الثورة حراك كوني وضرورة تاريخية
الدكتور جيلالي بوبكر
الثورة حراك كوني وضرورة تاريخية
جاء الإنسان إلى الحياة يحمل عددا من الإمكانات بالقوّة وبالفعل، يفعل وينفعل في ذاته وفي العالم الذي يعيش فيه، منتصرا تارة ومنكسرا تارة أخرى، ومظاهر الفعل والانفعال شتى تبدأ من الفرد في تعاطيه مع أناه ومع العالم الخارجي، ويعرفها الاجتماع الإنساني بمختلف أشكاله، وتتجلى في صور كثيرة ومتنوعة من النشاطات والعلاقات والنتائج، تتوزع على مسلكين، أحدهما اقترن بالفطرة السليمة وبسائر القيّم الإنسانية العليا من حقّ وعدل وجمال وحرية ومحبة وشجاعة وغيرها، أما المسلك الثاني فارتبط بكل ما لا يقبل الفطرة السليمة، ويتجه فيما يسيء إلى حياة الإنسان ويهدمها، ويصرفها عمّا وُجدت لأجله ويشمل سائر الرذائل والمنكرات والشرور التي تبعث على زرع بذور الفتنة في صورها المختلفة وتذكي فتيلها فكرا أو دينا أو ثقافة أو سياسة أو غيرها، وما أكثر دواعي الفتنة وأسباب إضرام نيرانها بسرعة غير متوقعة وبظهور مفاجئ.
تقوى الفتنة ويعظم خطرها ويصعب صدّها عند استقواء نوازع الشر في الإنسان وتغلّبها على منازع الخير والحق والجمال، وهي منازع فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكلّما أخذت الفتنة طريقها في حياة الناس اختل توازن الوجود الإنساني بينيا على المستوى الفردي والاجتماعي وبينه وبين الظواهر الكونية وفي صلته ببديع الكون وخالق الإنسان، الذي أبدع الكون والحركة والنظام، وهب الإنسان حسن الخلق والخلُق مادة حيّة ووعيا وإرادة، ينعم بالعقل المدبر لكل ما يهم الإنسان وما يتصل به، ويملك الإرادة التي تخترق القيود وتختار بنور البصر والبصيرة على بيّنة، فتفصل في الصراع الأزلي بين نوازع الشرّ ومنازع الخير، بين مصادر القبح ومساراته ومطبّاته من ناحية وبين منابع الحسن ومسالكه ومصبّاته من ناحية أخرى، في كثير من الديانات والثقافات عبر التاريخ وحتى الآن يتفق العقل مع الوحي في أنّ خيرية الإرادة البشرية وفاضليتها بالفطرة لا بالكسب، ويزيدها الكسب تأييدا لذلك وتأكيدا عليه.
ففي خضم الصراع الدائر بين الخير والشر لا على المستوى الأخلاقي فحسب بل في جميع وحدات الوجود وفي كافة مستويات الحياة الإنسانية التي تتميز بالكثرة والتشابك والتعقيد، يضطلع الإنسان لما له من قوى بمهامه وصلاحياته لفرض النظام على المستوى الفردي وفي المجتمع وفي تفاعله مع الكون، واستغلاله كافة الإمكانات المتاحة في أناه وفي غيره من بني جنسه أو في الكون، انطلاقا من الإرادة النبيلة التي تسمو فوق كل ما هو دنيء، لبناء حياة يسودها النظام وتحكمها القيّم العليا، من تواصل إيجابي واحترام متبادل وحوار بنّاء وتسامح، وفي أمن والسلام.
لكنّ الواقع الإنساني اليومي منذ حلّ البشر أوّل مرّة على الأرض حتى الآن يعيش حدّة الصراع بين اتجاهات الخير ومنازع الشر في الفرد والجماعة وما أكثر الأفراد والجماعات، ويسجل بمرارة تلك الهوة السحيقة والبون الشاسع بين النظر والعمل، النظر العقلي والديني والاجتماعي والأخلاقي والحضاري عامة، وما يؤكده هذا النظر من أهمية عظمى في حياة الإنسان لثلاثية الحق والعدل والجمال ولسائر القيّم العليا الأخرى التي تمثل الخير، ومدى حاجة الإنسانية فرادى وجماعات إلى الخير، وما يجلبه الخير للإنسان على المدى القريب والبعيد معا، النظر في مقابل العمل والممارسة اليومية المعيشة حسّا وواقعا التي تثبت ما لا يثبته النظر بالعقل أو بغيره، وتدل على استمرار الفساد في كل الأزمنة والأمكنة واشتداده في الفكر وفي النفس وفي المجتمع وفي صلات الإنسان بالكون وببديع الكون، وعند طغيان الفساد وبلوغه درجة لا تُطاق تضطلع فطرة الإنسان من قلّة أو من كثرة برسالتها وتركن إلى الإصلاح والتجديد والبناء والتعمير وتنبذ ما ليس منها من اختلال في موازين الحياة، كل ذلك يجري على أسس ويتخذ سبلا سلمية أو عنيفة لرد الأوضاع إلى نصابها وطبيعتها، ومن السبل المتخذة الثورة.
