكم في الإسلام مبني على الشورى وعلى العدل وعلى الإخاء الخ .. فجميع الديانات وجميع المذاهب السياسية والاجتماعية ترفع شعارات من هذا النوع، وحتى جميع المرشحين للبرلمان من كل الأطياف، بحملاتهم الانتخابية يرفعون شعارات قريبة من بعضها إن لم تكن متطابقة، فلم يصدف ونقرأ شعارا لمرشح بأنه سيشيع الفقر والظلم ويقطع الكهرباء عن المواطنين ..
وبما أن ليس هناك، لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة، نص تشريعي يُنظم مسألة الحكم، وبما أن النبي صلوات الله عليه قد توفي من دون تعيين من يخلفه ومن دون أن يبين طريقة تعيينه ومن دون أن يُحدد اختصاصاته ولا مدة ولايته، فإن المسألة قد بقيت تنتمي الى جنس المسائل التي يصدق عليها قوله صلوات الله عليه (أنتم أدرى بشؤون دنياكم). فهي إذن متروكة ل (الدراية) و (الاجتهاد) وبالتالي فشعار (الإسلام هو الحل) عندما يُرفع كشعار سياسي، سيبقى شعارا فارغا ما لم يكن رافعه يُبشر باجتهادات معينة واضحة و مفصلة في المسألة السياسية، مسألة الحكم بصورة خاصة*3
أخطر وقائع الحكم في التاريخ الإسلامي
إن الواقعة السياسية الرئيسية في التاريخ العربي الإسلامي هو (انقلاب الخلافة الى مُلك) .. وهنا يُطرح سؤال: (لماذا انقلبت الخلافة الى مُلك؟) ولماذا لم تعالج الأزمة السياسية التي حدثت في السنوات الست الأخيرة من حكم الخليفة عثمان بن عفان رضوان الله عليه؟ إذا أردنا أن نستخلص العبر مما حدث في الفتنة الكبرى فعلينا أن نعترف أو ندرب أنفسنا على الاعتراف بأن ما حدث كان تعبيرا عن فراغ دستوري كبير في نظام الحكم الذي قام بعد وفاة الرسول صلوات الله عليه .. وإن أردنا أن ننظر إليه بعيون القرن الحادي والعشرين فإننا سنراه متجليا (حسب الجابري)*4 في المسائل الرئيسية الثلاث التالية:
1ـ عدم إقرار طريقة واحدة مقننة لتعيين الخليفة. فكل طريقة من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم كانت مختلفة عن الأخرى .
2ـ عدم تحديد مدة ولاية الخليفة. وهذا شيء يمكن أن نفهمه إذا استحضرنا في أذهاننا أن وظيفة (الخليفة) الأساسية في ذلك الوقت، هو أن يكون (أميرا) للمسلمين، يقود جهادهم في حروب الردة أولا ثم في حروب الفتوحات. إن الأمير في الاصطلاح العربي القديم هو قائد الجيش في المعركة. لكن هل إذا انتهت الحرب سيعود الأمير كباقي الناس. لم يحل المسلمون تلك المسألة ولا زالت ماثلة في حياتهم حتى اليوم.
3ـ عدم تحديد اختصاصات الخليفة. لا عند بيعة أبي بكر ولا عند بيعة عمر ولا عند بيعة عثمان، والسبب هو هيمنة النموذج في أمارة الجيش. وعندما كثرت المغانم وتبدلت الأحوال، ظهرت مظاهر اعتراض واحتجاج مثل تعيين الخليفة عثمان لأقاربه في الولايات والتصرف بخمس الغنائم وعندما وصلت ملامح التذمر له، خطب في الناس قائلا (مالي لا أصنع في الفضل ما أريد؟ فلِمَ كنت إماما؟ .. وعندما طالبه الثوار وقالوا (اعزل عنا عمالك الفساق واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا واردد علينا مظالمنا) رد عليهم : ما أراني إذن في شيء إن كنت استعمل من هويتم وأعزل من كرهتم، الأمر إذن أمركم)*5
وبإمكان من يريد الإطلاع على نماذج الحكم المختلفة في دولة الأمويين ودولة العباسيين، والدول الأخرى، سيكتشف أن عطاء الدولة والتطور الحضاري فيها، في مختلف المجالات، علوم القرآن وعلوم الحديث، والفلك والطب والترجمة وغيرها، وبالمقابل فإن علماء بالحديث والفقه يتعرضون لقسوة الحكام. وبالتالي فإن نجاح أو فشل أو تطور الدولة العربية والإسلامية، لم يكن على هامش خلاف عقائدي (ديني) بقدر ما هو على هامش خلاف سياسي في ظل غياب قوالب دستورية يتم الاتفاق عليها ..
هوامش
ـــ
*1ـ العرب ومشكلة الدولة/ نزيه نصيف الأيوبي/ بيروت ـ دار الساقي/ط1 1992/ ص 28
*2ـ المصدر السابق ص 30
*3ـ الدين والدولة وتطبيق الشريعة/ محمد عابد الجابري/ مركز دراسات الوحدة العربية/ط1/1996/ ص 74
*4ـ المصدر السابق ص 80
*5ـ المصدر السابق ص81