منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1

    اصول الفكر السياسي في القرآن المكي

    اصول الفكر السياسي في القرآن المكي


    --------------------------------------------------------------------------------






    جهد الدكتور التيجاني عبد القادر خطوة جادة وهادئة وعميقة ومستنيرة عبر رحلة في الفكر السياسي الذي يحتاج إلى جهود حرة أخرى لتصحيح صورة الإسلام التي شوهتها الأقلام القاصرة والنظرات المحدودة، إنه شمعة تضيء ظلمات تراكمت على العقل المسلم، كيف لا وقد اعتمد المؤلف على منهج خاص به، لم يقلد أحداً قبله، فجاء شاملاً في استنتاجاته متداخلاً في رؤاه.
    قسّم المؤلف كتابه على أربعة أبواب: الأول، وتطرق فيه لبعض المقدمات التعريفية الخاصة بالفكر السياسي وأصوله وعن القرآن مفنداً آراء غلاة المستشرقين الذين رأوا في القرآن المكي (رؤية تطورية) مما جاء ضمن ثلاثة محاور: الفكر السياسي، أصول الفكر السياسي، القرآن المكي.
    في تعريفه للفكر السياسي، يتوقف المؤلف مع مجموعة تعريفات يخلص منها برأي خاص به فيقول: «إن الفكر السياسي يختص بالبحث في مجال السلطة، كيف يتم التوصل إليها، والتصرف فيها، وعلاقة الفرد ومجاله الدستوري (ص 17)، ويحصر أصول الفكر السياسي بمبدأ السلطة السياسية، ولمن يجب أن تكون، ودليل وجوبها، ومبدأ الطاعة الواجبة على الفرد وأصولها، والحدود بين حق الفرد وحق الجماعة وما بينهما من تعارض، وكيفية إزالته، والغايات الاجتماعية الكبرى التي تقوم عليها . " المؤسسات السياسية في تبرير وجودها وتمرير سلطاتها" (ص 19).
    بعد أن بيّن المقصود بالفكر السياسي وأصوله عرّج المؤلف على آيات القرآن المكي بعيداً عن الخوض في ماهية المكي والمدني، مكتفياً بالمشهور من العلماء، مشيراً الى تداخل القرآن المكي والمدني وتكاملهما في عرض المعاني والاحتجاج لها، وأن شقّي القرآن يشكل نسيجاً واحداً يشار له كعامل بارز من عوامل الإعجاز القرآني، أمّا لماذا اختار المؤلف القرآن المكي موضوعاً لبحثه عن أصول الفكر السياسي فنجمله في الأسباب التالية:
    أ ـ إن السور المكية يغلب عليها طابع التعرّض للأصول والأسس والقواعد الجوهرية دون أن تكون السور المكية مجرّد فذلكات نظرية مجردة كتهيئة للسور المدنية.
    ب ـ اكتفى المؤلف بالسور المكية; لأن بحثه مرتبط بالأصول والقواعد والمقدمات التي
    تساعد فقط في تحديد الاتجاه ورسم الغاية التي يهتدي بها السياسيون قبل إقامة المؤسسات وضبط العلاقات، وهذه تجتمع في القرآن المكي بحكم التقادم التاريخي والترتيب المنطقي والاقتضاء الظرفي.
    ج ـ في اختيار المؤلف لآيات القرآن المكي ردّ على مزاعم المستشرقين الذين ادّعوا أن القرآن المكي يحتوي على تفصيل لليوم الآخر، وأسس الفكر السياسي، وذهبوا يبحثون فيه أيضاً عن فكر سياسي دنيوي حسب (جولد تسيهر) و (فرانش بهل) و (مونتجمري وات) وأمثالهم، معتبرين أن الظاهرة الدينية ظاهرة نفسية منعكسة على الواقع الاجتماعي، وأن الواقع الاجتماعي التاريخي لقريش هو الذي أفرز الفكر السياسي الإسلامي، وأن إنذار القرآن المكي بيوم الحساب نظرة تشاؤمية.
    والمؤلف في تصديه للمستشرقين يطلق من مجموعة رؤى: أولها ما جاء تحت عنوان «المفهوم الكلي للوجود» مبيناً أن الظاهرة الاجتماعية جزء متصل بواقع الحياة، ولهذا فلابد لتفسيرها من الرجوع الى قاعدة أصولية كبرى تشرح الحياة، لنكوّن على أساسها مفهوم كلي للعالم والحياة والكيفية التي ستكون عليها العلاقات بين الناس، منوّهاً لأكبر مدرستين تقدمان حلولاً لهذه الإشكالية: الأفلاطونية المثالية والإسلامية التوحيدية، الأولى: ممثلة بالمدرسة الوصفية والتاريخية بقيادة (ديفيد هيوم وماركس) اللذين تبادلا الهجوم على القانون الطبيعي حتى صبغا المناخ الثقافي الأوروبي في القرن التاسع عشر بالصبغة الموضوعية التاريخية الحيادية، بعد أن حاولت المدرسة الأفلاطونية المثالية أن تعطي مفهوماً كلياً للحياة وللعالم وللغايات الإنسانية الاجتماعية، وقد تتبع المؤلف خطوات هذه المدرسة التي انقلبت من مثالية إلى مادية واقعية، انتهت بمعاداة القانون الطبيعي باعتباره آخر أثر من آثار المثالية المتلبسة بالأخلاق والدين، هذا في حين أن المدرسة التوحيدية الإسلامية ـ وعلى عكس المثالية الأفلاطونية ـ تذهب إلى القول بأن المادة التي يتشكل منها العالم هي حقيقة موجودة بصورة مستقلّة عن الفكر، دون التسليم بأن هذه المادة هي سبب عام لجميع ظواهر الوجود، بل تتخطى المادة والفكر معاً للوصول إلى سبب أبدي آخر لا نهائي، وتجعله مبدءاً أساسياً أزلياً ضرورياً للوجود، هو الله، ومعرفته باسمه وصفاته وأفعاله لا يتأتى إلاّ بوساطة نبي مرسل وكتاب منزّل.
