إقــرأ الـعـدد الـجـديـد مـن مــجــلــة الــبــاحــثــون الــعــلــمــيــة
نظرة موجزة على آليات الدفاع النفسية - د. طه النعمة
في المراحل المبكرة من نمائنا النفسي تكون الأنا الطفلية أضعف من أن تؤلف وتنسق بين المطالب الدوافعية والانفعالية الجامحة من جهة والنواهي والمحددات الوالدية من الجهة الأخرى، لذا تلجأ إلى آليات الدفاع إجراءً وقائياً بعضه مؤقت وبعضه دائمي. فعندما تفشل الأنا في تخفيف التوتر بالوسائل الواقعية العملية تلوذ بإجراءات من قبيل إخفاء الخطر (كبت) وإبعاد الخطر (إسقاط) وتهوين وتجميل الخطر (تكوين رد الفعل) والتوقف تحسباً وتوجساً (تثبيت) والتقهقر أمام الخطر (نكوص). والكلمات الموضوعة بين قوسين والمذكورة آنفاً فضلاً عن أخرى غيرها يطلق عليها اصطلاحاً "آليات الدفاع النفسية".
آليات الدفاع مفهوم تحليل- نفسي (psychoanalytic) أصيل، ويؤلف مع الصراع داخل- نفسي والعمليات اللاشعورية المفاهيم التي بقيت تحتل موقع القلب في الفكر الدينامي- النفسي. ومنذ قيام فرويد بتعريف الإسقاط، تناوب المحللون على تشخيص ووصف أعداد من الآليات النفسية. وكانت أول إشارة لمقاومة الأنا ودفاعاته تلك التي أوردها فرويد في مؤلفه Neuro–psychoses of Defense (1894) ثم أعقب ذلك فترة ساد فيها استخدام مفهوم الكبت عوضاً عن مفهوم الدفاع. وتمت العودة إلى مفهوم الدفاع في العام 1926. وقد أخذت آليات الدفاع نصيبها من الدراسة والبحث والإغناء وترصن مفهومها منذ أواخر العشرينات، على وجه الخصوص، بواسطة جماعة علم نفس الأنا (ego-psychology) التي أسهمت أنّا فرويد في تأسيسها. لذا، على الرغم من أن موضوع الآليات النفسية قد تم تناوله من قبل الكثيرين من داخل وخارج التحليل النفسي، فإننا حفاظاً على أصالة المنطلقات التحليلية حول هذا الموضوع سنعرض لها من خلال منظور علم نفس الأنا لأنه أكثر من اهتم بها وكتب عنها.
يمكن تعريف آليات الدفاع على أنها طقوس وإجراءات نفسية لاشعورية تتوخى الالتفاف على الإشباع الآني والمباشر والصريح للدوافع الأولية1 والتمويه على الانفعالات الأساس، توظفها الأنا لحمايتها من عواقب الرغبات الممنوعة والمخزية والانفعالات المؤلمة والمكدرة، في محاولة منها (الأنا) للتوفيق بين رغبات القوى النفسية المتعارضة، وجعلها أكثر انسجاماً مع متطلبات وتحديدات العالم الخارجي، وهي تعمل، في أغلب الأحيان، كمجموعة.
في أدبيات التحليل النفسي وعلم النفس عموماً إشارة إلى أكثر من ثلاثين آلية نفسية، ولكن أنّا فرويد تحدد آليات الأنا الدفاعية بأربع عشرة آلية، وكما تشير إلى ذلك في مؤلفها الكلاسيكي "الأنا وآليات الدفاع"(The Ego and The Mechanisms of Defense)، وهي:
- قلب- إزاحة- استدماج- تماهي- عزل- إسقاط- تبرير أو عقلنة- تكوين رد الفعل- نكوص- كبت- تقييد الأنا- إعلاء أو تسامي- الارتداد على الذات- تعطيل أو إبطال.
الكبت، في سبيل المثال- وهو الآخر مفهوم أصيل من مفاهيم التحليل إذ بدونه لا يمكن، بحسب أطروحات التحليل النفسي، بناء نظرية نفسية للأعصبة- هو الآلية اللاشعورية التي يتم بواسطتها الحيلولة دون وصول الأفكار والانفعالات والذكريات والرغبات غير المقبولة إلى دائرة الشعور وإبقائها حبيسة اللاشعور إذ لا يمكن في الأحوال الاعتيادية استرجاعها أو إعادتها إلى دائرة الشعور. وأبسط تعبير عما يحدث في الكبت هو إننا ننسى، وننسى أننا نسينا!
