الفيلم الوثائقي 'ثورتي المسروقة'، يسلط الضوء على حجم المأساة التي طالت المناضلين من الإصلاحيين الإيرانيين عقب وصول الإسلاميين إلى الحكم.
هذا عهد الإسلاميين من تنظيمات وجماعات الإسلام السياسي سواء كانوا سنة أو شيعة، لا يحفظون جميلا ولا يراعون المواقف الشجاعة والمضحية للمؤيدين والمدافعين والمتحالفين معهم وقت أزماتهم، أو وقت أن يحتاج الوطن وحدة الصف في مواجهة ديكتاتورية النظام.
حدث ذلك مرات عديدة... في مختلف البلاد العربية والإسلامية، فقد وقف اليساريون واللبراليون والشيوعيون وحتى الملحدون مثلا، دفاعا عن جماعة الإخوان المسلمين بمصر في أزماتهم مع النظام الملكي في مصر، ثم النظام الجمهوري وأخيرا في ثورة 25 يناير، وفي كل تلك المواقف سرعان ما يكشفون عن خستهم متخلين عن رفاقهم، وربما الحديث الأقرب هو ما جرى في ثورة 25 يناير المصرية، حيث سرعان ما ذهب الإخوان إلى أحضان نظام مبارك ليجلسوا ويتحالفوا معهم ضد الثورة، حتى إذا استولوا على الحكم بدؤوا في الانقضاض على الثوار سجنا وقتلا، وهو ما حدث مع إسلاميي إيران في ثورة 1979، فقد وقف المناضلون الإصلاحيون واليساريون واللبراليون والشيوعيون الذين كافحوا حكم الشاه لسنوات طويلة إلى جانب الإسلاميين من أنصار الملالي وآيات الله، حتى تمت الإطاحة بالشاه ونظامه، وما إن تمكنوا من الحكم حتى عملوا على قتل وسجن حلفاء الأمس.
نقض عهد
الفيلم الوثائقي "ثورتي المسروقة" للمخرجة الإيرانية ناهيد بيرسون سارفستاني الذي منحته لجنة مسابقة الأفلام الوثائقية بمهرجان أبوظبي السينمائي المنقضي تنويها خاصا، يكشف حجم المأساة التي طالت هؤلاء المناضلين من الإصلاحيين واليساريين واللبراليين عقب وصول الإسلاميين إلى الحكم، والذين رفضوا تحول إيران إلى جمهورية إسلامية يحكمها آيات الله والملالي.
لقد نقض آية الله الخميني وأنصاره ما عاهدوا عليه شركاءهم وحلفاءهم في النضال من اليساريين واللبراليين ضد حكم الشاه، ليبدأ تعزيز سلطته بقمع وتطهير زعماء أطياف المعارضة اليسارية الإيرانية للسلطة الدينية، فمن أوائل شهر مارس/ آذار 1979 استشعر هؤلاء بخيبات الأمل المنتظرة، عندما أعلن الخميني "لاتستخدموا هذا المصطلح الديمقراطية؛ إنها مفهوم غربي"، وفي منتصف أغسطس/ آب تمّ إغلاق عشرات الصحف والمجلات المعارضة لفكرة الحكومة الإسلامية الخمينية، استنكر الخميني غاضبا الاحتجاجات ضد إغلاق الصحافة، وقال: "كنا نظن أننا نتعامل مع بشر، من الواضح أن الأمر ليس كذلك".
بعد نصف سنة بدأ قمع المعارضة الخمينية المعتدلة المتمثلة في حزب الشعب الجمهوري، واضطهد العديد من كبارها، ورموزها منهم شريعتمداري الذي وضع تحت الإقامة الجبرية. وفي مارس/ آذار 1980 بدأت "الثورة الثقافية"، أغلقت الجامعات التي اعتبرت معاقل لليسار مدة سنتين لتنقيتها من معارضي النظام الديني، في يوليو/ تموز فصلت الدولة البيروقراطيه 20 ألفا من المعلمين و8 آلاف تقريبا من الضباط باعتبارهم "متغربين" أكثر مما يجب. واستخدم الخميني أحيانا أسلوب التكفير للتخلص من معارضيه، وعندما دعا قادة حزب الجبهة الوطنية إلى التظاهر في منتصف عام 1981 ضدّ القصاص، هددهم الخميني بالإعدام بتهمة الردّة "إذا لم يتوبوا".
سجينات رأي
يركز الفيلم على تلك الفترة 1979 ـ 1980 من خلال خمس ناشطات اعتقلهن نظام الخميني، ومكثن قيد الاعتقال ما بين 6 إلى 10 سنوات في السجن. وتعرضن للتعذيب الجسدي والمعنوي، وتعرضت واحدة منهن للاغتصاب. كانت جرائمهن سياسية بسيطة مثل توزيع النشرات المناهضة لأسلمة الدولة.
مخرجة الفيلم ناهد بيرسون وإحدى بطلاته اللاتي أصابتهن كارثة الحكم الإسلامي للخميني، كانت عضوا ناشطا في الحزب الشيوعي المناهض للشاه قبل الثورة الإسلامية عام 1979، وتحولت إلى مناهضة للحكم الإسلامي، فلم تكن قد بلغت العشرين عاما حين خرجت لمناهضة إسلامية الدولة، وطاردتها قوات الخميني، لكنها كانت قادرة على الهروب من الإجراءات الصارمة الواقعة على المعارضين، وقامت باللجوء إلى السويد، ولكن لم يحالف الحظ شقيقها في الهروب مثلها وألقي القبض عليه وأعدم في السجن.
منذ عام 2009 بدأت بيرسون البحث عن الناشطات اللاتي ألقي القبض عليهن في مظاهرات 1979 المناهضة لإقامة دولة إسلامية وتعرضن للاعتقال والتعذيب والاغتصاب في سجون الخميني، فكان أن وصلت بعد طول بحث ومعاناة إلى خمس منهن توزعن على النرويج والسويد وأميركا وألمانيا وبريطانيا، التقتهن فرادى ثم جمعتهن معا، لتروي كل واحدة ذلك التاريخ وسط دموعها التي تتساقط من آلام تلك الفترة العصيبة في المعتقلات، وكنّ يتقاسمن الذكريات المروعة للتعذيب الجسدي والنفسي.
وقد شكلت بعضهن تلك الذكريات فنيا عبر لوحات تشكيلية أو أعمال نحت "صلصال"، لنرى تلك المشاهد التي لم تصور داخل السجن، حيث تتكدس النساء في زنازين متجاورة أشبه بأقفاص حديدية في ممرات ضيقة، وقد حفظت إحداهن الحجاب والعصابة اللذين كانت النساء يجبرن على ارتدائهما في السجن. وأشارت هذه إلى كيف أجبرت على ارتداء العصابة باستمرار حتى أنها لم تكن لتُعرف عندما كانت على وشك أن تعرض للضرب، وأخرى استخدمت المواد التي كانت متاحة داخل السجن لرسم عمليات الضرب والتعذيب والانتهاك، وأخرى شكلت من الصلصال منحوتات مصغرة للسجن والسجناء.
خلال الفيلم وبين ثنايا الحكي تأتي الموسيقى ويأتي الغناء، ونلاحظ صورة لكارل ماركس تتدلى من مفاتيح إحداهن، الأمر الذي يؤشر أن ناهد ورفيقاتها كن شيوعيات. لكن ناهد تعترف بأن الشيوعية لم تكن بالنسبة للناشطات إلا البديل الوحيد لحكم الشاه ذي الميول الغربية، وأنها ورفيقاتها لم يكن شيوعيات، ولكن كن يؤمن بالديمقراطية.
على أية حال فنحن أمام فيلم يفضح ويعرّي الرداء الديني الذي يرتديه نظام آيات الله والملالي، ويدين ما يرتكبه ولا يزال يرتكبه من جرائم لاإنسانية بحق أبناء الشعب الإيراني، كما يؤكد أن لا عهد لهؤلاء، ونظرة لما يجري الآن على الساحة العربية تؤكد ذلك، فجماعات وتنظيمات الإسلام السياسي تقتل أبناء أوطانها وتسعى لتخريبها؛ وإلا ما الذي قدمته الجمهورية الإسلامية بعد ما يزيد عن ثلاثين عاما، إنها لم تقدّم إلا السجون والاغتصاب والقتل والانتهاك والجوع والفقر والجهل والذكريات المريرة.