"الحرية" المُنْتِجَة لـ "تداول سلطة" حقيقي، تجسِّدُها ديمقراطية "غير ليبرالية"، تنشأ في قلب اقتصاد "غير ليبرالي"..
أسامة عكنان
من المؤكد أن الشعبَ هو مصدر السلطات، مادامت كلُّ السلطات تتكوَّن وتتشكَّل لتُعْنى بشؤونه، حمايةَ حقٍّ أو استيفاءَ واجبٍ أو إدارة مصلحة، ما يجعله صاحب الحقِّ في تشكيلها، لأن أحدا غيره لا يملك الحق في إدارة شؤونه بدون إذنه وموافقته، وبالشكل الذي يريده ويقبل به ويرتضيه.
هذه واحدة من أهم القِيَم التي أرساها الفكر الإنساني، عبر مسيرة تطوره المديدة بحثا عن "الحرية" و"العدالة"، وترسيخا لـ "التعايش" و"التشاركية".
لكنَّ العبرةَ ليست في مجرد الإعلان عن ذلك المبدأ وادعاء إلزاميته، بل هي تكمن في توصيفه، وفي تحديد معانيه ومضامينه الموضوعية، وفي تحديد آليات تجسيده.
تُرى هل هناك صيغةٌ تنظيمية تُعَدُّ أقدر على تجسيد مبسدأ "الشعب هو مصدر السلطات"، بصورةٍ أشملَ فضاءً، وبصيغةٍ أوسعَ أُفُقا مماَّ هو سائد من صورٍ وصيغٍ فرضتها علينا الثقافة الأوربية، التي نشأت ديمقراطياتها في حاضنة "الليبرالية"، التي أصَّلت للرأسمالية وللبرجوازية، والتي كانت لاحقا بمثابة المرجعية الأم التي برَّرت الاستعمار بكلِّ بشاعته وتداعياته اللاإنسانية خارج القارة الأوربية، والتي رسَّخت الفرز الطبقي بكلِّ ألوانه وتداعياته على صعيد الفقر والبطالة داخلها؟!
إن أيَّ قارئ نزيه للتاريخ لا يَملكُ إلاَّ أن يستهجنَ هذا التناقض العجيب بين مقولات الديمقراطية المختلفة القائمةِ كلِّها على الدعوة إلى احترام الإنسان وحقوقه الطبيعية التي جسَّدت الثورةُ الفرنسيةُ ذروةَ سنامها، وبين قيام الديمقراطياتِ الأوربية نفسِها وعلى رأسها "ديمقراطية الثورة الفرنسية" ذاتها، بِممارسة أبشع أنواع الظلم والقهر والاستغلال التي لم تعهدها البشرية من قبل، في حق الشعوب التي تقع خارج حدود الجغرافيا المشمولة بِحقها في الدَّمَقْرَطَة وفي التَّأَنْسُن وفي التَّحَرُّر، ناهيك عن "الإتجار الفلسفي" المبتذل بحريةٍ مجتزأة ومشوَّهة، للتأصيل للقهر والظلم ولكل أشكال التفاوت الطبقي المروِّع، مما شهدته القارة الأوربية في ظل ما أطلق عليه "الدولة الحارسة" للنظام الرأسمالي بكل تغوُّلِه.
وإذن فكيف يُمكننا أن نحقِنَ فكرة "إن الشعب هو مصدر السلطات" بآفاقِ تَحَقُقٍ في الواقع، تَتَفَوَّق في مديات تجسيدها لـ "مصدرية الشعب للسلطات"، على النماذج الديمقراطية الغربية "الليبرالية" الطابع، والغارقة في الشكلانية والمظهرية المفَرَّغة من الدلالة الإنسانية غالبا، كما ينبئنا بذلك التاريخ الأوربي نفسه، وهو يطلِعُنا على الكوارث التي عانت منها الشعوب الأوربية نفسها في ظل "الديمقراطية الليبرالية"، على مدى قرونٍ لم تنتهِ تداعياتها بعد، إلا بقدر نسبي ومحدود، وبعد حربين دمرتا الأخضر واليابس في القارة المتمدنة، وأزهقتا أرواح ما يقارب المائة المليون إنسان خلال ما لا يزيد على ثمان سنوات من الاقتتال؟!