- لنتصور، على أساس الاستعدادات الجِبلية والعادات النفسية المكتسبة خلال الطفولة، أن صراعاً نشب بين الرغبة في الاستجابة لرغبة مرتبطة بدافع أولي وبين أية منظومة من الروادع والقوى الأخلاقية المؤثرة والتي رسختها التنشئة والتجربة فينا، فإذا ما تغلبت الروادع الأخلاقية فإن ذلك إما أن يكون ناتجاً عن كف شعوري إرادي للرغبة، أو كبتاً لا شعورياً لا إرادياً لها. وفي العادة تكون النتيجة توازناً تتفاوت فيه درجة الاستقرار بحسب سياقات الحياة وظروفها.3
- لذا، لو استجدَّ أي عامل يزيد من شدة الرغبة أي المادة المكبوتة و/ أو يضعف القوة الكابتة أي الروادع عندئذ سنشهد اختلالاً في هذا التوازن ينشئ قلقاً من عودة المكبوت كما هو حال المياه التي يحجزها السد والتي تقلق زيادتها المطردة الساكنين أسفلة. ولكن السد النفسي، في أغلب الأحيان، لا ينهار تماماً، وإنما سيتم الوصول إلى حلول وسط توفيقية، تتخذ، غالباً، مظاهر غامضة وغير مفهومة، ذلك أن الرقابة تحول دون ظهور الميل المكبوت بصورة صريحة، فالرغبة غير المجازة لا يمكنها الظهور، خلال السد النفسي، إلا وهي متنكرة. وهذه هي الصفة الملازمة للأعراض الاضطرابية.
- والكبت من أكثر الآليات كفاءة فهي أقدر على التحكم والتفاعل مع الدوافع العنيفة والتي لا تقوى الآليات الأخرى على الصمود أمامها. تعمل لمرة واحدة، إلا أن إبقاء المادة مكبوتة بصورة دائمة يحتاج إلى صرفيات مستمرة للطاقة، إذ على الرغم من كونها عملية تلقائية، إلا أنها أيضاً عملية انتقائية نشطة ومتواصلة النشاط. لذا كلما اتسعت مساحة المادة التي يتناولها الكبت، تزايدت كمية الطاقة المصروفة. وبسبب محدودية كمية الطاقة المتاحة فإن هذه الصرفيات يتم اقتطاعها من حصة الفعاليات الضرورية الأخرى، لذا فإن الكبت الزائد يشكل عائقاً أمام الأنشطة الإنجازية والابتكار والإبداع. وهذا ما يدفع بالكثيرين ممن يريدون تحرير طاقاتهم المحتجزة إلى الخضوع للعلاج النفسي بالرغم من عدم معاناتهم من أية اضطرابات نفسية بالمعنى السريري.
- والكبت، كذلك، الأكثر خطورة، لأن اقتطاع أجزاء مهمة من الحياة الدوافعية والوجدانية والذهنية وإبعادها عن الوعي من شأنه أن يعطل تعطيلاً شاملاً وعميقاً ودائماً جانباً من الشخصية ويحول دون تكاملها. فإذا ازدادت جرعة الكبت عن الكمية المناسبة وإذا كان الكبت عاماً بسبب الضغوط الخارجية غير الموضوعية للتربية والتي تلحق التشويه بكل ما هو طبيعي ومجبول. فإن تأثير الكبت يمتد إلى مساحات ومواضيع ليس لها أن تكبت أصلاً، فلا هي مرفوضة ولا هي خطيرة ولا هي مستحيلة الاستيعاب، وذلك عن طريق تعميم الأثر إلى مناطق وخبرات مشابهة وإلى مناطق ممثلة: مثل إهمال وظيفة عضو جزءاً أو كلاً أو إلغاؤه من صورة الجسم أو دائرة الوعي، وذلك بواسطة تكوين الاقترانات الرمزية.
- ويؤدي الكبت، في بعض الحالات، إلى أن تصبح أجزاءً من النفس في غير متناول صاحبها، فتتضاءل فاعليته وتتناقص قدراته التكيفية وتتلاشى إمكانياته الإبداعية. ويتحول الكبت، في هذه الحالة، إلى أرضية للتسوية العصابية، وكذلك للاضطرابات النفسجسمانية، عندما يتدخل في العمل السوي لجزء من أجزاء البدن فيربكه أو يعطله. فالكابت قد يكون عاجزاً أو بارداً جنسياً لأنه يخشى الدافع الجنسي بأجمعه. وقد يعيش الشخص في رعب دائم من "افتضاح" أسراره، التي غالباً ما يتبين أنها لا تتضمن سوى ما هو اعتيادي ومألوف.