الثورة في حياة الإنسان الفرد والجماعة فعل من أفعال الطبيعة البشرية وهي جزء من الطبيعة الكونية ككل في اتجاه التغيير باعتباره أساس حركة الوجود ومسارها ومبتغاها، وصوب الاستنهاض مما تميّز بالسكون والركود، ونحو قلب الأوضاع بالنسبة للحراك الثوري أو الحراك الثوري المضاد في سياق جدلية الصراع التاريخي الدائم بين قوى النزوع نحو إحقاق الحق والعدل في النفس وفي المجتمع وفي الكون وبين قوى التوجّه إلى إبطال الحق والعدل وإلى إذكاء نار الفتنة، وفي جميع الحالات منذ القديم حتى الآن تركب الثورة موجة التغيير المطلوب وفق ما ينبغي أن يكون وانطلاقا مما هو كائن بين الواقع والمأمول، والانتقال من السكون والضعف والاختلال إلى الحركة والقوة والنظام.
تسعى الثورة إلى ما يجب أن يتحقق بعدما غاب واختفى من منظور العقل والشعور والواقع وسائر القيّم والشرائع التي تؤمن بها الثورة في بعدها الإنساني التاريخي ولا تؤمن بغيرها، على أنّ الواقع المُثار عليه بلغ من التأزم والثوار بلغوا من القنوط والثورة بلغت من النضج وعيا وتسلّحا بالوسائل والسبل سلميا أو عنفا أو هما معا، كل ذلك بلغ ذروته، فتنطلق الثورة ويتحرك معها التاريخ ليتسلّم البناء الجديد في أجل قريب أو بعيد، فالثورة حراك طبيعي إنساني تاريخي ينطلق متى توفرت شروطه لوازمه ساعيا إلى إحداث البناء الجديد بعد تحطيم البناء القديم وإبعاد ردمه و بقاياه.
وفي كثير من الحالات يلقى الحراك الثوري مصاعب تحُول بينه وبين أهدافه، فيتعثر ويخمد ويُخفق جزئيا أو تماما، ومسار الحراك الثوري بين النجاح والإخفاق مردّه إلى سياقه التاريخي بجميع أبعاده، فالثورة حراك إنسان بكل ما تحتويه لفظة إنسان من دلالات، والإنسان وثورته في كل الأحوال بدءا وسيرا ونظاما وأهدافا كل ذلك يتم في جوّ يشتد فيه الجدل والصراع والتناقضات بين القوى الثائرة والقوى المعارضة، فيرتبط نجاح الثورة بقوة الثوار وضعف خصومهم أما إخفاقها فينتج عن قوّة أعدائها أو إلى اختلال في وسائل وسبل تنفيذها، الأمر الذي يتطلب حساب الثورة بالدقة والعمق الكافيين.
إذا كانت الثورة حراكا إنسانيا ينشد تغيير واقع راهن إلى واقع جديد مختلف يحمل آمال وتطلعات الثوار فإنّ ذلك يعبر عن صراع بين إرادتين متعارضتين في المبدأ والمنهج والغاية، إرادة جاثمة على أرض الواقع بيدها زمام الأمور همّها حفظ الواقع القائم من الزوال من غير اهتمام بأحواله في السلب والإيجاب أو رعاية مصالح الناس ومطالبهم، وإرادة مطلبها إزالة الواقع القائم وتغييره نحو الأفضل متخذة طريق قلب الأوضاع عنفا أو سلميا مستغلة جميع الإمكانات المتاحة لتحقيق ما يتطلع إليه أصحابها ومن خلال كشف عورات الواقع المعيشي المتأزم المثار عليه، فالإرادة الثورية تتحول إلى حركة ثورية عملية واقعية تربط مبادئ الثورة بوسائلها وسبلها المختلفة وبآمالها وتطلعاتها، ويجري تنفيذ الثورة في الواقع في إطار توجّه إيديولوجي يتجه فيه الثوار يتميّز بوحدة المنظور أو تعدده ووفق إستراتيجية نظرية وعملية تشمل كل ما يعني الحراك الثوري منذ انطلاقه حتى وصوله إلى مراميه.
