الحوار الذكي
د. علي الحمادي
على الحمادي
عندما يحكِّم الإنسان العقل فإنه ينجو من مزالق كثيرة ويحقق مكاسب عديدة، أما عندما يُهمَّش العقل ويتحكم فيه الهوى فإن الدمار يلحق به عاجلاً أم آجلاً. وهذا العقل يحتاجه الإنسان، خاصة في الحوار وتسويق الأفكار النافعة المؤثرة.
يسطَّر لنا الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مثلاً فذاً في كيفية توصيل الأفكار وعرضها، وذلك في الحوار الذكي الراقي الذي دار بينه وبين النجاشي ملك الحبشة مع وفد قريش حينما جاؤوا ليؤلبوه عليهم.
أورد ابن هشام في سيرته (1-334 338) أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: عزَّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته.
وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يُطَرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، فقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً، فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟
قال جعفر بن أبي طالب وكان هو المتكلم عن المسلمين : أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال له النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه فخرجا.
وقال عمرو بن العاص لعبدالله بن أبي ربيعة: والله لآتينهم غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال له عبدالله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائناً ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا محمد {: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم "أي الآمنون بلسان الحبشة" بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً "أي الجبل بلسان الحبشة" من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم. ثم قال لحاشيته: ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حتى رد على ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
نعم، إنه الحوار الذكي المؤثر، لا حوار الطرشان والمجانين وخريجي مستشفيات الأمراض العصبية والنفسية، فهل نعقل ذلك؟ بإذن الله نعم.