بسم الله الرحمان الرحيم
أمنية جدي

رفض جدي أن يبيع حصانه ورفيقه الوفي في الحر والبرد، الذي اشتراه منذ زمن بعيد... بعد أن كبرت سنه... وأضناه طول التعب، وجر المحراث وشق الأرض، خدمة له ولضيعته.
كل الذين يعرفون جدي أشاروا عليه بضرورة التقاعد واعتزال العمل... وهو الذي كبرت سنه كذلك وخارت قواه. فالضيعة أضحى ترابها ملوثا بعد أن ردمت فيها القرية والعمادات المجاورة بقاياهم المنزلية، ومخلفات المصانع.. (هذا ماأكده خالي الذي يحمل شهادة عالية، ويعمل موظفا في وزارة التجهيز).
جدّي أصر على أن يستمر في العمل.. وتجاهل رأي الجميع.. دعا الله ألاّ يميته إلاّ وهو يعمل.. قال قولته الشهيرة التي ظلّت تطن في أذني إلى هذه الفترة: أنا ولدت وأمي تعمل داخل الضيعة.. وأتمنى أن أموت بها..
قال الذين عارضوه: ولكنك في سن تحتاج إلى الراحة!
فردّ كفيه إلى فمه ولم يتثاءب، بل أعلن لا راحة في الدنيا! أنا أكثركم شبابا وحيوية، ونفخ في قبضته وفركها، كبطل يريد المنازلة..
أرى جدي بجانب حصانه في بداية الضيعة الملاصق لجنوب القرية على بعد أمتار منا.. يعتني بمحراثه يدهنه.. يغير سكّته.. يدق مساميره الناتئة.. يعيد بعض رسوم محتها حرارة الشمس.. يمسح على عنق حصانه بحنو بالغ كصديق يلاطفه.. يمشط وبره.. يجامله ببعض أشعار يحفظها.. يشمر عن ساعديه.. يدعوني من بعيد لصحبته.. يوافق أبي على مضض.. يخلع جدي برنسه، ويلفه بهدوء ويدسه بين الحصان والسرج.. ثم يفك إسار حصانه الصارم.. فيرفع رأسه.. يغمز إلي بطرف عينه.. أثب أمامه مثل أرنب.. يغريني حين ينطلق على ظهر حصانه مغادرا.. أرفع يدي مودعا.. وهم جميعا واقفون على العتبة.. يجذب طرف الشكيمة ويضم إلى صدره طرف ذراعه الناعم في حنو بالغ.. ينطلق بعدها الحصان يشق وجه الهواء دون توقف.. يصل آخر الضيعة.. يناولني قطعة الخبز المحشوة بالتمر، يؤكد لي ويشير إلى أماكن يوجد تحت ترابها ثمار طلع الزهر والفقاع، ثم يريني آثار مرور الأرانب والسمان.. بعدها يتنهد.. يتمنى صيدها.. دعك منها فنحن لا نقوى على الجري ورائها.. أردد أمامه أن أبي سيشتري لي بندقية.. يقول في سخرية: "عام ينوّر الملح.." ثم يردفها: "منين ياوليدي؟ العبد وسيده على الحصير!.."
أحاول الفهم لكنه يتصنع الطرش، ويشير إلى قرص الشمس.. ويطلب مني أن أعد النجوم في وضح النهار والسماء صافية.. أدرك وقتها تمام سخريته!
لا أحد في القرية يعرف أسرار الأرض ومخابئ الأرانب والحجل مثل جدي ساسي.. يشير للجميع مواضعه، ويقول انصبوا فخاخكم!.. ويعرف مواقع النجوم، وزمن هبوب الرياح.. ويعرف الساعة دون أن تكون في معصمه.. ويردد على الدوام مواقيت الصلاة..
سرج الحصان من الجلد الأبيض السميك.. كتب في أعلاه لفظ الجلالة بخط يمينه.. يفخر بأنه تعلمها من دون أن يرسله أبوه إلى شيخ الكتاب.. الموكول إليه تحفيظ القرآن ومبادئ الحساب.. أشير عليه بأن يستعين بشاب ليخفف عنه الأعباء.. ويعينه على الزمان.. فينظر إلي متعجبا.. يفحص ذراعيه مليا.. يرفعهما معا ليوازي بهما كتفيه مزهوّا: "عندك عضلات زي هذه؟" ويقهقه فيملأ الكون من حولنا.. ويكمل "الإعانة للناس الآخرين!".
***
مات جدي على ظهر حصانه مثلما تمنى.. وصل الحصان إلى طرف القرية وحده.. كانت الشكيمة مربوطة بيمينه.. وكانت طيور الضيعة كلها تحوم حول الحصان.. تودع صاحبه وتحرسه.. مرشدة إياه اتجاه البيت ومسرب البيت، دون أن يضله غبار القبلي.. أو يعيقه شوك البساتين.. أو أعواد الغاب..
كان منكفئا على السرج.. كأنما يعض عليه بالنواجذ.. ولم يتحرك ليربط حصانه في العمود الذي غرزه في الأرض.. ولم يسقط مع وقوف الحصان..!