مجلتاه (الصباح) و(دنيا) قدمتا أقلاماً كبيرة في سورية والوطن العربي
لم يبرع أحد من الأعلام والرواد في سورية في الجمع والتوفيق بين الصحافة والأدب، كما برع وأبدع شيخ الصحفيين الأديب الراحل عبد الغني العطري فهو من رواد النهضة الأدبية والصحفية العربية الحديثة.
اقترن اسم الأديب العطري بمجلتي (الدنيا) و(الصباح)، وكانتا محطة إعجاب وتقدير كل من عرفه وعاصره، ورغم توقفهما عن الصدور، إلا أنهما بقيتا حيتين في ذاكرته وقلبه، وظل هاجس معاودة إصدار مجلة (الدنيا) حلماً راوده حتى فارق الحياة عام 2003.
سيرة حياة برفقة القلم
ما بين عامي 1919 و2003 مسيرة حياة حافلة بالعطاء الصحفي والأدبي، زخرت بالتأليف والكتابة، فهو صديق للقلم والكتاب، وحول هذه العلاقة يقول في حوار أجري معه قبل رحيله، (لا أستطيع أن أعيش بعيداً عن القلم، اليوم الذي لا أكتب فيه ولا أقرأ لا أحسبه من عمري) كما تقول السيدة الراحلة أم كلثوم!
إذا مر بي يوم ولم أقرأ ولم أكتب فيه فلا أستطيع أن أعتبر هذا اليوم من عمري والإنسان الذي لا يقرأ يرجع بنفسه خطوات إلى الوراء وينقص بالتالي من علمه ومعرفته، وأنا أدعو كل إنسان أن يجعل الكتاب صديقه الأثير فهو الصديق الذي لا يمل حديثه والجليس الذي لا تمل جلسته.
البدايات وخطواته الأولى في مشوار الصحافة
أبصر الأديب العطري النور في دمشق عام 1919، ووالده من تجار دمشق المعروفين وأمه ابنة عالم من علماء الدين المعروفين بالصلاح والتقوى، درس في الكلية العلمية الوطنية مختلف ألوان الأدب العربي والفرنسي والآداب العالمية، عشق الأدب وتميز بالأدبين المذكورين آنفاً، وكان من أساتذته الذين يجلهم ويحبهم الشاعر خليل مردم بك، ودأب خلال فترة شبابه على الاطلاع والقراءة ونهل العلم والمعرفة من الكتب والدوريات القديمة بالمكتبة الظاهرية، وعندما بدأ بالكتابة نشر محاولاته الكتابية في بعض المجلات الأدبية ومنها: الرسالة، الأديب، وصحيفة المكشوف وغيرها.
(الصباح) و(الدنيا).. واستقطابهما للقراء
أصدر أديبنا الراحل مجلته (الصباح) الأسبوعية في السادس من تشرين الأول عام 1941 عقب إتمامه لدراسته الثانوية مباشرة وكتب في هذه المطبوعة كبار رجالات الفكر والأدب في سورية والبلاد العربية وكان من أبرز كتابها: خليل مردم بك، شفيق جبري، عبد السلام العجيلي، خليل هنداوي، نزار قباني، محمد البزم، محمود تيمور، ود. سهيل إدريس إضافة إلى عدد كبير من الأدباء السوريين الآخرين.
وفي لقاء جمعني به قبل رحيله حدثني عن تجربة مجلة الصباح بقوله: (كانت مجلة الصباح باسم شخص آخر، وكان عملي فيها بموجب عقد مدته سنتان ولما انتهت مدة السنتين آثر ألا يجدد العقد بعد أن وسوس له عملاء السوء..).
ثم أصدر مجلة الدنيا في 17 آذار عام 1945 ولقيت نجاحاً كبيراً، واستطاع أن يجعلها تدخل كل بيت يقرأ في سورية ولبنان تقريباً، لأنه أدخل عليها أبواباً جديدة، واستطاع أن يجعل من قراء المجلة محررين فيها بما ابتكره من أبواب منوعة كأبواب التعارف وعيادة القراء وغيرها من الأبواب.
استمرت مجلة (الدنيا) في الصدور ثمانية عشر عاماً، حيث توقفت في 8 آذار 1963.
عقب توقف مجلة (الدنيا) عن الصدور غادر العطري إلى المملكة العربية السعودية وعمل في وزارة الإعلام بالرياض وتولى رئاسة تحرير مجلة (الإذاعة)، وبعد عودته إلى وطنه عمل رئيساً لقسم الصحافة في السفارة السعودية بسورية مدة سبعة عشر عاماً، وبعد ذلك تفرغ للتأليف والقراءة والكتابة.
ومن المطبوعات التي تولى رئاسة تحريرها جريدة الأخبار لصاحبها بسيم مراد، هذه العلاقة الحميمة مع الصحافة دفعت الأديب عبد الغني العطري بعد صدور قانون المطبوعات والذي يسمح بصدور الصحف والمجلات الخاصة، إلى التقدم للحصول على ترخيص لمجلته، وبدأ خطواته الأولى لكن المنية وافته دون أن يحقق حلمه هذا.