    هذا الاعتقاد يكون المصدر الذي يمد معتنقيه بمفهوم كلّي للعالم والحياة وتنظيم لعلاقات الإنسان مع غيره (ص 34)، مع التأكيد على أن مهمة السيادة والحكم العليا هي لله وحده، وأن تشريع القوانين ليس فناً يختص به فرد أو فئة دون غيرها، فلا يوجد إنسان فيلسوف كامل العقل مختص في غايات الاجتماع الإنساني، بل إنسان رسول يتوسط بين الحق والخلق في تبيان الرسالة وإيصال الشريعة التي لن تكون قانوناً طبيعياً يُلتمس بالحدس والتجريب، بل أمر مباشر يُلقى على العقل والإرادة الإنسانية إلقاءً، فيذعنا له أو يتمردا عليه.
    إن دين التوحيد هو دين العقل دون أن يعطي العقل البشري صلاحيات الإله، من هنا ـ وحتى يتم التمكن الحضاري بأكمل صورة ـ لا ينظر للجاهلية كشرّ، لأن فيها بعض الخير مما يمكننا التأسيس عليه، كذلك لا يمكننا إلغاء التاريخ البشري والابتداء من الصفر، ، ولهذا أخطأ «سيد قطب» عندما نظر الى الصحابة كجيل قرآني فريد لم يتكرر في التاريخ، ومبالغته رحمه الله في ذلك حيث اعتبر أن تاريخ ما قبل الصحابة مجرّد عمق جاهلي وشرّ يجب طمره، والأمر الذي أوصل سيداً الى منهجية اجتماعية وفلسفة سياسية في التغيير يشابه مناهج الاستئصال الراديكالي والثورات الانقلابية حسب ما يظهر بجلاء في (معالم في الطريق).
    ولما كان القرآن لا يعرض الأفكار والمبادئ كأنساق شكلية مجردة، لجأ المؤلف في باب كتابه الثاني لاختيار سورة من أطول السور التي نزلت بمكة، وفيها معظم الأصول السياسية، وهي ما اعتمده كإطار مرجعي.
    خلال استعراضه للسورة تحوّل في القرآن المكي ملتقطاً الأصول الموزعة في السور المختلفة، ليضمها إلى ما هو موجود في السور المرجعية من أجل تكامل الفكرة، بعد ذلك يختار المؤلف جملة من السور المكية مما نزل متتالياً بمكة، ويتعرّض لموضوع الأصول السياسية للدولة الإسلامية، ويكمل بها ما يحتاج إلى إكمال، فاختار سورة الأعراف كقسم أول جعله إطاراً تصورياً يمثل حقيقة الوضع الإنساني، وما يجب أن يكون عليه من علاقات بالله والإنسان والكون ضمن زاويتين: أن الناس مخلوقون من نفس واحدة على فطرة سليمة، وأن الله قد مكّن لهم في الأرض وجعلها مصدراً لمعاشهم، وأن الناس مأمورون; ولهذا سيبعث من بينهم رسلاً يقصّون عليهم أمره، وهذا يقتضي منهم (الناس) الخروج على كل ولاء واتّباع الرسل، ليتم توحيد الولاء لمن له الأمر والخلق.
    القسم الثاني من سورة الأعراف يعرض المؤلف فيه لنماذج من تجارب الرسل عبر التاريخ، كتطبيق عملي للقسم الأول، حيث عرضت هذه السورة من بعد تجربة آدم تجربة (نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى) بينما القسم الثالث من السورة عاد فيه المؤلف لأهل مكة، ليقدم لهم المعاني التي ذكرها القسم الأول، ومن خلال تجارب الرسل الذين ذكروا في القسم الثاني حتى تختتم السورة بخطاب لرسول الله (ص) في خاصة نفسه مما يفرد المؤلف له موضعاً من خلال علاقته (ع) مع قريش في سور مكية أخرى.
    في معاني القسم الأول يورد المؤلف ما ذهب إليه مؤيداً ذلك بنصوص من القرآن الآيات 189 ـ 190 ـ 11 ـ 172 ـ 25، ومستفيداً من المصادر اللغوية كلسان العرب، في حين يثبت معاني القسم الثاني والنصوص الدالة عليها مع ذكر ملاحظات خاصة بالآيات 2 ـ 35 ـ 54 من الأعراف.
    أولها: أن الآيات تشير إلى أن الرسل (منكم).
    ثانيها: أن الآيات تشير إلى أنواع من التطبيق الإنساني لآيات الله.
    ثالثها: أن مهمة الرسل موقوتة بزمان، ولابد أنهم ميتون حسب طبيعتهم البشرية، وتظل رسالاتهم باقية. أما كيف تصبح تلك المعاني أصولاً للفكر الإسلامي، فالآيات تقرر كإطار تصوري عام أن:
    1 ـ الناس مخلوقون، وذلك يحتاج إلى الاعتراف بسلطان أعلى قادر وحده على الخلق; لأن من قدر على الخلق قدر على الأمر.
    2 ـ أن الناس مخلوقون من نفس واحدة، هي نفس آدم الترابي، ومن هنا لا يستطيع أحد من أبناء آدم الإدّعاء بالامتياز على أحد من حيث الأصل التكويني، أو الانتساب للقدرة الخالقة; لأن وحدة الأصل يشترك فيها مع الناس، الرسل والأنبياء، وهذا يعني عدم إخراج الرسول عن إطار البشرية حتى مع إتيانه سلطان النبوة، وانما يعني أنه اصبح بشراً رسولاً إلى بشر، فإذا ما اعتقد الناس بما سلف، فذلك أصل التوحيد وعقيدة الإسلام ـ أساس البناء الاجتماعي كلّه.