إن ما يجب أن يكون واضحا في أذهاننا منذ البداية، هو أن مصطلح "الديمقراطية" يُجسِّد "حالة إنسانية" عامة هي "حكم الشعب"، أيُّ شعبٍ في أيِّ زمان وفي أيِّ مكان، على نحوٍ لا ينازع ذلك الشعب في الحكم أحدٌ أياًّ كان، وأياًّ كان شكل المنازعة، وعلى نحو لا ينطوي على تعارض مع مخرجات كلٍّ من قيمتي "العدالة" و"الحرية".
لأن الشعب إذا كان لا يقبل بأن ينازعَه حقَّه في "إدارة السلطة" أحدٌ بشكلٍ يتعارض مع ضرورة تجسيد قيمة "الحرية"، فمن باب أولى ألا يقبل بأن ينازعه في "إدارة الثروة" أحدٌ بشكلٍ يتعارض مع ضرورة تجسيد قيمة "العدالة".
أما مصطلح "الليبرالية" الذي يطبع الديمقراطيات الغربية عامةً بطابعه الخاص، فيمثل "حالة أوربية"، هي فقط تلك الحاضنة التي جسَّدت "حكم الشعب" وفق الرؤية الأوربية التي لم تشأ أن تؤِّسِّس لأيِّ قراءةٍ لقيمةِ "الحرية" بمعزل عن "الحرية الاقتصادية" بشكلها الرأسمالي المطلق الذي تكرَّس في الأدبيات "السميثيَّة" و"الميركانتيليَّة"، دونما أيِّ اعتبار لتأثير تلك "الحرية الاقتصادية" على مديات تجسيد قيمة "العدالة".
وهو ما يقضي بضرورة تجنُّب الوقوع في الخلط عند أيِّ حديث عن "الديمقراطية" و"الليبرالية" ومبدإ "الشعب مصدر السلطات"، من حيث ضرورة الانتباه إلى أن "الليبرالية" في ذاتها، ليست هي "الديمقراطية" في ذاتها، ولا هي مبدأ "الشعب مصدر السلطات" في ذاته. بل هي النموذج الرأسمالي الأوربي الذي فصَّل ديمقراطيته الخاصة به، وحدَّدَ معالمَ فكرة مصدرية الشعب للسلطات الخاصة به، وأطلق عليهما مصطلح "الليبرالية" الجذاب بسبب اشتقاقه من مصطلح "ليبرتي/الحرية" الأكثر جاذبية، ونسب هذين "المُفَصَّلَين" الخاصين به والناتجين عن "ليبراليته الاقتصادية" بالدرجة الأولى، إلى الديمقراطية الإنسانية في ذاتها.
من هنا فقد ساد الانطباع – عبر حالةٍ من التواصل السايكولوجي التاريخي – بأن "الديمقراطية" و"الليبرالية" شيء واحد، وأن المرءَ إذا كان "ديمقراطيا" بمعنى أنه من دعاة "حكم الشعب"، ومن دعاة "أن الشعب هو مصدر السلطات"، فهو بالضرورة "ليبرالي"، بمعنى أنه من دعاة التصور الأوربي لحكم الشعب، ولمصدرية الشعب للسلطات بالتالي وللحرية ذاتها من ثمَّ، وهو التصور الذي لا يفصل "حكم الشعب" عن "الليبرالية الاقتصادية"، ولا يعتَبِرُ حكمَ الشعب متجسِّدا إلا في قلب هذه "الليبرالية" التي تُعتبر – في حقيقة الأمر – أكبر جناية ارتُكِبَت في حق قيمة "العدالة".
لأن "الحرية" إذا كانت ترتبط في مجال "السلطة" بـ "التشاركية" وبـ "تداول السلطة"، من حيث مدى تحقُّقهما في الواقع، فإنها ترتبط في مجال "الثروة"، بـ "العدالة" وبـ "تداول الثروة" من حيث مدى تحقُّقهما في الواقع، وليس بـ "الحرية الاقتصادية".