مساحة الكتابة والتأليف في حياته
شغلت الكتابة الأدبية والتأليف مساحة هامة من اهتماماته، فقد عكف على الكتابة أناء الليل وأطراف النهار، كان كل من يعرفه من أصدقائه وتلامذته معجباً بنشاطه الدائم فهو ينكب على الكتابة خلف طاولته القديمة بمكتبه في السنجقدار منذ الثامنة صباحاً، ولا يبدو المشهد غريباً، وأكداس الصحف والمجلات وخصوصاً أعداد مجلتي (الدنيا) و(الصباح) تحوط به، ورفوف الكتب التي تحيط به من كل جانب، ستون عاماً وهو يؤلف ويكتب غير عابئ بشح البصر في عينيه الكليلتين اللتين أرهقتهما القراءة الدائمة.
شغفه بالشام وسلسلة عبقريات شامية
أحب الأديب الراحل عبد الغني العطري الشام، وأخلص لها وذلك بالكتابة عن أعلام سورية الراحلين منهم والأحياء ممن أبدعوا في مجالات الأدب والفكر والفن والعلم والصحافة والتاريخ، ولمعوا في ميادين السياسة والبطولة والدين، ووثق عنهم مقالات ونشر صوراً لهم بقصد إنصافهم وتكريمهم وتخليد ذكرى الراحلين منهم، وبلغ عدد الشخصيات التي كتب عنها أكثر من مئة وستين شخصية، وضمتها كتبه: عبقريات شامية، عبقريات وأعلام، عبقريات من بلادي، عبقريات، أعلام ومبدعون، حديث العبقريات.
ويتحدث في مقدمة كتابه عبقريات شامية عن الشام التي أنجبت هؤلاء العباقرة بقوله: (منذ قديم الزمن، والشام تنبت العباقرة والنابغين والنابهين في العلم والأدب والشعر والفن والسياسة والصحافة، وفي كل ميدان آخر، وكتب التراث العربي، تحفل بذكر هؤلاء النابغين، وفي العصر الحديث لم يتوقف عطاء أرض الشام، إنها مازالت مهد العباقرة والأذكياء، والمتفوقين في كل ميدان ويتساءل بعد ذلك: هل ترانا بحاجة لذكر الأسماء؟ ثم يبرر اهتمامه بالعباقرة بحبه للشام فيقول: (مع تغلغل حب الشام في الأعماق، وحنايا الضلوع طاب لي في فترات من الزمن، أن أتحدث عن بعض من أنجبت أرض الشام من عبقريات).
وقال الشاعر الراحل نزار قباني في تقريظ أحد أجزاء سلسلة العبقريات مخاطباً العطري: (خمسون عاماً مرت وأنت لا تزال تختزن في ذاكرتك نجوم الشام نجمة نجمة، وأقمارها قمراً قمراً وتحفظ أسماء أشجارها وأنهارها وعصافيرها وحمائمها وقططها وصبيانها ونباتها ومآذنها وأصوات مؤذنيها..).
ومن مؤلفاته أيضاً: (اعترافات شامي عتيق)، و(همسات قلب)، ومجموعة قصصية مؤلفة ومترجمة (قلب ونار)، وآخرها بخلاء معاصرون عام 2002.
خفة ظله وكتبه الفكاهية
عرف الأديب العطري بخفة دمه ولطافته ودماثته، فكان ضاحك القسمات مبتسماً على الدوام، ودوداً في معاملته للآخرين، وربما خفة ظله وحبه للدعابة والنكتة يفسران اهتمامه في المجال، حيث ألف كتابين يتمحوران حول الضحك وفوائده وأهميته تحت عنوان: (دفاع عن الضحك) و(أدبنا الضاحك)، وفي كتابه (دفاع عن الضحك) يتحدث عن واحدة من أقدم الروابط الأدبية في سورية وسبقت تأسيس رابطة الكتاب السوريين وعرفت باسم عصبة الساخرين وذلك عام 1948 وضمت إلى جانب الأديب الراحل عبد الغني العطري، الأديب الراحل سعيد الجزائري، وعباس الحامض، وسعيد القضماني، وحسيب كيالي، ورأس العصبة شيخ الأدباء الراحل في سورية عبد السلام العجيلي.
أحبه وأجله كل من عرفه من الأدباء والكتاب في سورية ولبنان والعراق والسعودية وحول الخدمات الجليلة التي قدمها للأدب واللغة يقول صديقه ورفيق دربه الأستاذ مدحت عكاش صاحب ورئيس تحرير مجلة الثقافة: (إذا كان تقدير الرجال يقاس بما يقدمونه لبلادهم من خدمات، وما ينجزونه من أعمال فإني لأشهد الله ثم التاريخ بأن أخي وصديقي الأستاذ عبد الغني العطري قد عمل في سبيل رفعة الأدب وخدمة اللغة في وطننا ما يجعله في مقدمة الأوائل من رواد الحركة الفكرية في هذا البلد).