أما الإسقاط فهو آلية إلصاق ما في داخلنا من صفات أو رغبات أو دوافع بمواضيع أو أشخاص خارجيين. وهي، فضلاً عن التبرير، من أكثر آليات الدفاع استخداما في الحياة اليومية. فالمثيرات الآتية من الخارج بمقدور المرء تغيير أو اعتراض أو تفادي أو إهمال ما لا يروقه منها. أما المثيرات الداخلية من رغبات مخزية أو انفعالات مؤلمة فلا يستطيع المرء تغييرها أو إهمالها أو التهرب منها، فتلجأ أناه دون وعي منه إلى إسقاط تلك المثيرات إلى الخارج لكي يستطيع التعامل معها بصعوبة أقل.
- الطابع الجوهري للإسقاط هو أن الموضوع يتغير، إذ بالإمكان إحلال الفاعل محل المفعول به: فأنا أكرهك تنقلب إلى أنت تكرهني. أو تستبدل الصيغة مع بقاء الموضوع: " أنا أعاقب نفسي " تتبدل إلى " هو يعاقبني ". ما يحاول الأنا عمله هنا هو تحويل القلق العصابي، مجهول المصدر، إلى قلق موضوعاتي، أي خوف من مصدر مشخص للتهديد.
- ويؤدي الإسقاط دوراً هاماً في حالات الرهاب وفي أغلب هذاءات وهلاوس ذهانات الارتياب. كما أن الكثير من اختبارات الشخصية تستند إلى آلية الإسقاط. ويستخدم الناس الإسقاط في حياتهم اليومية من خلال السلوك والحديث والدعابة، إذ يسقطون الكثير من رغباتهم ومخاوفهم نحو الخارج. لذا فإن الإسقاط إذا ما استخدم أكثر من القدر المناسب وفي الوقت غير المناسب يشوش على علاقاتنا الإنسانية ويشوهها.
- إلا أن آلية الإسقاط يمكن أن تعمل بالاتجاه الآخر أيضاً، إذ بمقدورنا، من خلالها وبالتآزر مع آلية التماهي، تحقيق اتجاهات إيجابية مفيدة نعزز بواسطتها علاقاتنا بالآخرين. وذلك عندما نسقط رغباتنا، التي لا نجرؤ على المطالبة بها أو لا نقدر على تحقيقها أو لا يُسمح لنا بالمجاهرة بها، على شخص آخر ومن ثم نتماهى مع ذلك الشخص لكي نشاركه تحقيق تلك الرغبات التي نعجز عن تحقيقها بأنفسنا. هذا الشكل السوي وغير الملاحظ، كما تقول أنّا فرويد، لآلية الإسقاط يشكل قاعدة لما يمكن تسميته " التخلي إيثاراً "، وهو الذي يدفعنا، في العادة، إلى التخلي عن رغباتنا الخاصة لصالح الآخرين.
وتؤدي الإزاحة إلى انفصال الشحنات الوجدانية عن المواضيع التي أثارتها والتصاقها بمواضيع أخرى. ويفترض المحللون أن للطاقة الانفعالية كياناً مستقلاً بحيث يمكن أن تترك موضوعها وتلتصق بموضوع آخر. إذ عندما لا يسمح لبعض الرغبات بالانتقال من اللاشعور إلى حيز الشعور، فإن الطاقة الانفعالية أو الشحنة الوجدانية المصاحبة لتلك الرغبة المحتجزة تستطيع الخروج إلى حيز الشعور إذا ما تركت موضوعها الحقيقي والتصقت برغبة أو بفكرة أخرى (أي بموضوع آخر)، وقد لا تربطها بالفكرة الأصلية صلة واضحة (وإن ربطت بينهما صلة لاشعورية). فالدوافع والانفعالات العدوانية ضد الأب مثلاً، وهو رمز السلطة الأول في حياتنا، قد تخرج إلى الشعور في صورة ثورة ضد موضوع أو شخص آخر من رموز السلطة مثل المدرس أو مدير العمل. وقد لوحظت الإزاحة من قبل الإيثولوجيين في سلوك العديد من الكائنات من غير الإنسان مما أدى إلى الظن بأن بعض آليات الدفاع هي تركيبات بنيوية نشوئية جاهزة، وإن اختلافها من نوع إلى آخر ينصب على المضمون.