    3 ـ إن الناس خلقوا على الفطرة السليمة، وهذا يعني أن النفس الإنسانية من حيث الخلق ملائمة لطبيعة الأمر الإلهي.
    4 ـ إن الله قد مكّن للناس في الأرض، وجعل معاشهم فيها، ومن استحوذ عليها واحتكرها صارت له السيادة على الآخرين والاستكبار على الله والإفساد في المجتمع الإنساني، ذلك لأن الأرض ليس للمؤمنين وحدهم وليست للكافرين وحدهم، وإنما لله جعلها موضع اشتراك بين عباده ليبلوهم، وأن حق الأرض والانتفاع بها مكفول للناس على اختلاف عقائدهم.
    5 ـ أن الناس واقعون تحت دائرة التكليف الإلهي. إذ رغم أن الناس مفطورون على الإسلام، إلاّ أن الله لم يدعهم للفطرة وحدها، فقد تفسد الفطرة أو تتبدل.
    6 ـ تقرر الآيات أن الناس هم خلفاء الرسل في إقامة التوحيد السياسي، ومن هنا قد يندثر الحقّ المنزل للناس مالم يؤخذ بواحدة من هذه الحالات: (أن يأتي رسول يجدد ما اندثر من الدين) (أن يتكفّل الله بحفظ واحد من كتبه) (ان يعصم الله أمة من الأمم من الضلال الجمعي)، وبديهي أن الرسول خاتم الأنبياء، فلم يبق إلاّ حفظ الكتاب وعصمة الأمة.
    القسم الثاني من سورة الأعراف، وفيه ذكر المؤلف تجارب الرسل السابقين مما استغرق وضع الإطار التصوري ليعرض بعده بتفصيل للتطبيق التاريخي ممثلاً بنماذج من الأمم، وقد رتّب الآيات التي عرضت تجربة الرسل في قائمة، ونظر في التطورات التاريخية التي مرّت بها الدولة، مثبتا الآيات التي تحكي تجربة (نوح، وعاد، ولوط، وشعيب) دون أن يذكر أرقام الآيات ثم أثبت الآيات، في القائمة التالية، وفيها جمع أقوال الأمم الأخرى، لتوضيح كيف تم التفاعل مع مبادئ الدين والاستجابة له، فذكر نصوص الآيات التي رد بها أقوام (نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب)ليخرج بملاحظات:
    1 ـ أن أول الرسل نوح لم يبدأ دعوته لقومه بتعريف الدين والعبادة والإله، بل دعاهم أولاً إلى توحيد الله.
    2 ـ أن كل رسول أتى من بعد نوح كرر دعوة التوحيد.
    3 ـ أن صور الفساد في الأرض تتعدد من قوم إلى قوم، ومن مكان إلى مكان.
    4 ـ أن نوحاً وهوداً وصالحاً هم الرسل الثلاثة الوحيدون الذين لم يذكر أن قومهم أزمعوا إخراجهم من الأرض ونفيهم، على عكس الحال مع شعيب ولوط وموسى; لانهم لم يبلغوا أن يكونوا أمة.
    5 ـ إن لفظ (القرية) قد دخل في فترة متأخرة، إذ لم يكن في حوار الرسل مع أقوامهم ذكر للقرية، مما يعني وجود تطور قد طرأ على حياة الناس اجتماعياً.
    6 ـ أن من آمن مع نوح لم يكن طرفاً أساسياً في المعركة، أمّا بعد نوح فإن (الذين آمنوا) صارت تطلق عليهم عبارة (الذين استضعفوا في الأرض) وهذا مؤشر على تطور حركة الدين، وأن المؤمنين صار لهم وجود.
    7 ـ أن القرآن الكريم ميّز جماعة من الرسل سمّاهم أولي العزم، وهذا راجع لمجموع التحوّلات التي حدثت.
    8 ـ تعرض الصورة لتجربة موسى منفصلة ومنفردة كنموذج مكبّر لصراع السيادة بين الرسول وملأه، لنرى أن المسلمين بعد موسى انقسموا الى فئات حسب بذلها وقدرتها لإقامة الدين:
    الأولى: القاصرون ممن لم يبلغوا مرحلة التمكين، وهي الفئة المستضعفة.
    الثانية: القاعدون الذين انخذلوا عن إقامة الدين.
    الثالثة: المجاهدون الذين سعوا وتمكنوا من إقامة الدين في الأرض، وهم أمّة التمكين والنصر.
    وقد عرض المؤلف تجربة موسى (ع) ضمن مجموعة مشاهد ومقاطع مرتبة زمنياً.
    المشهد الأول: صراع موسى واتباعه من جهة مع فرعون وأتباعه، كون ذلك الصراع كان حول الكبرياء في الأرض لمن تكون، ووقوف موسى مع الخيار التقليدي: إمّا الخروج من الأرض حاملاً دينه، أو الخروج من الدين ليبقى في الأرض، وهو خيار مرفوض، لأن أساس الدعوة الربط بين الدين وبين الأرض والاستيلاء على السيادة فيها باسم الله.
    من هنا يقف الفريقان على حافة القتال، لكن موسى يدرك نتيجة المعركة مسبقاً بسبب عدم تكافؤ الطرفين، ولذلك طرح خيار الخروج من مصر بشرط موافقة فرعون على ترك المجال أمام بني إسرائيل للذهاب مع موسى، فرفض فرعون خوفاً من أن ذلك لن يعني إلاّ أن موسى واتباعه قد صاروا أمة لا تفصلهم عن السيادة إلاّ موطئ قدم قد يجدونه بالتحالف، زيادة على خطر الهجرة الجماعية من تأثير سالب على اقتصاد مصر. رفض فرعون الفكرة وشدد الخطر عليهم حتى وصل الأمر بفرعون اللجوء للتصفية الجسدية والقهر والاستئصال، في حين لم يكن لدى موسى غير الصبر والصمود.


