" رســـالــــــة إلى ولـــــدي"
يابني...الجلاد يتبعني أينما حللت وارتحلت،يترصدني في الممرات والطرقات والأرصفة.
يابني لقد قطعوا رزق أبيك،وحرموك مما تشتهيه نفسك البريئة وروحك الطاهرة.
منذ اليوم سنعيش حالة التقشف،وسوف أبعد ناظريك عن كل ماكنت تشتهيه بالأمس.
لن أعدك يابني بشراء قطع من الشوكولاتة كما كنت أفعل بالأمس،ولن أشتري لك حذاء جديدا وأنا أرى القديم فاتحا فمه كوزغة صغيرة.
أبوك يابني أمامه خياران لا ثالث لهما:
إما أن يرحل من هذه المدينة الملعونة،فيريح ويستريح،وإما أن يبقى فيها فيكون السجن مصيره.
يابني /سامحني إذا قصرت في حقك فأبوك لايعرف مهنة أخرى غير الكتابة،ولا يمتلك وسيلة غير القلم وأعداؤه يكرهون قلمه وكل ما خط يراعه.
ضممتك الى صدري،وأنا أرى المحنة تقترب مني،رأيت دمعتين كبيرتين في مقلتيك،دمعتين حارتين نابعتين من قلب ملاك مجروح.
أعرف أنك ملاك لم تتجاوز العامين والنصف من عمرك،ولكنك تحس بما يعتصر في قلب أبيك.
بحدسك الطفولي شرعت في البكاء دون سبب،حاولت إرضاءك بشراء بعض قطع الحلوى مما تبقى في جيبي من دريهمات،ولكن رفضت الحلوى وتماديت في نحيبك وبكائك،ساعتها عرفت أنك تحبني وتشعر بألمي ومشكلتي.
عانقتك يافلذة كبدي،والدمعتان الغاليتان ماتزالان عالقتان بعيونك الصغيرة.
أبوك يابني تطارده قوى الشر أينما حل وارتحل،ولاتستريح حتى تراه وراء القضبان او معلقا على حبل المشنقة.
يابني إن من تسبب لك في البكاء لأنغصن عليه حياته،ولا أنشرن برازه وعورته في الجرائد حتى يقرأه كل سافل ونبيل وغني وفقير.
نظرت الى ذلك الصباح لما عدت من المدرسة،كان الخبر قد وصلني بأن السيف قد سبق العذل.
أعرف أنهم يسعون الى تأديبي مرة أخرى بطريقتهم،وهذه المرة أقسموا أن يكون العقاب أطول وأقسى.
كانت قبلتك لي حارة،وأعذب من أي وقت مضى،أهو افراق يابني؟ أم رائحة الغدر الكريهة؟ ام رائحة البشر النتتة؟
تحملت ما تحملت يابني وجمعت صورا من تلك الشواهد العليا لعلها تشفع لي ،لكنهم كانوا لي بالمرصاد.
يابني أبوك حلت عليه اللعنة والنقمةمن حيث لا يدري،من الخلف طعنه اللئام ،انهالت عليه الضربات من كل صوب وحدب،لكنه كان كطائر الفينيق يخرج من تحت الرماد،لم أطأطئ رأسي ولم أسلم أمري لأعدائي أو أستسلم،فقد انتفضت انتفاضة الأقوياء،وجمعت الشتات،ووحدت الصفوف،ورصصت اللبنات،فوقع أهل الحق معي على الحق،وزهق الباطل"وتذكرت قوله تعالى" وإن ينصركم الله فلاغالب لكم"
فإذا بأبيك منصور من الله،وإذا بالسحر انقلب على الساحر،وظهر الحق وزهق الباطل.
منذ ذلك اليوم وأبوك يابني يكره جنس النساء،ويكره محاضر الشرطة،ويكره الفروج النتنة التي تدعي الصلاح والتقوى.
لورأيت يابني تلك البومة ذات التجاعيد والأخاديد،لبصقت ألف مرة قبل أن تقترب منها،هي التي حلقت حاملة شرورها في أجنحتها،وقبل أن أنهي الدعاء سقطت من حالق.
انت مثل ابيك يابني تكره الظلم وتحب العدل،انت تعرف جيدا أن اباك يطعمك من مال حلال ولو كان قليلا،صحتك جيدة وأبوك يحصل على قوت يومه بعرق جبينه،والبومة يابني تعيش من المال الحرام،وإلا مامعنى أن يمزق الأطباء بطنها سبع مرات؟ هي تعرف أنني أشرف منها ومن عائلتها ومن توابعها.
وهي تعرف أيضا أن علمي غزير وعقلي يتسع لكل أنواع المعرفة،يستوعبها حتى ولو كانت أعقد من العقد،وهي تعرف أن مستواها محدود لا يؤهلها لأي شيء،وبالرغم من ذلك فقد تسللت الى عالم التدريس،وهي تعرف أن فاقد الشيء لا يعطيه.
أبوك يابني قد عرف اليقين،وخبر الطباع والطبائع،وعاشر انواع البشر،ومن شدة مكرهم وسوء طويتهم،لم يعد يتحمل مرافقته لمخلوق ولا التكلم مع منحوس مذموم.
أبوك يابني كان يعتقد ان الخير واجب والإحسان فضيلة،لكنه مع كل بذرة خير تخرج له شواظ من نيران،وألسنة من اللهب.
يابني...ان تعمل خيرا تلقى شرا،وان تطعهم فيما يأمرون،شقوا عصا الطاعة وتفرقوا عنك الى الجماعة،وأصبحت من مكرهم وخداعهم كاليتيم في مأدبة اللئام.
يابني إن منحت وأعطيت لا تلقى منهم غير العداوة والعدوان،وإن شهدت لهم شهدوا فيك،وان أكرمتهم شتموك،وإن ادخلتهم بيتك تغزلوا بزوجتك.
انهم مثل الكلاب ان تركتهم يلهثون،ان حملت عليهم يلهثون.
أعد يابني أن الغد سيكون مشرقا،سنترك لهم الجمل بما حمل،وما حمل غير الوهم والسراب.
فنعم المقام مرتحلنا،وبئس الدار هم نازلوها.
وقبل الختام لك من أبيك ألف تحبة وسلام.