وتعبر آلية الاستدماج عن امتصاص الأشخاص أو الأشياء أو الصفات وإدماجها في بنية الذات فيصبح الفرد يتصرف كما لو كانت الأشياء الخارجية تلك موجودة في الذات وصادرة عن النفس. والمعنى هنا يبدو قريباً من التماهي أو التقمص، ولكن الاستدماج أعم لأن التقمص أو التماهي يغلب أن يكون للأشخاص أما الاستدماج فهو يشمل الأشخاص والصفات. فاستدماج الطفل سلطة الوالدين الناهية وجعلها جزءاً من منظومته النفسية يؤدي إلى تكوين الأنا العليا أو الضمير.
في جانب أساسي يمكن القول إن التماهي هو اتخاذ كيفيات موضوع خارجي من قبل شخص ما. وهذه الكيفيات في العادة هي كيفيات شخص آخر. والشخص الذي يتماهى مع كيفيات شخص آخر يصبح شبيهاً به في وجه أو أكثر من الوجوه. هناك أربع ملابسات أو حالات يتحقق من خلالها التماهي:
1. التماهي النرجسي: الذي يعتمد على انتشار الشحنة النرجسية وامتدادها نحو قسمات أو صفات شخص آخر. فالصبي الذي يزهو بقسمات الذكورة عنده، أقرب إلى تقدير هذه القسمات عند غيره من الذكور، لأنها شبيهة بما عنده، أو بما يحبه في نفسه. ذلك ما يجعلنا، فيما بعد، نميل إلى التماهي مع أولئك الذين لديهم خصائص تماثل خصائصنا. نوع المهنة أو التخصص العلمي أو ما شابه ذلك. عندما تكون الشحنة النرجسية عنيفة، يمكن للشخص أن يستمد الإشباع من اختياره موضوعاً لحبه يشبهه هو ويمكن أن يشكل ذلك أحد مصادر الجنسية المثلية. أو تجعل الرجل يقترن بامرأة مسترجلة، أو تتزوج المرأة رجلاً ذا سمات أنثوية.
2. التماهي الموجه نحو هدف: عندما يتماهى المرء مع شخص ناجح كي يغدو هو نفسه ناجحاً كما هو الحال عندما نسقط رغباتنا غير القابلة للتحقق على أشخاص آخرين ثم نتماهى معهم، فيتم إشباع تلك الرغبات من خلالهم.
3. التماهي مع الموضوع المفقود: عندما يفقد الشخص موضوعاً مرغوباً فيه، أو يرغب بموضوع لا يستطيع امتلاكه، فإنه يحاول أن يستبقيه أو يستعيده أو يحتويه بأن يجعل في نفسه ما يشبهه أو يذكر به. مثال الابن الذي يأخذ بالشكوى من ألم في الصدر بعد وفاة والده بسبب مرض في القلب.
4. التماهي مع المعتدي: تعد هذه الآلية من أمضى دفاعات الأنا الطفلية في تعاملها مع المواضيع الخارجية المثيرة للقلق. فبواسطة التماهي مع المعتدي وتقمص صفاته وتقليد سلوكه العدواني المهدد يتحول الشخص من هدف للتهديد إلى شخص قادر هو نفسه على التهديد بنفس أساليب المهدد. وبذلك يتخلص من القلق ليس فقط من مصدر التهديد ولكن أيضاً مما يمثله المصدر أو ما يرمز له أو ما ينسب إليه من قدره. وقد تنشط هذه الآلية في الحياة الراشدة تحت الشعور بالتهديد الشديد، كما يحدث، مثلاً، عندما يتوحد الأتباع مع متبوع شديد البأس ذي سطوة مخيفة في ملبسه وطريقة كلامه وتصرفاته. وإذ يتقمص الشخص الموانع التي تفرضها سلطة ما، فإنه بذلك يتجنب العقوبة، والتماهي هنا بدافع الخوف وتجنب الأذى وليس بدافع الحب.