    من استعراض تجربة الرسل يستخلص المؤلف بعض الملاحظات:
    ـ أن التديّن يبدأ (بالتنزيل) الذي يوصل للناس والتديّن سعي يؤمر به الناس; لمعرفة الوحي ولإقامة العدل في الأرض.
    ـ أن الوضع الإنساني قبل نزول الوحي ليس طبيعياً، ويتخذ قاعدة لاستنباط المعايير السلوكية.
    ـ أن الأرض تكون مشتركة بين من يسعى لإقامة العدل فيها ومن يسعى للكبرياء، وان التمكّن فيها سيكون مداولة واستخلافاً ضمن شروط موضوعية.
    ـ الرسل أول من جاء بفكرة الدولة وبمفهوم الاحتكام إلى قانون غير ذاتي المصدر.
    ـ إن تملّك الأرض وما تخرجه والاستعلاء على الناس بغرض السيادة والتمكّن، نوازع لها وجود في الفطرة البشرية، وان النزوع للحق والعدل وجود أصيل في النفس البشرية، وأي صراع يوجد بينهما فهو في داخل النفس الإنسانية الواحدة.
    القسم الثالث من سورة الأعراف تتبع فيه المؤلف الآيات التي التفتت إلى الرسول (ص) بمكة وعلاقته بقريش، هذا الالتفات لقريش لم يأت آخر السورة، وإنّما ظل يأتي على طول السور كلّها ضمن إشارات خاطفة تتخلل العرض التاريخي وتذيّل عاقبة الأمم ومصائر الممالك.
    المقطع الأول: خاص بالآيات 1 ـ 4 من سورة الأعراف، وفيه يلاحظ المؤلف أن الآيات افتتحت بخطاب عام للناس جميعاً بما فيهم قريش، وبعد أن يستعرض تجارب الأمم الأخرى يصبح الخطاب خاصاً بقريش مباشرة; لأن ذلك يمدّها بوقائع التاريخ وشواهد منه، كذلك فإن الخطاب الموجّه إلى قريش موجّه إلى الرسول وأتباعه، ليولد فيهم إحساساً خاصاً ينمّي فيهم وعي التاريخ، فيمارسون النظر الموضوعي والتحليل العلمي.
    المقطع الثاني: ويستنطق فيه المؤلف الآيات 29 ـ 56 ـ 94 ـ 95 ـ 96 ـ 100 ـ 101 ـ 102 ويلاحظ أن هذه الآيات جاءت فاصلاً بين تجربة مجموعة من الرسالات السابقة وتجربة موسى; لأنها خاصة ومن نوع جديد يراد بها منهج ديني تطبيقي، خرج المؤلف منها بمجموعة إشارات:
    * تأكيد أن حركة التدين التي يتعاقب فيها الرسل على الناس، لم تكن عملية عبثية تبدأ بالإنذار وتنتهي بالاستئصال، وإنما كانت عدلاً مع الهالكين من أهل القرى، ورحمة لمن يرثون الأرض من بعدهم.
    * هذه الآيات ُجمعت فيها المعاني التي فُصّلت ضمن الإطار التصوري السابق، فهي تتحدث عن الأمر التكليفي، وإقامة العدل وإخلاص الولاء والإصلاح في الأرض، والإفساد الذي ينشأ نتيجة الالتزام أو الإخلال بأمر الله.
    المقطع الثالث: وفيه عكف المؤلف على الآيات 176 ـ 181 ـ 194 ـ 196 ـ 199 وهي التي جاءت أعقاب التجربة الموسوية، ولها دلالات عميقة إذا علمنا أن فرعون انسلخ عن آيات الله بعدما جاءته، وأن بني إسرائيل مثّلوا السلطة الثقافية التي لجأ إليها كفار قريش لمحاججة الرسول (ص)، لذلك جاءت هذه الآيات لتطعن في أساس تلك السلطة المدّعاة مشيرة إلى أن المصدر اليهودي الذي تفزع إليه قريش ليس هو الحكم العادل، وأن المصدر اليهودي، وإن كان معه كتاب، إلاّ أنه لم يتبعه واتبع هواه.
    وبعد ذلك ذكرت الآيات مواصفات الأمة التي يجب أن يعمل الجميع على إيجادها، لأهميتها في إصلاح الخلق والأرض مما يخص المضطهدين في شعاب مكة، الأمر الذي ينقلنا لتتبع التجربة القرشية في مكة من بين الأجزاء الكثيرة التي عرض لها القرآن في أكثر من موضع لمعالجة تجربة الرسول (ص) مع قريش في مكة خاصة، وأن هذا المشكل واجه المؤلف عندما اختار ما يدع وما يأخذ من القرآن المكي الذي عالج هذا الجانب.
    من هنا وجد المؤلف نفسه يعتمد منهجاً من بين عدة اختيارات ركز فيها على البحث عن أصل السيادة السياسية ومشروعيتها، وبواعث الفعل السياسي، ومكانة الدولة في النسق الاجتماعي، ثم مكانة الأمة والأغراض التي تلتقي فيها والفلسفة التي تستند عليها هذه الأغراض التي تطرقت إليها غالبية سور القرآن المكي وإن بدرجات وزوايا مختلفة، لذلك اعتمد المؤلف السور التي تتعرض لتلك القضايا بصورة جامعة، وجاء نزولها متتابعاً وتشكل نسيجاً واحداً، وهي ما سيكون محور دراسة «غافر ـ فصلّت ـ الشورى ـ الزخرف ـ الدخان ـ الجاثية ـ الأحقاف».
    قسّم المؤلف السور إلى آيات تعبر عن معنى مشترك مما يقصده في بحثه سماها بالمقاطع مثل آية (1 + 2) من الزمر، وآية (1) من سورة غافر، وآية (1) من فصلت، وكذلك الآيات الأولى من الجاثية والأحقاف والزخرف وهي جميعاً تبدأ بـ (حم تنزيل الكتاب) أو (حم والكتاب) تشترك في التركيز على مفهوم أن الكتاب منزّل وليس موضوعاً، كأنما تتعرّض لمبدأ السيادة العليا في المجتمع، فتقدم الفكر التنزيلي مقابل الفكر الوضعي.
    ولما كانت (الأمة) هي الطريقة والدين، فإن ما سعت به قريش لرسول الله (ص) بما يحمله من دلالات أهمها أنهم يعتبرون أنفسهم على دين هو دين الآباء" إبراهيم وإسماعيل" بمعنى أنهم لم يكونوا يستنكرون أن يكون الدين هو أساس الاجتماع والإطار المرجعي الذي يُحتكم إليه في شؤون السيادة العليا في المجتمع، وأن الحكومة التي يمثلونها تقوم على أساس من قيم الدين، ومن هنا فهم أحق بالرسالة الجديدة التي تجدد دين إبراهيم وتكمله، نفهم لهذا سبب استنكار أبي جهل نزول القرآن على محمد (ص) بقوله: «ما في مكة أعز مني ولا أكرم» ص 105.
    هكذا جاء القرآن واصفاً المشركين المستكبرين (بالإفك)، الكلمة التي تشير في كل اشتقاقاتها إلى (الانقلاب) ليبرهن أن حكومة الملأ من قريش حكومة ساقطة عنها الشرعية، ومن هنا فإن آية (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها) وآية (شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً)، وآية (وما تفرقوا إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)تحتوي جميعها على لطائف أهمها:
    أولاً: إن محمداً (ص) لم يأت ليبدأ دورة دينية من العدم، وإن شرع الله لم يبدأ به أو بإبراهيم، بل بنوح، بمعنى أن الحكومة من ملأ قريش إذا كانت تؤسس شرعيتها على إرث الدين الإبراهيمي، فإن هذا الأساس ليس موضع تسليم، وإن كل إسهام بشري جاء على هدى إبراهيم، فإن محمداً (ص) أحق به.
    ثانياً: إن آية (أُمرت لأعدل بينكم) أمر مباشر لرسول الله (ص) أن يتولى القيادة السياسية في المجتمع، وتعني أن يتولى الرسول قيادة الناس; لان أصل العدل في الأرض أن تكون الكبرياء فيها له وحده، أي إنزال الملأ القرشي من موضع السيادة السياسية بعد أن جُردوا من الشرعية التاريخية، وإن إقامة العدل تعني الالتزام بإقامة الدولة التي يجب أن تتوفر فيها مجموعة خصائص:-
    1 ـ أن تكون توحيدية تحريرية: ولما كان العدل يعني أن يوحّد الولاء لله، فإن ذلك سيحرر الناس، ولذلك فهي دولة تصل للحرية عن طريق التوحيد، وستبطل الاسترقاق والاستكبار، وإنها بإسناد مفهوم السيادة العليا لله ستحرر الناس من الإشراك الوثني والطغيان البشري، فالدولة بناء على هذا لا تنشأ كأداة تمتص حريات الآخرين، بل لتنمية قدراتهم على التحرر وتعينهم على إنجاز مشروع التوحيد الذي أبرم في الميثاق.
    2 ـ أنها دولة للناس: والكتاب هو الأصل الذي يقوم الرسول بموجبه بالعدل ويكوّن الدولة، فإذا كان الكتاب للناس أصلاً، فالدولة التي تقوم به ستكون للناس كذلك، ولا يمكن أن تكون دولة لفرد أو لحزب أو جماعة.
    3 ـ أنها دولة قانون: يحتكم فيها الناس حكاماً ومحكومين لشريعة بقواعد موضوعية ووجود مستقل، هذه الفكرة لم تتبلور إلاّ حديثاً في النظرية السياسية والفقه الدستوري، وأن القرآن يقرر ابتداءً أن الرسول والمؤمنين جميعاً يقعون تحت دائرة التكليف والمساءلة، ويحتكمون إلى الشريعة المنزّلة وليس الموضوعة، فالشرائع لا يكون وصفها من اختصاص بشر والشريعة المنزّلة تختلف عن القانون الطبيعي.
    4 ـ أنها دولة غير ثيوقراطية: محصورة بين الكتاب والأمة التي تتولى مهمة الهداية بالحق المنزل وإقامة العدل القائم على الميثاق التوحيدي الذي ينتهي بتحرير الناس من سلطة الناس، وهذا ينسف سلطان قريش التي لا زالت ترتكز على ركن اقتصادي أوصل الملأ القرشي لحالة من الترف انعكست على الوضع السياسي والإنساني، فآية (فلا يغررك تقلبهم في البلاد) و ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) تشير إلى أن الثراء والترف المستند على فلسفة الإشراك ينطوي على الظلم الذي يجمع أسباب الفناء للسلطان السياسي، ونظرة سريعة إلى وضع مشركي مكة يوضّح ما ذهبنا إليه، حيث أشارت الروايات إلى أن رجالاً جاهليين يملك الواحد الآلاف والمزارع والإبل ، استعملوا آنية الفضة مما ترك أثراً في نفوس الفقراء، وجعل مهمة الرسول (ص) شاقّة وهو يدعو لإقامة دولة العدل بين الناس، ويسعى لإبطال قواعد الاستكبار القرشي بتغيير مفهوم الثراء لديهم وجعله حرثاً دنيوياً ورزقاً من إله قادر على استرداده وإتلافه.
    وإن ربط القرآن بين الثراء والطغيان واضح في قوله: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) من هنا فإن رفض القرآن للمبررات الاقتصادية التي يستند عليها الملأ المكي في تبرير سلطانه السياسي، يعني انقلاباً على حكومة الملأ، وإعلاناً عن قيام أمة الإسلام التي تسعى لاستكمال سيادتها على أنقاض قريش المتهالكة، والتي فقدت مبررات وجودها واستعلائها. فإذا تأملنا آية (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) (الشورى38-42) نخرج بملاحظات هي:
    1 ـ أنها لا تتحدث عن أفراد وإنما عن جماعة، ولذلك استخدمت صيغة الجمع.
    2 ـ أنها تتحدث عن الجماعة والأمارة وتصفها بالشورية.
    3 ـ أنها تتحدث عن الإنفاق الطوعي المتلائم مع إمارة الشورى ومقتضيات الواقع الاقتصادي السياسي.
    4 ـ أنها تعلن بصراحة إسقاط مبدأ الشرعية القرشية، وتبيح الخروج عليها باعتبارها سلطة طاغية خرجت على التوحيد الإبراهيمي والهدي المحمدي، ولهذا فإن من يرصد تحركات الرسول (ص) يجد أنها تتزامن مع النقطة الرابعة; لأن حركة الرسول (ص) ستكون حركات رجل دولة يسعى لاستكمال عناصر السيادة ويخرج من الطوق الاقتصادي، وإن فكرة الانسحاب السلبي من مكة وتركها للمشركين لم تكن واردة في منهج الرسول (ص) الذي اعتمد على مبدأ سحب الأرض من تحت أقدام قريش، أو تهديد مصالحها في الطائف أو الحبشة، أو تطويقهما بالقبائل العربية، ولعل واقعة ولادة الرسول (ص) أن سقط على الأرض بيديه رافعاً رأسه للسماء، كما ورد في طبقات ابن سعد، تشكل بعداً رمزياً تهيئ لمضمون رسالة سيحملها هذا الطفل مستقبلاً، ملخصها أنها رسالة تقبض على الأرض، وهي ناظرة إلى السماء بما تمثّله من توحيد بين الواقع والمثال.
    يقترب المؤلف في الباب الثالث من كتابه من واقع العلاقات السياسية القرشية الداخلية والخارجية، يفحص ادّعاءات ملأ قريش في زعمهم أنهم على دين إبراهيم، متابعاً مسار الانحراف الذي طرأ على دين إبراهيم، وما يمكن أن ينتهي إليه، وكيف أن الرسول (ص) اتخذ هذه الدعوة تحديداً لينفي عنها ما لحق من إشراك، ويضمّها إلى دين إبراهيم، ليستأنف عليها نشاطه ومنهجه في التغيير، فيتوقف المؤلف مع الانهيار الداخلي لقريش ابتداء من انقسام بطون قريش إلى معسكر يبايع بني عبد مناف ويحالفهم، ومعسكر يبايع بني عبد الدار ويحالفهم، ومعسكر لم يكن مع أولئك أو هؤلاء، ومن خلال هذه الحالة التي وصلت إليها قريش يمكننا ملاحظة:
    * إن اتجاه السلطة المكية السياسية التي سار عليها قصي ستتغير وتنتهي لنوع من الممارسة المرنة المحافظة حتى جعلوا لكل بطن وظيفة حتى يتجنبوا الصراع ـ يختار لها البطن من رجاله من يقوم بها على أساس العرف القبلي.

