يحظى موضوع الموروث الشعبي بكثير من الجدل حول علاقته بكل أشكال الطباع البشرية وسلوكها , وموقفنا منه كتراث تواتر إلينا من السلف من جهة , ومن جهة أخرى بما له علاقة بحياة الشعوب , وخبراتها وتجاربها على مر العصور . فهي متغيرة تغير الأزمان والحاجات , ولكنها بحاجة إلى نظرة موضوعية توظفها ضمن إطارها الصحيح والمرغوب .
وشكلت الأمثال والحكم ركن مهم من أركان الموروث الشعبي لأي أمة على وجه البسيطة , بل أكثر من ذلك نجد في بعض القراءات عوامل مشتركة بين ثقافات وشعوب متعددة ومختلفة , على الرغم من اختلاف بيئتها , وواقعها الجغرافي , وتجاربها الخاصة , ذلك لأنها تعبر عن معان إنسانية , تقترن بوجود الإنسان بشكل عام .
فالمثل العربي القائل " الاتحاد قوة " نجد له مشابهاً في الثقافة الأنجلوساكسونية يقول " Union is strength ".
من هنا يأتي القول , بأن قدراً كبيراً من الأمثال والحكم المتداولة هي ملك للإنسانية جمعاء , وهي مشتركة بين شعوب كثيرة على الرغم من اختلاف صورها وأنماطها , ومع ذلك فإن معناها متشابه . وتضع بعض الكتب فارقاً بين المثل والحكمة , فتخصص " المثل " بما له مورد ومضرب , أي له حادثة واقعية قيل فيها , ثم صار صالحاً لأن يضرب فيما يشبه هذا الأصل وينطبق عليه مثل
- " سبق السيف العذل " ......... ضبة بن آد .
- " عند جهينة الخبر اليقين " ......... الأخنس بن كعب .
- " لأمر ما جدع قصير أنفه " ......... الزباء .
أما الحكمة فهي القول الذي يطلقه صاحبه من واقع حصاد خبراته وتجاربه , ولكن بعض الكتاب يغلب لفظ المثل فيطلقه على الحكمة أيضاً
- " مقتل الرجل بين فكيه " ...... أكثم بن صيفي .
- " آفة العلم النسيان " ...... النسابة البكري .
- " أرسل حكيماً ولا توصه " ..... لقمان الحكيم .
والمثل بشكل عام أشد توضيحاً في إبراز المعنى وتبسيطه من التعبير عن هذا المعنى نفسه بعبارة عادية , لأنه يصور المعنى صورة حسية بعيدة عن التجريد , والمحسوس يكون أيسر فهماً , لأنه يدخل الحواس , فيتلقاه الذهن ماثلاً مجسماً , وهو – المثل – يعتمد على التشبيه أو الاستعارة أو الكتابة من وسائل البيان . لذلك يلجأ المعلمون إلى المثل أو الأمثال في تبليغ ما يريدون إبلاغه إلى من دونهم فهماً, وقد سلك الفيلسوف بيدبا في كليلة ودمنة هذا المسلك مع دبشليم الملك , وفي القرآن الكريم " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما , بعوضة فما فوقها " وتذكر, الأناجيل – وهي تروي قصة السيد المسيح عليه السلام مع حوارييه – أنه " كان يكلمهم بأمثال , وبغير أمثال لم يكن يكلمهم " .
ولكل مثل في الغالب قصة , واقعية أو خيالية , بحسب الحادثة المفترض أنه جرى فيها , وتمتاز الأمثال العربية أن الكتب التي تعنى بجمعها , حين تذكر المثل تذكر معه قصته – أو قصصه – الواقعية ( مجمع الأمثال : ابن عبد ربه الأندلسي ) أو تتخيل له قصة ملائمة , وأما كتب الأمثال في اللغات الأخرى فالغالب أنها تورد المثل مجرداً .
وقد لا تكون للمثل قصة كقولهم
- " أكرم من حاتم "
- " أظلم من الحجاج "
- " أخف من فراشة "
- " أثقل من جبل "
فالمثل الأول يعلمنا أن حاتم كان كريماً , والمثل الثاني يعلمنا أن الحجاج كان ظالماً ......
إن الأمثال والحكم قد تكون إنسانية عامة أو قومية وطنية خاصة ... فمن العامة المثل الروسي " إذا لم يكن مفر من الغرق , فالبحر اللجي خير من البركة الآسنة " وآخر " من الحياة نخاف , لا من الموت " وآخر إسباني " عهود الحب كنذور البحارة ما أن تهدأ العاصفة حتى ينسوها " . ومن الأمثال القومية الوطنية , المثل الفرنسي " ما أسعد الفرنسي بغراب " وهذا يعود إلى أن جنود نابليون بعد خيبتهم في غزو روسيا وندرة الزاد , كانوا يصطادون الغربان .
