آفاق.. لأنها مدينَةُ الضِياء
في مسار الدراسات والبحوث عن، وحول، وبما يخصّ المنطقة، لا بد أن تحضر القدس، فهل يمكن أن نعتبر هذا الحضور بسبب مكانتها الدينية، أم التاريخية، أم بسبب موقعها الجغرافي، أم لأنها درّة مدن بلاد الشام، وبوّابة الدخول إلى كامل المنطقة، أم لكل هذه الأسباب مجتمعة.؟
من هذا المنطلق يطرح السؤال نفسه: لماذا القدس.؟
لم تتعرّض مدينة على وجه الأرض، وعلى مدى حقب التاريخ المختلفة ومنذ ستة آلاف عام «على ما نعرف» لمثل ما تعرّضت له مدينة القدس من احتلالات وغزوات واجتياحات، ربما لأن الطامعين أدركوا أن الممسك الاستراتيجي الذي يخوّلهم دخول منطقة «بلاد الشام» والآفاق الجنوبية والشرقية فيما بعد واستعمارها يبدأ من القدس.! وهذا يستدعي إبراز صكوك ملكية للتلويح بها كوثائق تقول بعبارة واضحة: إن تملّكهم للقدس تاريخياً يعطيهم كامل الحق للعبور إلى المنطقة بكاملها، ليس لموقعها وقدمِها وحضارتها السابقة فقط، بل لأنها أيضاً مثّلت المكان المقدّس للاختيار الإلهي لتكون حاضنةً للديانات السماوية.
ولم تتعرّض مدينة لمثل هذا الكم من البحث والدراسة كما تعرّضت له مدينة القدس، فمنذ العهود القديمة والوسيطة والحديثة، عملت، وما زالت تعمل، مباضع الباحثين والمنقّبين والمستشرقين والتاريخيين والرحّالة والسياسيين والمتديّنين تشريحاً دقيقاً وصارماً لكل أثر أو حجر، ولكل من استقرّ في المنطقة أو عبر.
في القرن العشرين الذي انقضى، شهد العالم قفزات نوعية في المجالات «العلمية خاصّة» استطاع من خلالها أن يثبّت حقائق كثيرة، لم تكن مجهولة، لكنّها أيضاً لم تكن مؤكّدة.
فقد كشفت أعمال التنقيب «البريطانية» التي جرت في العام 1961 م عن آثار لمدينة محصّنة وقائمة في المكان الحالي للقدس، وكان سكّانها من الموجات الساميّة التي هاجرت من قلب الجزيرة العربية إلى الشمال، واستقرّت إحداها في منطقة فلسطين وعُرف سكّانها باسم «الكنعانيين الفلسطينيين»، ويتكلمون اللغة الساميّة.
وقد أظهرت الأبحاث الجديدة والاكتشافات الأثرية في تلّ العمارنة وغيرها، وكذلك الحفريات الأثرية التي قامت بها السلطات الصهيونية منذ بدء الاحتلال الاستيطاني عدم وجود أيّ آثار يهودية في القدس وفلسطين.
وهذه المصادر ذاتها تصل بمدينة القدس إلى «إبراهيم» أبي الأنبياء، وبات ثابتاً أن منطلق التقديس للمكان هو تحديد موقع الذبيحة التي افتدى بها ولده إسماعيل، والمرجّح أنها على جبل الموريا، ويربطه التقليد بالصخرة التي استقبلت معجزة السماء وأخذت فيما بعد موقعها كمركز لساحة الحرم «الهيكل المزعوم» تعلوها اليوم قبّة الصخرة.
إن شخصيّة «ملكي صادق»، خلال الحقبة التي سمّيت حقبة العالم الكنعاني، تمثّل الأساس الدائم لفلسطين، وهو متمركز منذ البدء على مستوى القدس، ويمثّل حقيقة سكّانية مستمرّة في فلسطين تحت الشارة اللازمنية واللاقبلية، تحمل شعار «ملكي صادق» «ملك سالم» أو «ملك القدس» ستسمّى فيما بعد على أرضيتها الساميّة الاستمرار الكنعاني، ومن ثم الفلسطيني.
إن أول ذكر للقدس «روشاليموم» وردَ في نصوص اللعن المصريّة من الأقصر وسفارة قرب القاهرة، التي تؤرخ إلى عصر المملكة الوسطى حوالي القرن العشرين ق.م وحفظت لنا أحد أسماء أمرائها وهو «يعار عمو» وأكّدت أيضاً أن المدينة كانت مركزاً لعبادة الكنعانيين وتسمّى (يورو شالم) مدينة شالم وهو اسم إله الكنعانيين، وأوردت أيضاً أسماء ملوك كنعانيين بينهم (ملكي صادق) و(وارادخي) وهو أمير القدس، الذين شكّلوا أول كيان سياسي دولي في التاريخ على أرض فلسطين وبأكثر من مئتي قرية ومدينة كانت (يبوس) القدس إحداها.