    * إن الاتجاه السياسي بعد ذلك سيظل يتحكم فيه معسكر بني عبد الدار ومعسكر بني عبد مناف، ولا شأن لأي قبيلة أخرى من قريش إلاّ بالانضمام لأحد المعسكرين، وإن السياسة المكية ستقوم على التحالفات مع الإبقاء على منهج التراضي والمساومة، كي لا يصل النزاع حد الاقتتال، وحتى لا تتأثر المصالح الاقتصادية العليا التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي.
    * إن الجزء المهم الذي تهتم به قريش هو الكعبة التي لا يراد منها إلاّ القيام بدور حصان طروادة ـ تأتي إليه القبائل لتقضي فيه الصفقات التجارية، فيزدهر الاقتصاد باسم السقاية والرفادة وحماية الحجيج، لا فرق بين عابد الوثن وغيره; لأن الكعبة صارت المنطقة الوحيدة المفتوحة دينياً لكل الأوثان والأجناس والأديان، لكونها بيت الله، ولكون الدين قد صار مرفقاً تجارياً أضفت شعائره لتقوية المركز التجاري والأدبي لقريش التي قامت بمجموعة ترتيبات لتحقيق السيادة.
    يتبين من ذلك أن قيم الدين التوحيدي داخلها قيم تجارية أصبح لها أولوية عظمى في المجتمع القرشي، ستجعل مهمة الرسول ليست سهلة خلال محاولته إعادة الأمور الى نصابها، خاصة وأن الرباط العرقي يمكن أن يتلاشى ليحل محلّه الرباط الاقتصادي، مما ينسحب على التكوين الاجتماعي القرشي، حتى لاحظ المؤرخون أن قطع الأرحام صار سمة بارزة في ذلك المجتمع، ترتفع فوقها المصالح الاقتصادية، وتأخذ الأولوية عليها.
    هذا الرباط الاجتماعي الهشّ لم يحفظ الوجود السلطاني لقريش، ونشب صراع داخل معسكر بني عبد مناف أنفسهم، تمت المساومة بشأنه قبل أن يستفحل، فتنازل عبد شمس لأخيه هاشم عمّا في يده من السقاية والرفادة، واحتفظ هو باللواء، تمكن هاشم من إبرام معاهدة صداقة وتجارة مع الحبشة، ليمهد لقريش رحلة الشتاء والصيف للشام والحبشة، ولتبدأ الحركة التجارية النظامية التي اتسعت على أثرها أموال قريش، وعظم سلطانها ليكون سبباً في نزاع جديد على السلطة السياسية بين هاشم وابن أخيه أمية بن عبد شمس (ص 138) انتهت الى المناظرة والتحكيم، ونفي نتيجة ذلك أمية إلى الشام لمدة عشرة أعوام، وإن ظل العداء مستفحلاً بين البيتين حتى ظهرت النبوة في بني هاشم، وكان بنو أمية أشدّ المعارضين نتيجة الصراع التاريخي.
    هذا التطاحن الداخلي مقدمة الانهيار والتداعي، وهو إفراز طبيعي للمجتمع الذي يقوم كيانه على التجارة المستنكفة عن الغيب والمستترة بأشكال الدين وطقوسه. ويكفي هذا من سبب لكي تفقد قريش هويتها المستقلّة، وتسقط تحت هيمنة الأمم الأقوى تماسكاً، أو الأمم ذات الجهاز السلطاني الأكثر قدرة وأكبر أثراً، فهل التآكل الداخلي في قريش هو الذي قادها للارتماء في أحضان الفرس أو الروم، القوتان الأعظم على المسرح السياسي آنذاك؟
    بالنظر الى عموم الوضع الجغرافي والاقتصادي للحجاز، نلحظ أنها منطقة اتصال بين الشرق والغرب، وتؤثّر تأثيراً مباشراً على مصالح الفرس والروم، فإذا عرفنا أن التجارة الحجازية تعتمد اعتماداً كلياً على الدول الخارجية يمكننا الإجابة على السؤال السابق بنعم.
    ولعل ما شهد به تاريخ جمهرة أنساب العرب يؤكد قابلية قريش للاستعمار، عندما خرج عثمان بن الحويرث، وكان يطمع أن يملك قريشاً، وكان من أظرف قريش وأعقلها، حتى يقدم على قيصر، وقد رأى موضع حاجتهم إليه ومتجرهم، فذكر له مكة ورغّبه فيها وقال: تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء، فملّكه عليهم، وكتب له إليهم، فلما قدم عليهم قال: يا قوم إن قيصر من قد علمتم، أما أنكم ببلاده، وما تصيبون التجارة في كنفه، وقد ملّكني عليكم، وإنّما أنا ابن عمكم، وآخذ الجراب والقرظ والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعثه إليه، وأنا أخاف إن أبيتم أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به، ويقطع مرفقكم منه (ص 139). هذا الموقف لعثمان بن الحويرث يمكن أن يُتخذ تحليلاً موضوعياً لموقف قريش ويؤكد على مايلي:
    * إن مصالح قريش كانت تتأثر مباشرة بعلاقاتها مع الروم، ومن هنا فهي في خوف دائم منها.
    * إن الوجود الفارسي في اليمن كان يحفّز الروم ويحرّضهم ليكون لهم وجود مضاد في الحجاز.
    * إن المعاهدات التجارية التي أبرمها الروم مع زعماء قريش، كان وراءها هدف سياسي استراتيجي يرمي لاصطناع الموالين وإقامة مملكة حجازية رومية عاصمتها مكة.
    * إن المصالح التجارية وحدها التي تحدد سياسات قريش، وإن الاعتبار الديني قد تضاءل.
    * إن حالة الحياد السياسي التي تدّعيها قريش تسقط أمام الامتحان المباشر، وسوف تضطر للانحياز لأحد المعسكرين (الفرس والروم) وسيتوقف رفع شعار (إن قريشاً لقاح) أي لا تخضع لأحد.
