ذَاتُ مَقَامٍ
... فما كان الناس الذين وجدهم فيها مقيمين بأولئك الذين عرفهم، ولا الديار التي عاينها بعد غياب طويل بتلك التي عهدها من قبل، ثم إنه تابع السير شارداً، وقد اتقدت في قلبه شجون لاهبة، وفاضت من عينيه على خديه عبرات دافئة، سرعان ما جمدها برد ذلك الصباح اللاَّسع ...
زادت في ذلك المكان غربته، وتضاعفت فيه وحشته، وما إن سار في طرقاته، واستكشف أرجاءه، وتفحص وجوه القاطنين فيه، حتى ارتد إلى نفسه كسير الخاطر منقبض الصدر، فشلت المشاهد التي التقطتها عيناه الدامعتان تفكيره، وصمت الأصوات المنكرة الجامحة سمعه، فبدا له وكأنه في أرض لم يعرفها في ما مضى من الأيام، وهو الذي يحل بها اليوم كهلاً، بعد أن قضى فيها بالأمس صباه وفتوته، وأنفق فيها زهرة عمره ...
خيل إليه كل ما يتحرك حوله وكأنه يتربص به، وأن ثمة ما هوعلى وشك الانقضاض عليه والبطش به، ورأى نفسه فريسة بين فكي وحش كاسر، وطريدة في ساحة جرداء تتخطفها الطيور الجوارح ...
لم يصدق ناظريه عندما رآها منتصبة شامخة على الجانب الأيمن من أحد المسالك، فخفق فؤاده لحسنها الآسر، وأقبل عليها مشتاقاً يحث خطواته كما كان حاله معها في أيام نائية، وهي ترفل حيثُ ألفَ رؤيتها في حلتها الخضراء، إذ لم يأنس قلبُه إزاءها في ما خلا من الزمن إلا بذات النبض، وبصره لم يكن ليرتوي إلا من قوامها الرشيق، وأغصانها المورقة، وظلالها الوارفة، مثلما ظل يروي ظمأ سمعه من همس حفيفها، ويجني الحكمة من وقارها ...
طاف حولها مبتسماً منشرحاً مرة ومرتين وثلاث، ثم وقف يملأ صدره بعبقها وبالنسيم المنساب بين أوراقها، فأطلق العنان للطفل الذي يسكن أعماقه، وانبجست ذكرياته معها نبع ماء رقراق، ثم انبعث جمال اللقاء بها شلالاً دافقاً، وما كان منه إلاَّ أن ارتمى في حضنها وأجهش بالبكاء ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com