والتماهي مع المعتدي هو الأساس الذي ينهض عليه الضمير، الذي يمكن الشخص من أن يصبح خاضعاً لقواعد ونظم المجتمع، أي يغدو كائناً اجتماعياً. لذا فإن هذه الآلية من أكثر الوسائل انتشاراً وتلقائية والتي تلجأ لها الأنا البدائية (والطفلية معاً). إذ نراها مجسدة في العادات والأساليب والشعائر البدائية لمواجهة قوى الطبيعة التي لا يمكن ردها والأرواح الشريرة وربما أيضاً الأخطار العيانية. والتماهي مع المعتدي، أخيراً، طور مهم في عملية النمو الطبيعية للأنا العليا.
- الآن، إن استطاعت الأنا، أو ‘المدير التنفيذي’ للشخصية كما تسمى أحياناً، استخدام آليات الدفاع ببراعة فإن ذلك يساهم في نشوء وترسيخ أدوار قوى الشخصية المختلفة وتحديد مجالات ومساحات نشاطها. وهي تخدم النمو والترقي السوي للأنا ومن ثم الشخصية عموماً من خلال:
1. التدعيم: المساعدة في تنمية ثقة الأنا بنفسها وقدراتها على مواجهة المصاعب وتجاوز المعاناة.
2. التأجيل: تعطي الأنا فرصة تأجيل مواجهة الخبرات والدوافع والرغبات التي لا تقدر على مواجهتها في لحظة حدوثها. أو تأجيل إشباع الدوافع الأولية حتى يحين الوقت الملائم، مما يوفر الفرصة لاختبارها وهضمها ومن ثم تمثيلها في النسق النفسي العام. وكأنها تجعل من الإنسان كائناً مجتراً نفسياً: فهو يلتهم الخبرة أو يلبس الموضوع أو يصرّف الدافع على عجل ثم يسترجعه في مرحلة لاحقة على مهل لإعادة تناوله وتفكيكه تمهيداً لهضمه وتمثيله.
3. الإثراء: اكتساب الفرد من خلال هذه الآليات الجاهزة تكوينياً أنماطاً سلوكية ومهارات بمقدوره استخدامها تلقائياً، لحين ظهور نتائج التدريب والخبرة والقدرة الذاتية للالتحام بخبرات الحياة المعقدة والتكيف لها.
- لقد نال مفهوم آليات الدفاع اهتماماً واسعاً من الباحثين والكتاب على امتداد طيف المدارس النفسية. بعضهم اتجه نحو تقسيم آليات الدفاع، ومن هؤلاء اوتو فنخل الذي قسمها إلى طائفتين: دفاعات كفؤة تنجح في تصفية آثار التحفزات غير المرغوب بها، وتأتي آلية التسامي في مقدمتها. ودفاعات غير كفؤة تفشل في تحقيق تلك المهمة، لذا يتوجب تكرارها على نحو قهري، والتكرار القهري هو الصفة الملازمة لكافة الأعراض العصابية.
البعض الآخر اتجه نحو توسيع مفهوم آليات الدفاع كما فعل – هان- عندما أدخل عليها عمليات مثل القمع والإبدال والتعاطف، تحت تسمية سياقات التعاطي والتعامل، عاداً إياها نظائر لآليات الدفاع. اتجاه ثالث تبنّى موقفاً مزدوجاً كما فعل – فاليانت- عندما أقدم على توسيع وتقسيم آليات الدفاع، فقام بإضافة " آليات " أخرى من قبيل التوقع وتوهم المرض والعدوانية السلبية وغيرها من جهة، وتقسيم آليات الدفاع إلى آليات ناضجة وعصابية وغير ناضجة من الجهة الأخرى. في المقابل فإن المنتمين إلى الاتجاهات المعرفية والسلوكية والتجريبية حاولوا كما فعل – هيوستن- تجريد آليات الدفاع من صفتها اللاشعورية. مؤكدين على كونها قصدية وشعورية. وقد بقي هذا الالتباس سائداً حتى بعد قيام –لازاروس- في تحديد مفهوم سياقات التعاطي مع الكرب (س ت ك) (stress coping strategies) معرفاً إياها- السياقات- على أنها رد فعل نشط، تجاه المواقف الكربية، قابل للتعديل والتشذيب والشحذ والتحسين بالتدريب والخبرة والتطعيم. على العموم يصعب القول إن التصنيفات المذكورة آنفاً خاطئة ولكنها، كما نظن، غير دقيقة فقط لأنها لا تأخذ سياقات وظروف حدوثها بعين الاعتبار.