    * إنه بين خواء الوثنية وانقطاع الإبراهيمية ربما صار الدين الذي يدعو إليه محمد (ص) هو الخيار الوحيد المفتوح أمام قريش إذا أرادت أن تتماسك داخلياً وتنهض (أمّة وسطاً) مستقلة عن الفرس والروم. ولهذا فهي دعوة تهدف للوصول الى موضع السيادة العليا في المجتمع، تنزعها من الناس، وتعيدها الى رب الناس الذي أمر بإقامة العدل، وبنى باسمه البيت الحرام، وجعله قبلة التوحيد، ومن هنا تأتي مهمة محمد (ص) ليعيد للدين أشكاله ومحتواه الاعتقادي، ويعيد للكعبة مكانتها كبيت يتصل فيه الناس بالله لا سوقاً ينقطعون فيه عن الله، ولهذا يجب الوقوف ملياً أمام سورة قريش التي أكّدت معانيها على أن الائتلاف كان بسبب وجود البيت الحرام رمزاً لدين التوحيد الإبراهيمي وتجسيداً لقيم الغيب والإيمان بالإله الواحد، وغير ذلك سيفقد البيت مغزاه الديني، ويضمر محتواه الغيبي، وتضعف قدرته على توفير الائتلاف الاجتماعي والأمن النفسي، وذلك هو منشأ الخطر الذي لن تستطيع أن تدفعه رحلة الشتاء والصيف، وهو خطر قريب جداً جاء محمد (ص) لينذر عواقبه، وليغير اتجاه الأحداث ليتمكن من تفاديه.
    كما تؤكد ظلال المعاني للسورة نفسها أن قيام الالتئام الاجتماعي داخل قريش على أساس التجارة، قلباً لموازين القيم، وانقلاباً على دين التوحيد، وان قيم التجارة والمنفعة العجلى والعلاقات القائمة محل استنكار، خاصة وهي تطرح موضوعة البناء الداخلي لقبيلة قريش، على اعتبار أنها ستكون نواة الجهاز السلطاني في بلاد الغرب، وأن قريشاً إذا استمرت تقوم داخلياً على الأساس القومي المطلوب، فلا يؤهلها ذلك لتتحول إلى أمة، ولا أن تحافظ على سيادتها السياسية، وعِبرَ التاريخ كثيرة في هذا الشأن.
    كما أن اعتماد قريش مع هذا الايلاف الداخلي الهش، وعلى الايلاف الدولي الخارجي، أمر شاذ، يؤدي إلى فقدان الترابط الداخلي والاستقلال السياسي والاقتصادي في خضم الصراع الدولي الذي لم تتأهل قريش لخوضه بعد، وأنه بدلاً من الاتجار باسم البيت الحرام، فإنه من الخير لقريش أن تعبد رب البيت الحرام، وتقيم بناءها الاجتماعي على نسق القيم المرتبطة بعقيدة الجزاء الأخروي، وليس على قيم التجارة وحدها، لأن إقامة الايلاف الاجتماعي على عقيدة الجزاء الأخروي هو الذي يمكّن قريش من أن تتحول إلى أمّة مستقلّة سياسياً واقتصادياً.
    إذا ما انتقلنا إلى الفساد الإسرائيلي، فإننا سنتوقف مع سورة الإسراء لنعرض للصراع السياسي ضمن إطاره الدولي، وفي شكله الإسرائيلي، وسورة الإسراء هنا تتناول ظاهرة الاستبداد السياسي الإسرائيلي بدرجة تمكننا من رؤية الكيان اليهودي يتهاوى بين مخالب القوى الدولية الكبرى ذاتها: الفرس والروم، والفارق بين سورة قريش وسورة الإسراء أن الأولى تناقش ظاهرة الفساد الاجتماعي الذي يحدث في حالة غياب الكتاب والدولة، بينما سورة الإسراء تعرض ظاهرة الفساد الذي يكون بوجود الكتاب والدولة، وبهذا تبدأ الإسراء من حيث انتهت سورة قريش. وبنظرة مجملة على مجموع الفساد، سواء في قريش، أو في بني إسرائيل، أو فارس، أو الروم، نصل إلى مجموعة حقائق:
    1 ـ أن الأمم أصابها إفلاس روحي، وتآكل اجتماعي داخلي، جعلها تعرض عن دين التوحيد وشريعته.
    2 ـ هذا الانحراف نشأ عنه ظاهرة اجتماعية عرفت بالفساد الذي هو سبب هلاكها.
    3 ـ إن قيام دولة الإسلام ضرورة لإنقاذ قريش والعالم.
    4 ـ إن مهمة الرسول المباشرة بعد الإسراء هي الإسراع في إقامة الدولة، وهكذا قام الرسول بتنفيذ استراتيجيته عبر خطوات هي:
    أ ـ إسقاط الشرعية الدستورية عن حكومة الملأ في قريش، ودحض مقولاتها الدينية، والدعوة لتنظيم الحياة على نمط ديني يسترشد بالقرآن.
    ب ـ تهديد وضرب مصالح قريش الاقتصادية.
    ج ـ تطويق قريش من الخارج بالأحلاف وعقود الجوار ومعاهدات النصرة والتصديق، وما رحلة الطائف إلاّ خطوة للقبض على الأرض من أجل التمكين والسيادة; لأنها تمثّل عمقاً استراتيجياً لملأ قريش، ولم تكن انسحاباً من مكة، أو تخلياً عن السيادة السياسية لملأ قريش في مكة.
    ذهابه عليه السلام إلى الطائف كان خطوة مدروسة لو نجحت; لأنه ذهب الى بني عمر و بن عمير رأس الأحلاف. كذلك الاستجارة بقبيلة نوفل لتفجير مكة من الداخل، وكذلك المفاوضات مع بني عامر.
    كل ذلك لم يكن تحركاً عشوائياً وإنّما كان تحركاً حسب خريطة سياسية واضحة المعالم محددة الأهداف، وبصحبة أبي بكر المتخصص بالأنساب وتاريخ القبائل، ليوقع معاهدة اعتبرت ثورة في المفاهيم والقيم، فكأن الرسول (ص) قد قبض الأرض وهو ينظر إلى السماء.
    بهذا الجهد وهذه البصيرة خالف المؤلف السائد من الدراسات الفكرية التي اعتمدت على نصوص القرآن لتعضيد رؤية توصل إليها الباحثون، ليؤكدوا عمق نظرتهم وصدق تحليلهم، وذلك بدراسة الظاهرة القرآنية والتبصّر فيها، والتعمّق في جزئياتها من خلال تتبع خيوط نظرة تكاملية، معتبراً أن الآية القرآنية ظاهرة تحتاج إلى تحليل لاكتشاف مفاتيحها التي تساعدنا في تحليل الظاهرة الاجتماعية وفهمها العدل.
    ***
    مراجعة في كتاب أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، تأليف د. التيجاني عبد القادر حامد، من إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 291 صفحة.