وفي تراثنا العربي كثير من كتب الأمثال والحكم , وقد ألفت فيها كتب خاصة ( مجمع الأمثال ) ..... أو قد تندرج في باب من الأبواب ( العقد الفريد ) لمؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي . ويقول العرب أن مواصفات المثل الجيد , هي في الإيجاز وإصابة المعنى وحسن التشبيه , وقد عنوا على مر العصور بجمع الأمثال وتصنيفها , إلا أن الدراسات التحليلية الاجتماعية لهذه الأمثال قليلة ونادرة . وبما أن الأمثال ينعكس من خلالها شعور الشعوب وتفكيرها وتقاليدها وعاداتها وخبراتها , وتعبر عن الأنماط الاجتماعية التي تنطقها , لذلك فقد أصبحت – الأمثال – أحد المصادر المناسبة والمهمة لمعرفة سلوكيات ونفسية أي شعب وتطوره الفكري والحضاري . لكن بالرغم من هذه الأهمية التي يعول عليها بالنسبة للأمثال والحكم , إلا أن ما يجب الدعوة إليه , هو النظر بمنظار النقد والغربلة لسلبياتها وشوائبها.
فإذا أردنا أن نقف موقف الدارس والناقد الحيادي لما وصلنا من أمثال وحكم من قبل السلف , فلا بد لنا من التدقيق والـتأمل في القيمة الحضارية لبعض أمثالنا وحكمنا , ولا يضيرنا أن نضيف الشعبي والمستحدث منها إلى الفصيح والموروث . فالأمثال مثل " خالف تعرف " وغيره , تنطوي على موقف ضمني معارض للتجديد والابتكار . وكل من يأتي بجديد لا يؤخذ بالجدية الكاملة في حد ذاته , والنظرة إليه تكون نظرة استخفاف لا غير .
وأمثلة كثيرة يمكن الوقوف عندها طويلاً , وهي إن شكلت خبرة ما في مكان وزمن محددين , فإنه يجب أن لا نأخذها على علاتها وبصورة ملزمة ومطلقة مثل قولنا
- " اتق شر من أحسنت إليه "
- " أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة "
- " أخر الطب الكي "
- " إن شفت الأعمى طبه مالك أكرم من ربه "
فلا يمكن في عصرنا هذا أن نقبل التحريض ضد الإحسان بسبب أن أحدا في ظروف معينة أساء لمن قد أحسن إليه , كذلك لا يمكن أن يكون التقدم في السن وحده عاملا أساسيا من عوامل التقدم في العلوم والمعرفة , وأن آخر الدواء الكي في الوقت الذي تقدمت فيه علوم الطب . وإذا كانت تلك الأمثال وغيرها تضرب في بعض الأحيان لأجل معناها الضمني , فإنه مهما اختلفت صيغتها , تعبر تعبيراً واضحاً عن مواقف اجتماعية وفكرية , يجب إعادة النظر فيها من جديد .
يقودنا كل ذلك إلى القول بأنه ليس كل ما قاله أجدادنا في العصور السابقة – حتى لو كان وفق خبرتهم الحقيقية – يصلح حتماً لزماننا هذا , أو أنه يخدم حياتنا الحاضرة , وهذا الأمر ليس بجديد , فالموقف من النقل انتقده الكثير باعتبار أن الحفاظ على الموروث يطيح بالتفكير المعاصر , ولكن النقد وإعادة النظر في أمثالنا السائدة هو أمر لم يتطرق إليه الباحثون كثيراً , ويتعامل معها معظمهم بتسليم مطلق دون التفكير بمحتواها , أو إخضاعها لمحك التجربة , طالما أنها موروث يجب الحفاظ عليه كما هو.
ضمن هذا الإطار لابد من إيجاد وعي جديد يعترف بأن التغيرات التقنية والاجتماعية تفرض التغيير حتى في أمثالنا وحكمنا , فهي ليست ثابتة ولا يجوز أن ننظر إليها كذلك , صحيح أن بعضها يمكن قبوله اليوم , لا لأنه حكمة قديمة ومثل سائر , ولكن لأنه مازال ينطبق على الخبرة الإنسانية اليوم , ويمكن أن يتواءم مع مجريات الحياة والواقع كقولنا مثلاً
- " رب أخ لك لم تلده أمك " ....... لقمان بن عاد
- " رضا الناس غاية لا تدرك "........ أكثم بن صيفي
- " حديث ذو شجون " ....... ضبة بن آد
أما بعضها الآخر الذي لا يتناسب مع حقائق العصر فلا بد من إعادة النظر فيه .
تجربة خلاص الأمم من الموروث الجامد المعطل للتغيير , تنبئنا أن هذا الخلاص يبدأ بخطوة أولية مهمة , هي نقد الموروث وبيان سلبياته , والاعتراف بأن بعض هذا الموروث مثل ( الحكم والأمثال ) لم تعد تلائم عالمنا اليوم . فمع التقدم المطرد وتزايد الوعي , وإدراك حقائق علمية واجتماعية كثيرة , فإننا نحس بارتباك وتقصير فيما لو حبسنا تجربتنا في إطار تجارب الآخرين وخبراتهم الخاصة في زمان وظروف خاصة بهم , ومن خلال أعمال النقد وإخضاع الحكم والأمثال للوقائع الآنية فإننا لا نفتأ نكتشف فداحة الخطأ الذي نقع فيه " عندما نؤسس أحكامنا في قضايا كثيرة على خبرة الآخرين , أو على حكم وأمثال موروثة منقولة من الماضي , وإغفال الخطأ في هذا الموروث يورث أخطاء أخرى للأبناء أيضاً , مما يراكم ويزيد من الأخطاء التي قد تعطل مسيرة الأحفاد وتدخلهم في نطاق المقلدين بدلا من أن يكونوا مبتكرين" .
