وضعت سراج الزيت في مكان لا تصله أيدي العابثين ، تتماوج ذؤابته كلما حركتها النسائم ، التف الصبية في المساء حول الجدة أم شكري ، ينصت الجمع إليها كأنهم في حلــقة ذكر ، حـين تشعل قناديل الحكايات ويحبك الكلام الذي يشف كجوهرة ، اعتـاد الأطفال سمـاع حكايات الجدة قبل الذهاب إلى النوم ، بدأت الليلة بحكاية "الشاطر حسن وسـت الحسن" ، ناسية أنها - في ذروة انشغالها بغياب ابنها - أعادت قصها في الليلة الماضية ، إلا أن ذلك لم يعكر هذه الأمسية واستمر الأولاد منصتين إلى الحكاية كأنهم يستمعون لها لأول مره . تتحدث إلى نفسها ـ لقد تأخر ولدي كثيرا .
نام الأولاد بينما بقيت الجدة جالسة دون مؤنس ، وفي ركن قصي تتوسد زوجة شكري ذراعها بعد عناء يوم من أيام حملها الأخيرة ، وضعت أم شكري يديها فوق رأسها كأنها تحمل كل هموم الدنيا ، مثل رسام انتهى من لوحته وأوى إلى سريره متعبا وحيدا إلا إذا غادرت إطارها لوحته كي تبعد عنه وحشة السرير . بقيت على حالها فترة طويلة ، شكري لم يعد حتى الآن ، يزداد قلق الجدة مـع مرور الوقت .
الهواجس تداهمها ، الصمت ريح نائمة وهدوء مجنون تتفلت من بين سرائره أهداب الموت . تراءى لها منظر الفرسان عندما اقتادوا ابن جيرانهم مقيدا تجره الخيول ، "ربما صادفت ولدي مجمـوعة من الفرسـان في الغابة ؟! " تنتفض الجدة كأنها تصحو من نوم عميـق فجأة عند سماعها وقـع خطى البغـل في هزيع الليل ، هرولت إلى باب البيت لتفتح المزلاج تعثـرت بعـود من الحطب ، جاهدت في الحفاظ على توازنها . تتمتم بأدعية وتقول :
- الحمد لله لقد عاد ولدي .
واصل شكري قطع أشجار الغابة القريبة ليـلا ، خـوفا من بطـش الفرسان ، رأى ضـوءا ضعيفا يتحرك ، بقي جامدا في مكانه ، استمرت حركة الضـوء غير بعيدة عنه تزداد محنته ويزداد خوفه ، لم يصدر أي صوت عن حركة الضوء ، طال انتظار شكري وأعصابه مشدودة لما يمكـن أن ينجلي عنه حقيقة الموقف ، وفي اللحظة الأخيرة تمر أمام وجهـه حشرة "سراج الغولة " .
استطاع أن يجمع حمل البغل من الأخشاب ، أعدها للنقل عبر دروب وعرة لا يسلكها الفرسان ، قصد شكري إحدى القرى المجاورة لبيع الأخشاب .
جلست أم شكري وأمسكت بعمود الرحى ، وصورة شكري لم تفارق مخيلتها ، بدأت بطحن القمح ، مـع الحركـة الدائرية لقرص الرحى العلوي وحركة جسمها إلى الأمام وإلى الخلف تتناسق الحركات مع الصوت الحزين الذي انساب في سكون البيت . أخذت تردد " ترويدة " يقطعها لهاثها .
استندت إلى ساق شجرة مقطوعة كان قد جلبها ولدها من الغابة ، تعـلق ذيل ثوبهــا بعمود الرحى ، كادت أن تسقط أرضا لولا تنبهها إلى ذلك ، تتفقد بيض الدجاج في النجفة وتعيدها إلى مكانها .
الأشجار البرية في هذا الموسم المبشر بالخصب تطرح أزهارها مبكرا ، تغتسل القرية بأمطار الضوء مطرزة بسجاجيد سماوات صافية ، عملت الجدة على جمع بيض الدجاج من القن يوميا ووضعه في النجفة المعلقة في سـقف البيت استعدادا ليوم الخميس ، اليوم الذي يصبغ فيه البيض كل سنة بألوان الزهور البرية المختلفة ، حيث تحرص الجدة على توزيع البيض الملون على الجميع ، خوفا من إصابتهم بمرض الجذام كما يعتقد أهل القرية إلا ولدها شكري الذي لم يعد من رحلته بعد .
ما زالت الجدة تشعر بالقلق ، قالت لنفسها الفقير ينتظر طفلا ، عسى أن يكون قدم السعد على هذا البيت سندا لأبيه ، كانت الجدة إلى وقت قريب تخشى أن تكون زوجة ابنها تخجل من لبس سروالها الداخلي أمام زوجها ، لأن التي تستحي من ابن عمها لا تنجب له أولادا كما تعتقد الجدة ، بدأت زوجة شكري تشعر بآلام المخاض ، أخذ المطر ينهمر بغزارة تذكرت الجدة ليلة زفافها على والد شكري لقد كانت الزوجة الثانية لأبيه حيث خضعت لعادة الخزين لمدة شهر ونصف ، لا تستطيع حتى قضاء حاجتها إلا ليلا في مكان لا ترى فيه .
اشتدت آلام المخاض على زوجة شكري ، همت الجدة لنداء الداية وإذا بطـرق شـديد على باب البيت كاد أن يخلعه فتحت الجدة الباب وإذا بالفرسان في مواجهتها .
محمود ابو اسعد
من مجموعتي القصصية / اضواء خافتة
http://www.ofouq.com/today/modules.p...=content&tid=5