عند تحليل الثورة باعتبارها ظاهرة إنسانية نجدها حراكا إنسانيا مركبا فيه الفطرة والكسب معا، فيه القوّة والضعف، يرتبط هذا الحراك بالوجود الإنساني ككل ويصدر عنه سواء في الاتجاه السلبي أو في الاتجاه الإيجابي أو في اتجاه الجدل والصراع بين الاثنين، والثورة بهذه الدلالة ترتبط بكيان الإنسان وما يتميز به من تفرد في تركيبته وحركته وتأثيره وغائيته، كيان مركب بأقصى التشابك والتعقيد والتعدد والتنوع والتغيّر، مما هو بيولوجي يشترك مع ظواهر أخرى في العالم الذي يعيش فيه الإنسان، ومما هو فكري وعقلي ونفسي خاص بالإنسان، ومما هو ثقافي بكل ما تتجلى فيه الثقافة من مظاهر وأشكال، ومما هو اجتماعي يتسع مجاله للكثرة والتنوع والتغيّر والتشابك والتعقيد، فيوجد السياسي والاقتصادي والديني والأخلاقي والتربوي والإيديولوجي والعلمي والتقني وغيره كثير، وكل جانب من الجوانب المذكورة يتصل بغيره ويتداخل معه وينحل إلى ما يصعب حصره وتحديده، والثورة ترتبط بهذا الكيان مصدرا وحراكا وغاية.
فالثورة انتفاضة إنسان بعد سكون واستنهاض إرادة بعد نوم سباتا كان أو إغفاء، وحراك جماعة بشرية بلغت من النضج في الوعي الثوري ما يؤهل الإنسان نحو تثوير كيانه الفردي والاجتماعي، تثوير الأنا والمجتمع والواقع في حركة شاملة لا تستثني طرفا في إنسانية الإنسان، فالثورة ثورة العقل والفكر على ما لا يرومه من أفكار وتصورات ومفاهيم بعد تفكير وتأمل وتدبر فيما هو كائن وفيما ينبغي أن يكون تحليلا ونقدا وتقييما واستنتاجا، فثورة الفكر العلمي قبيل وخلال النهضة الأوربية وحتى الآن تعكس دور العقل البشري في إنتاج ثورة الأفكار والمعارف والتمكين لها، وكل ثورة في حياة الإنسان إنّما هي ثورة في الأفكار قبل كونها حراكا عمليا ملموسا.
الثورة ثورة أنا ووعي وشعور، أنا مفعم بالرغبة في التغيير وعلى درجة عالية من الاهتمام بذلك فيتمركز الشعور على ذلك انتباها وميلا وتفضيلا واهتماما وغيره، لأن التثوير أو التغيير أول ما يبدأ في النفس وعلى مستوى الشعور ثم ينتشر بعد ذلك في العالم الخارجي الاجتماعي والطبيعي. قال تعالى:"إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم". الرعد:11.وقال تعالى: ذلك بأنّ الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأنّ الله سميع عليم". الأنفال: 53.
كل الثورات وحركات التغيير التي عرفها الإنسان عبر تاريخه الطويل جاءت بداياتها أول مرّة في النفوس، نفوس تتغير وتتحول من الداخل كليا أو جزئيا لرفض الواقع والتمرد عليه، وتتشكل فيها الأفكار الجديدة والمشاعر المغايرة والمضادة لما هو قائم ذاتيا وموضوعيا في اتجاه تحقيق التطلعات والآمال التي هي في مصدرها وجوهرها ومنتهاها مطالب نفسية فردية تأخذ الصبغة الاجتماعية بعد ذلك، لذا نجد الكثير يولي عناية خاصة بتربية نفوس النشء على الفكر الثوري التثويري والروح الثورية في مقابل روح الاستكانة والقابلية للاستعمار التي يعتبرها المفكر الجزائري "مالك بن نبي" هي وراء كل استعمار عرفته البلاد العربية في عصرنا.