نحن نميل إلى التفريق بين آليات الدفاع و(س ت ك). إذ إن آليات الدفاع يتعين أن ينظر إليها وفق مفهومها التحليلي الأصيل، خصوصاً كونها لاشعورية، مع الأخذ بوجهة نظر شيفر القائلة بأن الدفاعات ليست أفعالاً آلية، بل هي أفعال دينامية. وهذا يعني، حسب قناعاتنا، أن الآليات الدفاعية محدودة العدد بمقدورها إنتاج أشكال غير محدودة من وسائل الدفاع وأنماطه عندما تعمل كمجموعةً متآزرةً، أكان ذلك التآزر على التوالي أم على التوازي. كما أن مفهوم آليات الدفاع لا يمكن عزله عن تكوّن وتكامل البنى النفسية ولا عن الآثار النمطية لمراحل النماء الدوافعي- الانفعالي (أو مراحل النماء النفس- جنسي كما جرت العادة على تسميتها)، فأنماط الشخصية- فموية، شرجية …الخ- وما تنتجه من سمات تؤدي دوراً هاماً في لجوء الأنا إلى هذه الآلية أو تلك.
ختاماً
هناك، حسب اعتقادنا، طيف أو متصل يمتد من اللاشعور إلى الشعور، مروراً بما قبل الشعور، تتموضع عليه آليات الدفاع و( س ت ك): فغالبية آليات الدفاع، مثل الكبت، تقع عميقاً في اللاشعور، بينما تقع بعض آليات الدفاع، مثل الإنكار والتبرير، قرب قبل الشعور أو فيه. أما (س ت ك)، مثل السعي للحصول على المعلومات وتمحيصها، فتقع غالبيتها في الشعور. وإذا ما تأملنا الموضوع وفق هذا الأنموذج يصبح من غير الممكن تجاهل إمكانية تفاعل العناصر المتواجدة على امتداد المتصل وتبادل التأثر والتأثير فيما بينها، بحيث تؤثر الآليات اللاشعورية على (س ت ك) الشعورية والعكس صحيح أيضاً. مما يجعل من كافة عمليات المتصل التي تسعى نحو أهداف تكيفية في حالة من التعاون والتضاد والاندماج والتمايز بكل ما تحمله صفة الدينامية الجدلية من معنى.
هوامش
1- لعله من المفيد الإشارة هنا إلى أن فرويد استخدم الكلمة الألمانية Trieb لتسمية القوة المحركة للسلوك عند الإنسان ومعناها الحرفي، في واقع الحال، القوة المحركة. وقد قام مترجمو أعمال فرويد الأوائل إلى الإنكليزية- ولم تكن غالبيتهم متمكنة من الألمانية- بترجمتها إلىinstinct أي غريزة بينما كانت كلمة دافع هي الأقرب إلى المفهوم الفرويدي في هذا السياق (وهو نفس المفهوم المستخدم في هذه المقالة). وعلى الرغم من أن فرويد استخدم كلمة Instinkt الألمانية فقط عند وصف سلوك الحيوان فإن الترجمة الخاطئة هي التي ترسخ استخدامها.
2 على الرغم من أن الإنكار غالباً ما يتردد في قوائم الآليات الدفاعية لدى عديد من تناولوا هذا الموضوع، إلا أن أنّا فرويد تقول أن هذه الآلية تعود إلى مرحلة من مراحل النماء الاعتيادي للأنا الطفلية، ولكن إذا ما عادت في مرحلة لاحقة فهي على الأرجح تشكل مظهراً اضطرابياً، إذ لا يمكن الجمع بين تمييز واختبار الواقع (الوظيفة الأولى والأساسية للأنا) وإنكاره في كيان واحد، وإن حدث فإن ذلك الكيان ما عاد سوياً.
3 لقد بينت البحوث الحديثة أن الفص أمام- جبهي من الدماغ والواقع فوق محجر العينين يؤدي دور "الرقيب" على الدوافع والرغبات والانفعالات أو الكابح لها، بعد تقويم وتثمين هذه الانفعالات وإعطائها مغزاها المعرفي، من خلال تواصله مع أجزاء الدماغ التي تولدها مثل اللوزة، وذلك بتعطيل الاستجابة الحركية للبعض منها ومنع بعضها الآخر من بلوغ الوعي أو الشعور (كبت).
المصدر : الباحثون العدد 36 - حزيران 2010
http://www.albahethon.com/?page=show_det&id=924