إن الحالة التي نعيشها الآن هي حالة صراع بين أخذ ورد بين الحفاظ على الموروث كما هو , وبين التخلص منه, ولكن الحالة المثلى هي تلك التي تحتم علينا نقد الموروث بكل أركانه , وتحديد سطوته علينا . وقد يرى البعض أن العودة إلى الماضي والتشبث به تعني جزئياً هروباً سهلا ومريحاً من مواجهة الحاضر والمستقبل , وبمعنى آخر التوجه إلى بساطة الثقافة هروباً من مواجهة تعقيد الثقافة المعاصرة , لذلك يبدو لنا أن التشبث بتجارب الماضي المحدودة في طبيعتها هو في حقيقة الأمر حركة تقليص واسترخاء تريد تجميد حدود التجارب الإنسانية, ولكن الحقيقة الظاهرة للعيان أن التجربة الإنسانية تتسع كل يوم , بل كل دقيقة .
ويكمن الخط الفاصل بين الفهم لإحياء الموروث وبين تجاوزه في فهمنا الواضح بأن لب القضية لا يقوم على إحياء تجارب السابقين كي نقلدهم , بل يقوم على الاستفادة من تجاربهم حتى نبدع واقعنا وحياتنا كما صاغوا هم تجاربهم وحياتهم حسب واقعهم .
إن دراسة الأمثال - بجانب كونها مصدراً مهماً لدراسة الحياة الثقافية والحضارية للأمة – مصدر آخر لدراسة تطور اللغة وانتقال دلالات الألفاظ , فبعض الألفاظ والجمل اليوم تعني شيئاً محدداً ولكنها في الماضي كانت تعني شيئاً آخر , فمثلا القول " هلم جراً " الذي قاله أول مرة المستطعم عمرو بن حمدان الجعدي , كانت تعني أن تترك الإبل والغنم ترعى في سيرها , والمقصد منه " أن تعالوا على هينتكم كما يسهل عليكم " ولكن في يومنا الحاضر لا يمكن أن يكون الموعد على هذه الشاكلة , ويوصف بمن يأت في أي وقت بأنه لا يحترم الموعد .
لقد كثرت في لغتنا العربية الأمثال التي تذم الشماتة , والبخل , والخيانة وغير ذلك من الصفات السلبية ... كقولهم مثلاً
- " الشماتة لؤم " .......... أكثم بن صيفي
- " أبخل من مادر " .......... لا يعرف قائل له
- " أكلتم تمري وعصيتم أمري" ..... عبد الله بن الزبير
كما كثرت الأمثال التي تمجد عفة النفس , المروءة , الكرامة وغير ذلك من الصفات الإيجابية .
- " إن حالت القوس فسهمي صائب " .... لا يعرف قائل له
- " المنية ولا الدنية " ................. أوس بن حارث
- " تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها " ........ الحارث بن سليل الأسدي
ونجد أيضاً أن هناك أمثالاً تأخذ مساراً عكسياً , فتذم القيم الإيجابية وتعظم القيم السلبية مثل
- " الكذب ملح الرجال "
- " العين لا تقاوم المخرز "
- " زوج من عود خير من قعود"
وقد كان ذلك مدخلاً لبعض المستشرقين للطعن في الحضارة العربية . كما أن المرأة نالها نصيب لا بأس به في الحط من شأنها من خلال الكثير من الأمثال العربية كقولهم
- " النساء حبائل الشيطان " .......... ابن مسعود
- " طاعة النساء ندامة " ................ لا يعرف قائل له
- " أجهل من إمرأة " .............. لا يعرف قائل له
ويأخذ البعض كل ذلك كأنه أمر مسلم به على دونية وضع المرأة عند العرب . وإذا عدنا إلى السير الشعبية نرى الكثير من تلك الإشارات , ففي سيرة بني هلال نجد المقطع " يقول الزيناتي يا سعد من خلف ذكورا ويا نحس من خلف بناتي " وما ذلك إلا دليل تجني على قيمة المرأة وفكرها , على مر العصور
إن الأمثال تفضح أسراراً كثيرة عن عقلية الشعوب ومجريات حياتها , وتسجل حكمتها واعتزازها بنفسها من جهة , وسلبياتها واستسلامها من جهة أخرى . وبما أنها نابعة ومعبرة عن مجموعة عريضة من الناس , فإنها أقرب إلى التعبير عن المجتمع بكل أفراده على اختلاف طبقاتهم ونزعاتهم في وقت من الأوقات الغابرة , وربما يكون إتقان العامة للفظها والدأب على حفظها دليلاً عل سهولة تناقلها , وسهولة التعبير عن بيان الموقف الناتج عن المرور في حالة معينة من قبل طارح المثل .