حتى أنّ الثورة من داخل النفس وتحوّل الشعور وتبدّل حالة الأنا هي حالة وجدانية ذاتية خاصة، تعتبرها الكثير من الاتجاهات الدينية والفلسفية وغيرها تكفي الإنسان رفضا للواقع وانتصارا على أي حال غير مرغوب فيه، فالتغيير المنكر يكفي بُغضه بالقلب عند عجز اللسان واليد، والسجين يكفيه شعوره بالحرية ورفضه للسجن وقيوده ليكون حرّا بعد عجزه عن التحرر الملموس، فقبل أيّة محاولة ثورية في أي واقع اجتماعي ما يبدأ الحراك الثوري في الأنا، هذا الحراك الذي يشقّ طريقه خارج الأنا من خلال التواصل والحوار والتنظيم وبواسطة كل ما من شأنه يدفع نحو إخراج فكرة الثورة والشعور بها من الموت إلى الحياة ومن الظلام إلى النور ومن النظر إلى العمل.
إذا كانت الثورة في بدايتها ثورة عقل وفكر وثورة أنا وشعور فهي ثورة جماعة بشرية بعد ذلك، فئة أو طائفة في المجتمع، أو ثورة شعب، أو ثورة أمة، الثورات الإنسانية عبر التاريخ لها ما يجمعها وتتقاطع فيه ولها ما يفرقها وخاص بكل ثورة بعينها، والثورة في المجتمع يتسع ويتنوع ويتعدد مجالها منطلقا ومسارا وأهدافا باتساع وتعدد وتنوع الحياة الاجتماعية في تكوينها وبنيتها وفي سائر مجالاتها، فهي في أول أمرها فردية بكل ما يتميّز به الفرد من خصوصية بيولوجية ونفسية وعاقلة ومدنية اجتماعية، الخصوصية الفردية التي كانت وراء تكوين الجماعة ووراء تحويل الجماعة إلى مجتمع منظم وشبكة من العلاقات الاجتماعية في قطاعات ومستويات عدّة ترتبط بها الثورة جميعا من كونها فكرة وخلال حراكها وتنفيذ إستراتيجيتها وبالنسبة إلى ما تأول إليه.
الثورة في المجتمع تتجاوب تأثيرا وتأثرا مع الفرد ما ويتصل به ومع الجماعة وما يعنيها، هذا التفاعل بين تنفيذ الثورة وما يؤيده ويدعمه ومع ما يتحداه ويصده ومع المواقف الوسط وغيرها، في سياق فيه من التعارض والتباين والتضارب والتعدد والتنوع في الموقف والاتجاهات والمصالح ما لا يمكن حصره، ففي الثورة في أي عصر وفي كل مصر يحضر الأنا الفردي بكل قواه، وتحضر الثقافة ويحضر الدين وتحضر السياسة والأخلاق والتربية والعلوم والفنون وسائر التقنيات ويحضرا لاقتصاد ويحضر المجتمع ككل بسائر علاقاته وظواهره ومؤسساته وبجميع فئاته، فتنشأ الثورة وتتكون بفعل تدخل الفرد والمجتمع وبتأثير كل قوانين وعلاقات ومؤسسات المجتمع، ولمّا تُزهر الثورة وتُثمر فقطوفها تدنو وتُستغل في كل ما يخص الفرد ويعني المجتمع الذي يعيش فيه، بل تستغلها المجتمعات الأخرى في سياق التواصل الإنساني الاجتماعي المتبادل.
فالثورة العلمية في أوربا الحديثة على الرغم من مرجعيتها الليبرالية الرأسمالية والعلمية التكنولوجية والعلمانية فإنّها أحدثت التغيير المطلوب والتحّول اللاّزم في الحياة الاجتماعية للشعوب الأوربية بكل ما تعرفه الحياة الاجتماعية من مجالات، إذ سجلت الثورة خروج التفكير في اتجاه العلماوية والتكنولوجية والعلمانية عن التفكير الديني المسيحي وعن التفكير الفلسفي القديم أي عن المنهج الإيماني الكنسي في حياة وعن المنهج الأرسطي في البحث والدراسة، وقلبت الثورات الأوربية الحديثة سائر الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية عامة، بواسطة قيّم ومقوّمات الحداثة من حرية وديمقراطية وفصل الدين عن الدولة وتحكيم العقل والعلم والارتكاز على التكنولوجيا وسلطة القانون واحترام حقوق الإنسان وغيرها.
