ثقافة النكد في الوطن العربي
قد يخرج المرء من بيته مُبتهجاً فإذا بأخيه أو بصديقه أو بجاره يقابله، يقص عليه مشاكله وأمراضه وأوجاعه، يحيل بهجته إلى شقاء ونكد. وقد يُقبل المرء على أخيه أو صديقه أو جاره يُبلغه خبراً سعيداً في حياته فإذا بهذا الشخص يقلب الخبر رأساً على عقب ويُكسبه طابعا مأساويا ينقله من جانبه المُبهج إلى جانبه المُكئب. وقد يعود الزوج إلى زوجته سعيداً بلقائها ولقاء أطفاله، فإذا به يجد زوجة نكدة تحيل حياته وحياتها وحياة أطفالهما إلى شقاء وجحيم. وقد يعود زوج آخر كئيب إلى زوجته التي تنتظره في سعادة وبهاء، فإذا به عبوساً شقياً لا يُظهر سوى وجه كالح، وشكوى مستمرة، وتذمر دائم.
انتشرت هذه الممارسات النكدة بين ربوع أوطاننا العربية، ولا تقف المسألة هنا عند هذا الحد، بل تتعداها إلى اللقاءات اليومية العابرة. فزملاء العمل يتقابلون بدون سلام ولا كلام، لا يتحدثون ولا يتحاورون، ويتوجسون في بعضهم البعض. في المصاعد وعلى درجات السلم، لا يبتسم الناس لبعضهم البعض، إما رغبة في الحيدة والعزلة والإنقطاع عن الآخرين، وإما تعاليا على المحيطين، ورغبة مريضة في التمايز عنهم. ولعل ذلك يفسر طبيعة مناخات العمل العدائية المصحوبة بكم هائل من الشقاق والكراهية وترصد الآخرين. ففي ظل هذه الأجواء النكدة والمتربصة يصعب أن يتواصل العمل بشكلٍ سلس وبسيط، حيث تُحاك المؤامرات، وتُنسج الشباك، وتتحول قواعد العمل المتعارف عليها إلى قواعد سرية تتم من أجل البعض ولصالح البعض على حساب البعض الآخر.
لماذ يُصدِّر الكثيرون في تعاملاتهم اليومية هذا الوجه النكد، وهذه الكآبة المتواصلة؟ ولماذا اختفت الإبتسامة والإنشراح في حياتنا اليومية؟ هل تلعب الظروف الإقتصادية الضاغطة دوراً في هذا النكد القومي العام؟ وهل تلعب الأوضاع الاجتماعية المتردية في عالمنا العربي دوراً ضاغطاً آخر نحو المزيد من النكد والعبوس؟ وهل للبهجة والإبتسامة علاقة أساساً بالإقتصاد والسياسة، وكل هذه الجوانب المجتمعية الكبيرة والمتسعة؟ وهل محكوم على العالم العربي أن يواجه أدران السياسة والإقتصاد من جانب وثقافة النكد والإكتئاب المستشرية من جانب آخر؟
الواقع أن ثقافة النكد لا تنفصل بدرجة أو بأخرى عن السياق العام المحيط، فالمشكلات العديدة التي يواجهها المواطن العربي تؤدي لا محالة إلى المعايشة اليومية لهذه المشاكل التي تبدأ من البحث عن لقمة العيش إلى تعليم الأبناء ومشاكل البحث عن سكن..إلخ لكن الملاحظ أن توافر الثروة أيضاً لا يخلق البهجة والسعادة، وينحي جانباً ثقافة النكد. فالثروة لا تُطلق التلقائية والعفوية في التعامل مع الآخرين، كما لا تدفع الشفاة للإبتسام في وجوههم؛ فكما للندرة ثقافة النكد الخاصة بها، للثروة أيضاً ثقافة النكد الخاصة بها.
إننا في العالم العربي، في ظل هذا التردي الإقتصادي والاجتماعي، أحوج ما نكون إلى الضحك والإبتسام وعفوية العلاقات وتلقائيتها. فإستشراء ثقافة النكد هذه تسبب الكثير من الأمراض التي أصبحت مستشرية هذه الأيام عبر ربوع أوطاننا العربية، كما تزيد الأوضاع ترديا وأهتراءً. كما أننا الآن أشد ما نكون إحتياجاً إلى مقاومة إهتراء الأوضاع عبر نشر البهجة والإبتسام والتلقائية والعفوية، بما يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة ظروف الواقع غير المواتية من جانب، وعلى مواجهة البنية الأبوية الإستبدادية من جانب آخر.
عن موقع ادلب الخضراء