إن هناك "خديعة كبرى" أوقعت فيها "الليبراليةُ الأوربية" العالمَ، عندما سوَّقَت له أن "الحرية الاقتصادية" تكتسب مشروعيتَها من قيمة "الحرية" ذاتها، غاضَّةً الطرف عن قيمة "العدالة" التي تُعتبر هي الحبل السُّرِّي الذي تغتذي منه "الحرية"، حتى لو كان مردود ذلك على "حركة الثروة" وعلى "آليات الاقتصاد" مزيدا من "اللاحرية"، لأن قيمة "الحرية" في ذاتها لا تُمَس أيا كان مستوى "الحرية" المتجسِّد في "آليات الاقتصاد" وفي "إدارة الثروة"، لكنها تُمَس كلما تمَّ المساس بعدالة تلك "الآليات" وتلك "الإدارة"، وهي تُمَس أيضا لأن "الحرية الاقتصادية" ليست هي التجسيد الحقيقي للعدالة، مادامت قيمة "الحرية" لا تتطلب "حرية اقتصادية" بالمعنى "الليبرالي الأوربي"، لليبرالية الاقتصادية.
أي أنه إذا كانت "العدالةُ" في "السلطةِ"، تكمن في "الحرية"، فإن "الحريةَ" في "الثروة"، ليست هي مكمن "العدالة" فيها، كما حاولت وما تزال الثقافة الغربية تحاول تسويق ذلك للعالم.
إن "الحريَّة" تتجسَّد عبر "تداول السلطة"، فيما "العدالة" تتجسَّد عبر "تداول الثروة".
وإذا كانت قيمة "الحرية" لا تتكامل إلا بترابطها العضوي في المجتمع مع قيمتها الشقيقة وهي "العدالة"، فإن هذا ليس له إلا معنى واحدا، هو أن مبدأ "تداول السلطة" الذي يجسِّد "الحرية"، لن يتكامل في أرض الواقع إلا بترابطه العضوي في ذلك المجتمع مع شقيقه مبدإ "تداول الثروة" الذي يجسِّد "العدالة"، وليس مع "الليبرالية الاقتصادية" الأوربية المنشأن التي لا تجسِّد في واقع الأمر سوى "غياب العدالة".
فما يهم في "السلطة" لأجل تجسيد تداولها هو "الحرية"، وما يهم في "الثروة" لأجل تداولها هو "العدالة" وليس "الحرية"، وبالتالي فقد أوقعت "الليبرالية الأوربية" الأوربيين والعالم من ورائهم في أكبر تضليل، عندما ربطت "الديمقراطية/حكم الشعب" التي هي تجسيد للحرية، بـ "الليبرالية الاقتصادية" التي هي تجسيد للاَّعدالة، فاضطرت للتقليص من مستويات الحرية في "ديمقراطيتها الليبرالية" كي تحافظَ على مستويات اللاعدالة في "ليبراليتها الاقتصادية".
وبما أن هذا المعنى الأوربي لا يفصل في مفهوم "الليبرالية" التي سوَّقَها للعالم، بين بعده الاقتصادي القائم على المبادئ "السميثية" و"الميركانتيلية" التي تمثل الركيزة الأيديولوجية للرأسمالية واقتصاد السوق، وبعده السياسي المتعلق بمصدرية الشعب للسلطات، بموجب أن الحكم هو للشعب، فإن الديمقراطية والليبرالية وحكم الشعب ومبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، تؤول في سياقِ هكذا بناءٍ ثقافي، إلى معنىً لا يفصل أيا منها عن "الليبرالية الاقتصادية".
وهنا يكمن الخطأ الفلسفي الذي ضلَّل البشرية قرونا طويلة وما يزال، فجعلها لا تتمكن حتى الآن من اختيار ديمقراطيةٍ، تجعل الشعبِ مصدرا للسلطات، دون أن يقوم هذا الاختيار على واقعة أن "ليبراليته" – أي ليبرالية هذا الاختيار – تقتضي رفدَه بالليبرالية الاقتصادية، وإلا فإنه سيفقد قيمتَه وأهميته، ولن يعود اختيارا ديمقراطيا، ولا اختيارا يجعل الحكم للشعب على قاعدة أنه هو وحده مصدر السلطات.
أي أن الثقافة الإنسانية على مدى قرونٍ من ابتلاع هذا الطعم الفلسفي المُضَلِّل، لم تتمكن من أن تتصور "الديمقراطية" التي هي "حكم الشعب" كمجسِّد لقيمة "الحرية"، بمعزل عن "الليبرالية الاقتصادية" التي تمَّ اعتبارها هي المجسِّد الفعلي للحرية في الجانب الاقتصادي، دونما أيِّ اعتبار لمدى تجسُد قيمة "العدالة" في هذا الجانب المهم من الحياة المجتمعية.
بل إن الثقافة الأوربية ذاتَها، وهي التي بدأت تستشعر هذا الخلل الخطير في بُنية العلاقة بين قيمتي "الحرية" و"اعدالة"، على النحو الذي كرَّسَته "الليبرالية" بجناحيها "السياسي/السلطة" و"الاقتصادي/الثروة"، على مدى قرون، جنحت إلى انحرافٍ خطير آخر، وهي تبحث عن مخرج من هذا المأزق الفلسفي، لا يقل تضليلا عن ذلك الذي مارسته "الليبرالية"، عندما ظهرت "المادية الدياليكتية" و"شقيقتها "المادية التاريخية"، كمجسدتين للفكر الشيوعي، الذي نظر إلى "الحرية" باعتبارها نقيضا للعدالة، فأصَّل لهذه الأخيرة على حساب الأولى، بعد أن عجز عجزا مزريا عن تصور معنى للحرية وصيغة، لها غير تلك التي توارثها عبر "الليبرالية"، ما جعله يجنح إلى اعتبارها قيمة لا تحظى بالقداسة نفسها التي يجب أن تحظى بها قيمة "العدالة"، التي أضاعتها "الليبرالية"، فراح يبحث عن العدالة على أنقاض الحرية، فكانت "الشيوعية".
وبالتالي، فإن الثقافة الأوربية بجناحيها "الرأسمالي" و"الشيوعي"، سوَّقَت للعالم أخطر انحرافين فلسفيين عرفتهما البشرية، الأول هو ذلك الذي دمَّرَ قيمة "العدالة" بحجة قداسة وأولوية قيمة "الحرية"، التي يجب أن تمتد لتشمل "الثروة" بالشكل الذي تتطلبه وتقتضيه "الحرية في السلطة"، والثاني هو ذلك الذي دمَّر قيمة "الحرية" بحجة قداسة وأولوية قيمة "العدالة"، التي يجب أن تمتد لتشمل "السلطة" بالشكل الذي تتطلبه وتقتضيه "العدالة في الثروة". الانحراف الأول جسّدته "الليبرالية"، والانحراف الثاني جسَّدته "الشيوعية".
لذلك فإن من الحتمي في سياق تأصيلنا لمبدأ "تداول السلطة"، أن نعيدَ التذكير بما أكدنا عليه فيما مضى، وهو أن مبدأ "تداول السلطة" لا ينفصل عن مبدأ "تداول الثروة"، وأنه بدون أن تكون "الثروة" خاضعة لآلياتِ تحريكٍ في المجتمع تخوِّلُها أن تُتَداوَلَ، فإن "السلطة" ذاتَها ستبقى عصيَّة على التداول، إلا في حدودٍ شكلانية، لا تعكس حالة انتقالٍ جوهرية للسلطة، لا خلال الجيل نفسه، ولا عبر تعاقب الأجيال.
وهذا هو المأزق الفلسفي الذي تعاني منه "الليبرالية" ككل، بشقيها المتعلقين بـ "الحكم" وبـ "الاقتصاد"، من حيث أن ربط "ليبرالية الحكم" أو "الديمقراطية الليبرالية"، بـ "ليبرالية الاقتصاد" أو "الاقتصاد الحر"، ينسف جوهر كلٍّ من قيمتي "الحرية" و"العدالة" معا، لأن "ليبرالية الاقتصاد" تنشئ اقتصادا غير عادل. فكيف لاقتصاد غير عادل أن ينشئَ حرية حقيقية تقود إلى "تداول سلطة" حقيقي، مادام المبرر الفعلي لهذا التداول ألا وهو "تداول الثروة" غير متاح ولا متوفر، عبر عدم توفر العدالة ذاتها؟!
إن "الحرية" بفضائها الإنساني الواسع، لا تقوم إلا في قلب "العدالة" بفضائها الإنساني الواسع. وإن "العدالة" هي نموذج خاص من نماذج "إدارة الاقتصاد"، يتخلَّقُ في قلب نموذجٍ خاص من نماذج "إدارة الحكم".
إن نموذج "إدارة الاقتصاد" الذي يؤدي إلى التأسيس للحرية بفضائها الإنساني الواسع، لا يمكنه أن يكون نموذج "الاقتصاد الليبرالي/الحر/السوق"، لأن هذا الأخير ليس نموذجا يؤسِّس لعدالةٍ من تلك التي تتيح الفرصة للحرية كي تولدَ وتنمو وتترعرع بشكل طبيعي باتجاه فضاءاتها الإنسانية الواسعة، متمثلة في ترسيخ مبدأ "تداول السلطة".
وبالتالي فالحرية التي نراها في المجتمعات التي يسودها "النموذج الاقتصادي الليبرالي" في "إدارة الثروة" وفي "إدارة الاقتصاد"، هي حرية مزيفة ومجتزأة ومضلِّلَة، لأنها غير ناتجة عن "عدالة"، وحيث "لا عدالة" حقيقية وفق ما يقرِّرُه العقل، فـ "لا حرية" حقيقية وفق ما يقرره العقل.
إن كل من حاول أو يحاول الفصل بين قيمتي "الحرية" و"العدالة"، بشكلٍ يجعل من الأولى "ثابتا"، ومن الثانية "وجهة نظر" أو العكس، يَضِلُّ السبيل، لأنه سيضطر لأن يعطيَ صورة عن "الحرية" التي اعتبرها ثابتا، تتعارض مع صورتها الحقيقية التي يتصورها العقل الإنساني في فضاءاتها الواسعة، لأن الصورة الحقيقية للحرية التي يمكن اعتبارها ثابتا هي تلك الصورة التي تتخلَّق إلى جوار صورة للعدالة تتَّخِذُ صفة الثبات هي أيضا.
"الحرية" و"العدالة" كلاهما ثابت، ولا قيام لأيٍّ منهما إلا إلى جوار الأخرى ومعها وبها. ولسنا مضطرين لأن نضحي بإحداهما كي نحصل على الأخرى، لأن قيام إحداهما بدون الأخرى غير ممكن، وغير حقيقي، وهو مجرد تضليل وتزييف لمنظومات "القِيَم".
ومن هنا يجيء تأكيدنا على عدم إمكانية إقامة "حكم شعب" حقيقي، أي "ديمقراطية حقيقية"، في مجتمع تسوده "الليبرالية الاقتصادية" الطاردة للحرية بطبيعتها، وعلى عدم إمكانية إقامة نموذج "إدارة للثروة" يؤدي إلى تداولها وترسيخ العدالة بفضائها الإنساني الواسع، في مجتمع تسوده "الديمقراطية الليبرالية" الطاردة للعدالة بطبيعتها.
كل واحدة من الليبراليتين "الديمقراطية" و"الاقتصادية"، تدعم الأخرى وتسندها في تحقيق مضمونها وفي تجسيد حيثياتها المناوئة لقيمتي "الحرية" و"العدالة".
فـ "الديمقراطية الليبرالية"، بحكم الشعب المجتزإ فيها، والناتج عن "حرية" مجتزأة أصلا، تساعد "الاقتصاد الليبرالي" على التماسك، وعلى الحفاظ على نفسه، في وجه أيِّ مشاريع حقيقية لـ "تداول الثروة"، أي لـ "العدالة" بفضاءاتها الإنسانية الواسعة، مادامت هذه "العدالة" لا تقوم إلا في بيئة حريةٍ حقيقية وغير مجتزأة.
و"الاقتصاد الليبرالي" من جهته، بفراغِه المفزِع من "العدالة"، يساعد "الديمقراطية الليبرالية" على التماسك، وعلى الحفاظ على نفسها، في وجه أيِّ مشاريع حقيقية لـ "تداول السلطة"، أي لـ "الحرية" بفضاءاتها الإنسانية الواسعة، مادامت هذه "الحرية" لا تقوم ولا تنشأ في الأصل إلا في بيئة عدالةٍ حقيقية وغير مزيَّفة.
لذلك ما فتئت "الرأسمالية" المجسِّدة لـ "الاقتصاد الليبرالي" تجدِّدُ نفسَها وتنجح في ذلك عبر أداتها السُّلْطَوية التي هي "الديمقراطية الليبرالية"، رغم كل الأزمات التي تمر بها من حين لآخر، باعتبارها أزماتٍ مستوطنة فيها لا تنفك عنها، بموجب بُنْيَتِها الفلسفية.
وإذا كنا في مقالات سابقة، عندما تحدثنا عن مبدإ "تداول الثروة"، أوضحنا العلاقة بينها وبين "تداول السلطة"، وحللنا مواطن الخلل في بينية الاقتصادين "الليبرالي"، و"الشيوعي" لجهة عجزهما عن خلق آليات حقيقية لتداول الثروة، لأن أحدهما وهو "الليبرالي" أقام صرحه على "حريةٍ مجتزأة"، فتمكن من العبور من خلالها إلى نسف مبدإ "تداول الثروة" برمته، فيما أقام الثاني وهو "الشيوعي" صرحَه على "عدالةٍ مجتزأة"، فتمكن من العبور من خلالها إلى نسف مبدإ "تداول السلطة" من أساساته، لنكتشف في نهاية الأمر أننا أمام ثقافات وفلسفات أوربية فشلت في التأسيس للحرية وللعدالة معا في أيٍّ من فلسفاتها، بعد أن فشلت في العثور على مواطن العلاقة الوجودية والعضوية والتكاملية بين هاتين القيمتين.
نقول.. إذا كنا قد تحدثنا عن ذلك في مقالات سابقة، ملحقين إياه بحديثٍ مسهبٍ حول الآليات التي يمكنها أن تؤسِّس لـ "إدارة ثروةٍ" مجتمعية تحقق التداولين معا، وهما "تداول الثروة" و"تداول السلطة"، بصرف النظر عن حجم ومستوى تأثير كل من التداولين في إنجاز الآخر من حيث المبدأ، فإننا سنقوم تاليا بعرض حزمة من الآليات في مجال "إدارة السلطة"، نرى أن بإمكانها إسناد ودعم الآليات السابقة المتعلقة بـ "إدارة الثروة"، للدفع باتجاه تفعيل مستويات التأسيس لمبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة".
أي أننا إذا كنا قد طرحنا سابقا حُزَما من آليات "إدارة الثروة" لدعم مبدإ "تداول الثروة"، وبالتالي لدعم "تداول السلطة" في المحصلة النهائية، بحكم الارتباط الحتمي بين التداولين، فإننا سنقوم تاليا بطرح حُزَمٍ من آليات "إدارة السلطة" لدعم "تداول السلطة"، وبالتالي لدعم "تداول الثروة" في المحصلة بحكم الارتباط الحتمي المشار إليه ذاته.
لأننا وبالطريقة نفسِها التي أكدنا فيها سابقا على أن "الديمقراطية الليبرالية" و"الاقتصاد الليبرالي"، يسند كلٌّ منهما الآخر، للإبقاء على مستويات "الحرية" و"العدالة" محصورة ضمن دوائر ما يساعد على بقاء هيمنة "اقتصاد السوق"، سوف نؤكد هنا أيضا على أن آليات "تداول الثروة" التي سبق وأن عرضناها، وآليات "تداول السلطة" التي سوف نعرضها لاحقا، تسند كلٌّ منهما الآخرى للدفع باتجاه مستويات متقدمة من "الحرية" و"العدالة"، قادرة على ملامسة أوسع فضاءات إنسانية لهاتين القيمتين.