( للطواغيت فقط )
غضبة الربّ ونقمته ... من الذين يجترئون على الشعب وحرمته !
من أنعم النظر ، في متقلّبات أحوال البشر ، سواء في ذلك منهم مَن غبَر ، أو مَن جاء بعدهم فحذا حذوهم على الإثر والأثر ، فسيجد أن مجريات التاريخ لا تسير خبط عشواء ، بل ثَمّ نواميس وسنن وقدَر ! قدَرٌ الهيّ محكم ، وأمرٌ ربانيّ مُبرَم ، ليس فيه من تبديل ولا تحويل { فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا } ( فاطر43 ) وسنته ســـبحانه هي (عادته في خلقه ) ؛ فكما أن لله في خلقه مفاتيحَ هداية ، من استفتح بها رشد واهتدى ، فقد شاءت أقداره سبحانه أن يكون هناك مفاتيحُ غواية ، من استفتح بها غشيته الشّقوة وطواه الردى !
والشواهد التاريخية على ذلك شاخصة ماثلة :
إقرأ التاريخ إذ فيه العبر ................ ضلّ قومٌ ليس يدرون الخبر
وسواء في ذلك القرون التي اندرست وغبَرت ، أم أيامنا هذه التي تبدّت فيها هذه السنن وسطعت ، فرآها الجميع رأيَ العين ! لتقرّ بها أعين أناس ، وعساه يرتدع بها وينزجر مَن أبى إلا أن يصبّ على الشعوب المستضعفة السطوة والبأس ! كفرعون الذي هو رمز لكل طاغوت ، وعبرة ماثلة لكل من اغتر بما حباه الله من ملك وجبروت ؛ فقد سام فرعون شعبه سوء العذاب { وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } (البقرة 49) فلمّا سام بالعذاب شعبَه أغضب بذا ربّه ، لأن الرب عز شأنه يغضب من الذي يجترئ على خلقه ، فالخلق كلهم عيال الله تعالى ، ولا أحد أغير من غيرة الله تعالى على خلقه ، لذا فمن اجترأ عليهم واستباح حرماتهم ، واستكبر في الأرض بغير الحق يكون قد فتح على نفسه أبواب سنة ربانية جارية ، من شأنها إذا حلّت بساح الطواغيت أن تجرفهم إلى الهاوية ، هاوية تعيها أذن واعية ، وتشفي صدور قلوب مكلومة، التي طالما رزحت تحت نير الضنك والشقاء ، الذي جرّه عليها أمثالُ أولئك وهؤلاء ؛ أولئك الطواغيت الذين ولّى عهدهم وانقضى ، وهؤلاء الذين ضاق ذرعاً بجرائمهم الفضا ، وليس لهم إلا أن يرتقبوا نواميس الإله ومجريات القضاء ، فقد حلّت على أشياعهم من العزيز المقتدر نقمته ، تماماً كما حصل مع فرعون وآله { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعيين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } (الزخرف 56) فقوله ( آسفونا ) أي : أغضبونا باستطالتهم على شعوبهم ! وتنكّبهم عن صراط ربهم ، (انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) فجعلهم الله تعالى ( سلفاً) أي سالفين لمثل من عمل بعملهم ، ومتقدّمين ليتعظ بهم الآخرون ، لكل من يهلك منهم هلاك غضب ، وذا يُفصح عن سنةٍ لله حق ! (ومثلاُ) أي : عظة شاخصة ماثلة رادعة ً لمن سوّلت له نفسُه أن يجترئ على الخلق ! فإن عملوا مثلَ عملهم أصابهم مثلُ ما أصاب أسلافهم ! وغدت هذه العظة تسير بين الأجيال مسير الأمثال ، فيقال : مَثلكم مَثَلُ فرعون ؛ الذي ضلّ به قوم وأضلّوا ، وحلّوا لمن داناهم عُرى الدين فزلّـوا ! وتسلّطوا على رقاب العباد فألحق الله بهم النكال ، فخُضدت شوكتهم وذلّوا !
في ضوء ذلك : فمن عميت عليه هذه الأنباء ، فاعلم أنه قد حلّ به الداء ؛ داء استعجال العذاب واستجراره على نفسه ، إنه الداء الذي لا بُرء منه إلا أن تحلّ بساحته عدالة السماء ، تماماً كما قال تعالى :{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات } (الرعد6) والمثلات جمع مَثُلَة ، والمثلة : العقوبة ، لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة ! فتلكم المثلات تبيّن أن الجزاءات على ظلم الشعوب واقعات ، واقعات لا محالة ، فلا يُغضّ فيها الطرف عن حالة دون حالة ، فالسنن الربانية من سمتها المحاكاة لا المحاباة ؛ بمعنى : يُلحق فيها مصير الشبيه بشبيهه ، ولا يُحابَى ليصيرَ في حِلّ ومأمنٍ من أن تحلّ به عاقبة نظيره ! فسيُفعل بهم كما فعل بأشياعهم من قبل ، فليس في ذلك من شكّ ولا ريب!
وأستحضر في هذا السياق هذه القصة المقتضبة : ( خيّر أحدُ الطغاة أحدَ المصلحين قائلاً له بلسان الوعيد المشوب بالاستهزاء والاستفزاز : إختر لنفسك الميتة التي تحبّ أن تموت بها !! فقال له ذلك المصلح بلهجة اليقين ولسان الاعتزاز : بل اخترها أنت لنفسك فما أخذتني بميتة إلا أخذك الله بمثلها )
أجل : فمن سَحَلَ الشعبَ سيأتي اليوم الذي فيه يُسحل ، ومن نكّل بهم فبطش وقتل ، سيأتي اليوم الذي ينكّل فيه ويقتل ! وأيّما طاغية فاته في دنياه شيء من هذا النكال ، فإلى العزيز الجبار المصيرُ والمآل ، مع استحضار هذين الوعيدين بحق الطغاة :{ ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم } (المائدة33) فمصيرهم المحتوم سيخزيهم في حياتهم الدنيوية ! وأما في أخراهم فأمرهم مُفوّض إلى مقام الربوبية !
وإذا كان ذلك كذلك ، فإننا نقول بلسان اليقين لكل شعبٍ رازحٍ تحت نير كلّ جبار عنيد نقول له : { فارتقبهم واصطبر } ( القمر27 ) .