  2. #2
    دراسه مهمه واكاديميه
    ولكن يبقى السؤال الماهم:
    لماذا لانسهم في تقوية اقلام غربيه تكتب لصالحنا ونقدمها لجيل بدا يتزعزع عقيديا؟
    سؤال اتاني عبر عضو في منتدانا مسيحي كيف تثبت ان القران لم يحرف؟
    بالطيع يمكننا الرد ولكن الاهم كيف لجيل هش دينيا ان يكون قادر على مواجهة امور وهجوم يحتاج لقاعدة صلبه؟
    تحيه لكم وتقدير
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3

    رد

    تحية موصولة
    والشكر على التعليق الجميل الدقيق
    نحتاج لكثر من ذلك
    تحيتي

  4. #4

  5. #5

    رد

    شكرك اخي الكريم
    واشكر مرورك
    نعم هو كذلك
    بار كالله فيك,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

المواضيع المتشابهه

  1. الفكر السياسي عند ابن خلدون
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان الأبحاث الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-17-2017, 06:35 AM
  2. الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية - جلين تندر
    بواسطة جريح فلسطين في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-23-2014, 09:32 AM
  3. تاريخ الفكر السياسي - جان توشار
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-21-2014, 03:18 AM
  4. الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية - جلين تندر
    بواسطة أسامه الحموي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-18-2014, 06:43 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •