ادب: النص الديـني والإبـداع الأدبي
ناظم محمد العبيدي
تحمل النصوص الدينية في دلالاتها النهائية سمة النبوءة، فضلاً عن تفسيرها لأصل العالم والوجود الإنساني وعلاقته بالمطلق، وهذا ما جعلها مصدراً مهماً ممتد التأثير في القرون المتتابعة، بل إن جهوداً فكرية كبيرة بذلت من أهل الفكر المؤمنين لإيجاد تصالح بين التصورات التي جاءت بها هذه النصوص
وما أشاعته الفلسفة من نزعة عقلية تتجافى أحياناً عما دأبت الكتب المقدسة على ترسيخه في الكثير من المسائل التي كان للعقل المتفلسف رأي آخر فيها، ولذلك فإن إطلاق صفة الأسطورة ـ اذا أريد بها المعنى المرادف للخرافة ـ على النص الديني ليس دقيقاً كما أعتقد، مع وجود هذه التأويلات التي ظلت تواصل ردم الهوة الماثلة، والحديث عن تأثير تلك النصوص الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والممتلئة على نحو هائل بمستويات متعددة من جوانب المعرفة والإبداع، يتطلب بحوثاً مستفيضة تتعقب وتقف عند تأثيرها في ما أنتج من إبداعات أدبية.
بل وحتى تاريخية بسبب قدرتها على التماهي مع المنطق التاريخي لأصل الإنسان ومجيئه الى العالم، وليس من السهل التغاضي عما تتضمنه النصوص الدينية من عناصر فنية وجمالية، بسبب ذلك الغنى الذي المحنا اليه، ولهذا كانت لها كل تلك القدرة على التأثير في آداب العصرالحديث، اذا تغاضينا عن تأثيرها في القرون السابقة، مثل الكوميديا الإلهية لدانتي وغيرها من المؤلفات التي يعرفها عامة القراء، وربما كان من المفيد هنا أن نذكر بالنقلة الكبيرة التي حصلت في مجال اللسانيات خاصة، والمجالات العلمية الأخرى، فلهذه الرؤية المعاصرة الفضل في الكشف عن قراءات جديدة للنص بشكل عام، إذ أتاحت المناهج العلمية الفرصة لقراءة النصوص التاريخية ومنها النصوص الدينية بطريقة علمية، فلا تظل حبيسة القراءات التقليدية التي تتجاهل ما للنص من مستويات متعددة في القراءة، وما يحيط به من عوامل تاريخية ساهمت بشكل أو بآخر في تكوينه، ولولا أن الكثير من القراءات مازالت تجتر من الماضي متوقفة عند مستوى واحد من الفهم، لأمكن التخلص من الكثير مما تسببه النصوص الدينية من إشكالات ذات طابع سياسي واجتماعي يشهدها العالم قديماً وحديثاً ، ولعل في غلبة المقدس لهذه النصوص وما ألفه القراء هو الذي حال دون وجود قراءة منفتحة ، تتناسب مع الرؤية المعاصرة التي لم تعد تتمثل الرؤية التقليدية الجامدة ، والطريف أن مانؤاخذه هنا على القراءات الضيقة للنص الديني قد وجدت في أدبيات قديمة، ومنها ما نجده عند الصوفي ابن عربي ، الذي إنتقد في مواضع كثيرة من كتبه الفهم السطحي للقرآن ، والتوقف عند مستوى واحد من الفهم ورأى في ذلك ضرباً من الجهل، وكأن الصوفية قد شعروا مبكراً لما يمتلكونه من حدس دقيق، وحس جمالي نافذ بما تنطوي عليه اللغة في طبيعتها وكذلك النصوص من جوانب تحتاج معه الى مستوى متميز من الفهم ، لهذا فقد نشأت عداوة حتى يومنا هذا بين من يقرؤون النص ضمن مستوياته المتعددة، وبين من يتوقف عند مستوى واحد لا يتمثل سواه .
حول تأثير النصوص الدينية في الأدب الحديث ، استطلعنا آراء بعض مثقفينا للوقوف على الجوانب المختلفة لهذه الفكرة .
النص الديني والحاجة الأدبية
توقف الروائي أحمد سعداوي عند حاجة المؤلف في عملية إبداعه للنص الديني، الذي يمتلك حضوراً في المخيلة الجمعية، وفي ثقافة المتلقي الأمر الذي يمكن استثماره ابداعياً لما يمتلكه من طاقة دلالية، تقرب المعنى الذي يسعى الى إيصاله عبر النص الأدبي:
الدين بكل مستوياته كنصوص مقدسة، ومنظومة قيم وتاريخ اسطوري له حضور فاعل واساسي في الادب العالمي بصورة عامة، وظلت الرموز الدينية وما يمكن ان نسميه الجانب الادبي في النص الديني المقدس، من استعارات وامثال ورؤى تمثل خزيناً هائلاً للتشكيل الادبي، وهذا لا يعني بالضرورة ان الادب الذي يستعمل المادة او الموضوعة الدينية هو أدب ديني، ونحن اذا بحثنا في عينة واسعة من النصوص الادبية العالمية، خاصة في الثقافة الغربية، وما يماثلها من نصوص واعمال في الثقافة العربية سنجد مفردات تتكرر كثيراً، كالملائكة والشيطان، والإله والجحيم والجنة والفردوس، والعقاب والخير والشر، وهي كلها مفردات مرحّلة من النص الديني دون شك، ولكنها تأخذ داخل النص الادبي توجهاً مختلفاً ربما، يلبي حاجات المؤلف للتعبير عن فكرته الخاصة.
إن حكاية مثل الحكاية التوراتية عن آدم وحواء والشجرة والشيطان، وقابيل وهابيل كرس لها كتاب قدامى ومعاصرون العديد من الاعمال والمؤلفات لغايات الاشارة الى معضلات معاصرة.
وعموماً... الادب الحديث يتعامل مع القاموس الديني بكل ما فيه من مفردات ضمن اطار أوسع يمكن ان نسميه التراث، وهذا التراث بالنسبة للادب المعاصر اشبه بغرفة الأدوات والعدد يتم استعماله، وليس تقديسه.
التناص مع النصوص الدينية
وعن أهمية النصوص الدينية كمحفزات ابداعية رأى الناقد بشير حاجم، أن الأديب لا يمكنه تجاهل مالهذه النصوص من أهمية إبداعية لغوية وجمالية ، فضلاً عن تقنياتها الفنية التي تمد الكاتب برصيد هائل من الخيارات الإبداعية:
لا ريب في أن للنص الديني ( المقدس ) تأثيراً جلياً في النص الأدبي، واحد من أهم تجليات هذا التأثير هو ما يخص الرسالة الإبداعية ذاتها، إذ إن من أهم سمات النصوص الدينية المقدسة انها تمتلك مجالات ابداعية جمة على كافة الصعد : اللغوية، البلاغية، المعرفية، الثيمية وسواها.
وهذا الامتلاك لا يقتصر على نصوص دينية مقدسة دون غيرها، بمعنى أن (ابداعات) الكتاب المقدس بشقيه (العهد القديم) و(العهد الجديد) لا تقل أهمية عن (ابداعات) القرآن الكريم.
وهذا ما يعني أن امتلاكاً ابداعياً كهذا يجب وبالضرورة أن يلقي بظلاله على النصوص الأدبية: لغوياً، بلاغياً، معرفياً، ثيمياً.
وفي اعتقادي لا يمكن تصور أن اديباً مرموقاً لم يقرأ القرآن الكريم او الكتاب المقدس في الأقل، وما اعنيه بقراءتهما هنا إنما القراءة الجادة الرصينة التي غالباً ما تكتشف محفزات جديدة للإبداع فيهما، وبحسب اطلاعي على السير الحياتية لكبار الأدباء، لاسيما أولئك الذين حصلوا على النوبل والبوكر أعرف انهم مذ اكتشفوا بذرات أدبية في كتاباتهم كانوا قد توجهوا فيما توجهوا اليه نحو قراءة النصوص الدينية المقدسة، ولعل المثال الأبرز منهم هو الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، وما واقعيته السحرية التي تمثلت في (مائة عام من العزلة) مثلاً، سوى فيض من تدفق قراءته للكتاب المقدس، لاسيما أسفار العهد القديم منه ، حيث استثمر بشكل أساس مافي هذه الأسفار من ( تجايلات) تمتد من (آدم) ولا تنتهي بـ (عيسى)
الخلاصة أنني أشك دائماً في ظهور نص إبداعي متين لم يتناص مع نص ديني مقدس.
البناء الأسطوري
وقرأ الدكتور عبد الهادي الفرطوسي العلاقة التي تجمع بين النصوص الأدبية والنصوص الدينية هي ظاهرة الأسطرة، أي في محاولة تجاوز الواقع بفضاء آخر بديل، وهذا ما يفسر عملية التناص المرافقة للكثير من النصوص الأدبية التي تستلهم من النص الديني بعض الرؤى والتقنيات :
بدءاً يمكننا القول ان النص الديني صورة من صور النص الأدبي، فالكتب المقدسة هي نصوص أدبية رصينة، لها خصائصها الإبداعية المميزة، وأبرز ما يميزها البناء الأسطوري، وقد بقيت الأسطرة هي الظاهرة المميزة للتناص بين النص الديني والنص اللاحق له .
وهذا مانلمسه في النصوص الأدبية عبر مختلف العصور، وفي عصرنا الحديث يمكن الإشارة الى اهتمام رواد الشعر الحديث بشكل كبير في توظيف النص الديني، والاستفادة مما يحمله من طاقات دلالية نلمس هذا جلياً في كتابات السياب والبياتي ، حيث يظهر التوظيف المتواصل لنصوص القرآن الكريم والكتاب المقدس في قصائدهم، وكان للنص الصوفي الإسلامي حضوره الواضح كذلك في مرحلة السبعينيات نتيجة لمتغيرات سياسية واجتماعية لا يتسع المجال للخوض فيها .
وكان للشاعر حسين علي يونس رأي يقارب ذلك، حيث أشار الى العلاقة التي تجعل من النص الديني قريباً من النص الأدبي، وهي ترتكز على أن للنص الديني سمة البدائية التي تنظر الى العالم وفق رؤية معينة، لذلك فإن الأديب لابد أن يستعيد تلك الرؤية وهو بصدد إبداعه ، إذ تنطوي على إزاحة ما للجهد العقلي الذي فسر كل شيء بمنظور موضوعي، وهذا ما يخلع من النص الإبداعي ربما الكثير من عناصر الخيال والدهشة، فقد تمثلت البدائية العالم والحياة على نحو مغاير، وعلى ضوء هذا يمكن أن نفهم هذه العلاقة القديمة الجديدة بين النصوص الدينية والأدبية.
وحين نقرأ النص الديني مثل التوراة باحثين عن أوجه التأثر والتأثير سنجد أن فيه، ذات الرؤية التي قدمتها شعوب مابين النهرين للتاريخ والعالم، وهذا يؤكد أن الرؤية التي تداولها الوعي الإنساني تتطابق وتحاكي بعضها بعضاً، وقد أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية، الكثير من الصلات العميقة بين شعوب العالم المختلفة مع وجودها في أماكن مختلفة جغرافياً وهذا ما يفسر لنا أحد أوجه التشابه التي تتعلق بطبيعة الوعي البشري.
الأثر الأبعد
ورأى الفنان التشكيلي محمد راسم قاسم أن جدلية التأثر، أبعد كثيرا مما يبدو للوهلة الأولى، فحتى النص الديني يحمل مظاهر التأثر بنصوص أخرى سبقته، كما هو الحال في أسفار التوراة التي تحاكي الكتابات البابلية ، ولهذا فإن من الصعوبة بمكان تصور وجود نص في العالم مقطوع الصلة بأثر سبقه أو زامنه على نحو ما :
لا يختلف أي مطلع للتراث الادبي قديمه وحديثه على مدى تاثره بالنصوص الدينية، فأكبر النصوص الأدبية التي شغلت العالم من رسالة الغفران للمعري، الى الكوميديا الآلهية لدانتي ماهي الا وصف مكثف لما ورد من حديث الاسراء والمعراج، ولو عدنا الى المعتقدات الدينية في العراق القديم لوجدناها قد أثرت في أنواع الفنون الأخرى، سواء كان ذلك في اشتراك الآلهة بأحداث الملاحم والقصص والأساطير أم في الأغراض الدينية كالتراتيل والابتهالات والصلوات التي كانت تؤلف قسماً مهماً من النتاج الأدبي الشعري. أما النثر، فقد استخدمه قدماء العراقيين في تدوين الحوادث التاريخية والرسائل الملكية، كما في تدوين أعمال الملوك وحملاتهم الحربية والشرائع والحكم والأمثال.
ان مهمة الوقائع الواردة في الأدب البابلي، هي للتدليل على التشابه الوارد بين النصوص البابلية والنصوص الأدبية لأسفار التوراة من حيث الفكرة والطروح، خصوصا أن التوراة لا يشكل كتاباً واحداً بل هو سلسلة من الكتب، كتبها عدد من الأحبار في أزمان متباينة، وانها لا تقتصر على موضوع واحد بل تتناول أبحاثاً في التاريخ، وقصة الخلق، وشعراً وفلسفة، ما أكده التشابه بين الكتاب المقدس ـ التوراة ـ وآداب البلدان المجاورة شبهاً في الصيغة والكيان وبعض الأحيان، تقارباً ليس في الصيغة الأدبية، بل في الوقائع والعقائد كما قال الكاتب الفرنسي جان لوي برنار "وتحس بكل تأكيد أن أحبار اليهود قد اقتبسوا من تواريخ الأقطار التي جاسوا خلالها بعض الحكايات، فعبرنوا كل المعلومات التي كان الغرض منها تلفيق أكذب تاريخ للعالم .
ولا يخلوا الادب الحديث من تاثره بالنصوص الدينية سواء اكانت سومرية او بابلية فاعتماد السياب مثلا على الاساطير التي هي بالاساس نصوص دينية سومرية وغيره من الشعراء وكذلك تاثر شعراء التصوف كالحلاج وابن العربي والغزالي بالنصوص القرآنية والاحاديث النبوية وقد بنى هولاء الشعراء جل موروثهم الابدا عي من الموروث الادبي الديني
ان تأثير النص الديني لمجتمع تعامل ويتعامل مع هذه النصوص بشكل مباشر وعميق، يكون تأثيرا عميقا ولا سيما في أدب هذه المجتمعات ولايقتصر هذا على الشرق او الغرب انما هو عامل يشمل كل مجتمعات العالم، وهو تأثر طبيعي لما لهذه النصوص من تاثيراساسي على مجمل الحريات.
ومن هنا نستطيع القول ان تأثر الشعر بالنص الديني عند العرب بدأ مع المدائح النبوية ،وفي القرآن الكريم نجد كثيرا من الآيات في مديح الله جل جلاله والاعتراف بفضله على المخلوقات وقوته. لذلك سار الشعراء في تقديس الله ومدح رسوله متاثرين بالنص القراني الديني ومن أوائل الشعراء المسلمين الذين نظموا في مدح الإله، حسان بن ثابت الذي يقول:
وأنـت إلــه الخلـق ربي وخالقي بذلك ما عُمرتُ في الناس أشهدُ
تعاليت رب الناس عن قول من دعا سواك إلها أنـت أعلى وأمـجد
لك الخلـق والنعماء والأمـر كلـه فإيـاك نستعيـن وإيـاك نعبـد
استخدم حسان الألفاظ التي يرددها المؤمن في الصلاة والعبادة، لذلك راح يدعو الله ويشهد بفضله بالفاظ قرآنية. وللدين ونصوصه تأثير كبير مايؤكد ان المسرح بدا في دور العبادة كطقس ديني مستخدما النصوص الدينية.
ولا يمكن الفصل بين النصوص الدينية والادب فالنصوص الدينية هي مدونات ادبية تحمل من سمات الادب الكثير وحتى القرآن الكريم فيه من الشعر والقصة الكثير والتي لايسمح المجال من الخوض فيها لانها تستوجب مساحة أكبر ودراسة أعمق .
nazum111@yahoo.com
المصدر
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=94592