هذا الحراك الثوري الإيجابي الذي عرفه الغرب الأوربي الحديث صار تقليدا للشعوب المتخلّفة في أوروبا وخارج أوروبا، ومنها الشعوب العربية والإسلامية، وفي كل الحالات الثورة هي تغيير وتحول في داخل الإنسان وخارجه، وقلب الأوضاع القائمة المألوفة وانقلاب على الحاضر يستند إلى الماضي ويسعى إلى آت أفضل وفق إستراتيجية ما، حراك ثوري رياحه تهب في جميع الاتجاهات وتشمل كافة جوانب الحياة الإنسانية للجماعة البشرية بمختلف أنماطها من دون استثناء أي جانب منها، وقد تهب على جماعات بشرية أخرى تفاعلا وتأثرا لما بين التجمعات الإنسانية من تقاطع وارتباط، وما يحدث من تأثير متبادل فيما بينها، لأن الحكمة من التعدد والاختلاف بين الناس على الرغم من وحدة الأصل فهي التواصل والتعارف والتواد والتعاون لا الفرقة والتدابر والتناحر مثلما هو حال المجتمعات العربية المعاصرة وحتى حال المجتمعات غير العربية في تأثرها بالثورات العربية الراهنة.
ترتبط الثورة في تكوينها وبنيتها وحراكها بالسياق الاجتماعي والتاريخي العام الذي تتحرك فيه تأثرا وتأثيرا، وبمقتضى الأوضاع القائمة فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا وغيره، وبمقتضى إمكاناتها المتاحة وعيا وتنظيما وقوّة في العدد والعدّة تختار الثورة المسلك الذي تسلكه، العمل في السرّ أو في العلن، طريق السلم والمطالبة أو طريق العنف والمغالبة، تركّز على عمل النخبة أم إشراك جميع الناس في العمل الثوري، تستهدف قلب الأوضاع تماما أو تكتفي بالحراك الإصلاحي، كل ذلك ضمن خطة واضحة في مبادئها ووسائلها ونتائجها، وإلاّ تتعثر وتُخمد.
الثورة إرادة جامحة توّاقة إلى الاكتمال والإنجاز والتحقق، لذلك تتحلى بمكارم الأخلاق، ولكونها حراكا كونيا فهي تلبس دوما الفضائل وتجعلها شعارات ومبادئ لها وفي مطالبها ونتائجها المنشودة، ترتبط الثورة بالحق والصدق والعدل والحرية والمساواة والنبل والشرف والإباء والشجاعة والبطولة والمجد والسؤدد وغير ذلك من المحامد لدى الفرد والجماعة معا، ولكونها ضرورة وحتمية تاريخية فهي تتشبّه بكل ثورة ناجحة سابقة أو معاصرة لها صنعت الأمجاد والحريات والبطولات تستلهم منها العبر وقوّة العزم على الدوام والاستمرار حتى الانتصار.
تعكس إستراتيجية الثورة منذ ثار أول إنسان في الوجود حتى الآن إرادة الإنسان في الحياة، وحياة الإنسان ليست في مستوى المخلوقات الأخرى التي تعيش معه، فإرادة الحياة الإنسانية مقرونة بدور الإنسان وبرسالته في الحياة وهي خلافة الله على الأرض، رسالة على أشرف حال وأمانة في أعظم درجة ودور في أرقى مستوى، لذا فكل ثورة تنشد الأفضل وتطلب الأرقى وتسمو وتترفع عن كل ما هو دنيء في مبادئها وقيمها ومطالبها، فتواجه مصاعب وتحدّيات جمّة تعكس هذه المواجهة الصراع الجدلي الكوني بين الخير والشر في الإنسان، وتنتصر في النهاية قيّم الخير العليا على منابع الشرّ السفلى لأنّ الخير حقّ وصدق والحقّ يُعلى ولا يُعلى عليه، فالحق اسم من أسماء الله وصفاته وأفعاله، والحق هو الله فوق كل الموجودات.
سنن الكون والحياة كثيرة، لولاها لاختل نظام الكون ولفسدت الحياة، والثورة فعل إنساني من سنن الكون ومن حتميات التاريخ اهتدى إليه الإنسان بحكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء لضمان النظام والعدل والتوازن وردّ الأمور إلى نصابها في نفس الفرد ووجوده وفي كيان المجتمع وفي الإنسانية جمعاء وفي الكون ككل، فالثورة بحق هبة من الله تعالى تردّ الإنسان إلى فطرته السليمة التي فطره الله عليها لا على غيرها في العقيدة والشرع والأخلاق والآداب وفي عمارة الأرض عامة.
الأربعاء 10 رمضان 1432 هـ
الموافق 10 أوت 2011 م