مقالات و(أوراق صحفي قديم)
إن شيخ الصحفيين عبد الغني العطري ألف وكتب وحاضر وزود الصحف والمجلات السورية والعربية بمقالاته التي لم يجمع منها إلا القليل، وكان يكتب مقالين أسبوعياً لتشرين ويحرر صفحة في مجلة فنون تحت عنوان (أوراق صحفي قديم)، وكان يعتزم جمعها في كتاب قبل رحيله، كما كتب الأحاديث الأدبية لإذاعة لندن.
لا نستطيع في هذه العجالة أن نفي الأديب الراحل العطري حقه فهو مدرسة في الصحافة، وأستاذ لجيل كامل ممن تخرجوا من مجلتي (الصباح) و(دنيا) في سورية والوطن العربي، بمجلتاه شكلتا خلال الخمسينيات والستينيات مركز إشعاع أدبي وقبلة المجلات العربية.
أخيراً
في أحد أحاديثه واعترافاته لصديق حميم أخبره أنه لولا انشغاله بالصحافة والعمل الصحفي لأصدر ما يربو على الثلاثين كتاباً.
رحل أديبنا الكبير بعد أن أثرى مكتبتنا العربية بكتبه ومؤلفاته التي تراوحت بين الأبحاث والدراسات والقصص والسيرة الذاتية، ترك لنا مؤلفات متميزة لا غنى للباحثين بالاستعانة بها وخاصة سلسلة العبقريات، ذكر وحفظ ذكر العباقرة الراحلين بالكتابة عنهم.. وهو واحد من العباقرة والرواد الأوائل في الصحافة والأدب الذين ستبقى ذكراهم حية في قلوبنا.
نجلاء بكرو
المحادثة التوجيهيه : الوطن ترحب بأرائك وقصصك ومعلوماتك المتعلقة بهذه المادة. يرجى البقاء على الموضوع واحترام الآخرين. ابقى المحادثة مناسبة للقراء المهتمين .
هل ترغب في التعليق على الموضوع؟
الاسم:
عنوان التعليق:
نص التعليق:
ارسال
تطرق البابا بنديكتوس السادس عشر أمس إلى زيارته لتركيا التي وصفها بأنها تجربة
2008-01-22
• عبد الغني العطري.. ستون عاماً في درب الكلمة...مجلتاه (الصباح) و(دنيا) قدمتا أقلاماً كبيرة في سورية والوطن العربي
• ورزازات هوليوود إفريقيا... فلماذا لا تكون تدمر هوليوود آسيا
2008-01-21
• سرّ جمالية الخط العربي عند منير الشعراني...فن الخط العربي يدرس في أوروبا وليس لدينا اهتمام يذكر في بلادنا أو في الكليات الفنية
• إنغمار برغمان «1918-2007» أعظم أيقونات السينما الحديثة
• الهوية والإبداع في الموسيقا العربية المعاصرة
• بالحبر أم بالدم
• علم وتربية وسلوك
2008-01-20
• السينما السورية بين ارتجال المشروعات وبيروقراطية القطاع العام.. السيد الوزير والمدير العام للمؤسسة يرفضان نقد من لا يعرفون ببواطن الأمور!!
• دراما الشخصيات في مصر تنافس موضة دراما الموروث في سورية
• في حفل استعادي.. تحية للحضارة الأندلسية من عاصمة الأمويين...عابد عازرية.. حالات من الوجد والنشوة
• جايي أنا.. فيروز
• أنشطة ثقافية
2008-01-17
• يتحدث عن أحلامه المقتولة...فردوس الأتاسي لـ«الوطن»: هذه قصتي مع عابد فهد وهيثم حقي تصرف معي بشكل لا أخلاقي
• القهوة العربية.. كار الأجاويد!! قهـوة الضيـف والكيـف والسيـف
• عاصمة الثقافة أظهرت المستور من الإهمالات
• الغش..حتى في الجوائز!
2008-01-16
• موروثات المجتمع حاجز يصعب اختراقه في حياة المرأة ويعوق تقدمها
• قلق الامتحان.. هل سببه الأهل أم الخوف الزائد..؟
• الطـلاق العـاطفـي
ورزازات هوليوود إفريقيا... فلماذا لا تكون تدمر هوليوود آسيا
سرّ جمالية الخط العربي عند منير الشعراني...فن الخط العربي يدرس في أوروبا وليس لدينا اهتمام يذكر في بلادنا أو في الكليات الفنية
إنغمار برغمان «1918-2007» أعظم أيقونات السينما الحديثة
الهوية والإبداع في الموسيقا العربية المعاصرة
السينما السورية بين ارتجال المشروعات وبيروقراطية القطاع العام.. السيد الوزير والمدير العام للمؤسسة يرفضان نقد من لا يعرفون ببواطن الأمور!!
دراما الشخصيات في مصر تنافس موضة دراما الموروث في سورية
الوطن