بعد التفجير الذي وقع في المدينة المنورة اليوم...
تأليف: د. الشيخ خليل إبراهيم ملا خاطر العزامي


لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إيذاء أهل المدينة بأى نوع من أنواع الإيذاء، لأن من آذاهم فإن الله تعالى يذيبه فى النار، كما يذوب الملح فى الماء، وكما يذوب الرصاص فى النار. وهذا تحذير شديد، وعقوبة أليمة لمن آذى أهل المدينة، والله تعالى أعلم .


ـ فعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يكيدُ أهلَ المدينة أحدٌ، إلا انماعَ كما يَنْماعُ الملحُ فى الماء". متفق عليه واللفظ للبخارى[1] .


ـ ولفظ مسلم "من أراد أهلَ المدينة بسوءٍ أذابه الله كما يذوب الملح فى الماء" .


ـ وفى لفظ عند مسلم[2] أيضاً، عنه رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يريدُ أحدٌ أهلَ المدينة بسوءٍ، إلا أذابه الله فى النار ذوبَ الرصاصِ أو ذوبَ الملحِ فى الماء" .


ـ وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من أراد أهل هذه البلدة بسوءٍ (يعنى المدينة) أذابه الله كما يذوبُ الملحُ فى الماء". رواه مسلم[3] .


ـ وعن أبى هريرة وسعد بن أبى وقاص رضى الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لأهل المدينة فى مُدِّهم ـ وساق الحديث،وفيه ـ مَنْ أراد أهلها بسوءٍ، أذابه الله كما يذوب الملحُ فى الماء". رواه مسلم[4] .


ـ وقد مر حديثُ عُمرَ بن الخطاب رضى الله عنه، والذى فيه ( .. ومن أرادها بسوءٍ أذابه الله، كما يذوبُ الملحُ فى الماء ). رواه البزار، وهو حسن بشواهده .


ـ وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفهم من دَهَمَهم ببَأس ـ يعنى أهل المدينة ـ ولا يريدُها أحدٌ بسوءٍ إلا أذابه الله كما يذوب الملح فى الماء". رواه البزار بسند حسن[5] .


ـ وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيّما جَبّارٍ أراد أهل المدينة بسوء، أذابه الله فى النار كما يذوبُ الملحُ فى الماء" الحديث، رواه الحُمَيْدى والجَنَدى، برجال الصحيح[6] .


ـ وفى رواية للجَنَدى[7]، عنه رضى الله عنه (من أخاف أهل المدينة أذابه الله عز وجل فى النار، كما يذوب الملح فى الماء). والحديث حسن.


ـ وعن زيد بن أسلم رحمه الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم من أراد المدينة بسوءٍ فأَذِبه كما يذوب الرصاص فى النار، وكما يذوب الملح فى الماء، وكما تذوب الإهالةُ فى الشمس" رواه عبد الرزاق[8] مرسلاً برجال الصحيح وشواهده ما سبق، فهو حسن أو صحيح. والله أعلم .


لقد اختلف فى هذه العقوبة الربانية لمن أراد السوء أو الكَيد أو الظلم بأهل المدينة، هل هى فى الدنيا أم فى الآخرة. لكن قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فى حديث سعد بن أبى وقاص ـ عند مسلم ـ وحديث أبى هريرة عند الحُمَيْدى (أذابه الله فى النار) يدل على أن العقوبة فى الآخرة. وإن كان تعجيلُ الهلاك فى الدنيا قائماً.


قال القاضى عياض[9] رحمه الله تعالى: هذه الزيادة ـ وهى قوله "أذابه الله فى النار" تدفع إشكال الأحاديث التى لم تذكر فيها هذه الزيادة، وتبيِّن أن هذا حكمُه فى الآخرة. وقد يكون المراد به: من أرادها فى حياة النبى صلى الله عليه وآله وسلم، كُفى المسلمون أمرَه، واضمحل كيدُه، كما يضمحل الرصاصُ فى النار .


قال: وقد يكون فى اللفظ تأخيرٌ وتقديمٌ أى أذابه الله ذوبَ الرصاص فى النار، ويكون ذلك لمن أرادها فى الدنيا، فلا يمهلُه الله، ولا يُمكَّن له سلطانٌ، بل يُذهبه عن قُرب كما انقضى شأنُ من حاربها أيام بنى أمية، مثل: مسلم بن عقبة، فإنه هلك فى منصرفه عنها، ثم هلك يزيدُ بن معاوية مرسِلُه على أثر ذلك، وغيرُهما ممن صنع صنيعَهما .


قال: وقيل: قد يكون المراد: من كادَها اغتيالاً، وطلباً لغرتها فى غفلة، فلا يتم له أمرُه بخلاف من أتى ذلك جهاراً، كأمراء استباحوها. اهـ.


وقوله: "من أراد أهل المدينة" المراد به: العزم. والعزم مؤاخذ به حتى لا يعارض مع قوله فى الحديث القدسى: "إذا هَمَّ عبدى بسيئة فلا تكتبوها.."[10] كما أفاده الأبى رحمه الله .


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم فى جميع الروايات السالفة: "من أراد أهل المدينة.." جاء عاماً فيشمل من كان بها وأراد أهلها بسوء، ومن كان خارجاً عنها بعيداً عنها، فدبَّر لأهل المدينة الكيد والسوء. والنص شامل لهذين ـ والله أعلم ـ وإن كنت لم أر من نبَّه على ذلك. لكن استدلال القاضى عياض بوفاة يزيد بن معاوية ـ وهو بعيد عنها ـ يشير إلى هذا. ولهذا يحذر المسلمون من الإساءة إلى المدينة وأهلها، سواء كانوا فى المدينة أو كانوا بعيدين عنها حتى لا تدركه العقوبة والله أعلم .


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فى جميع الروايات ـ "من أراد أهل المدينة.." يتعارض فى ظاهره مع عدم تسجيل الهَمَّ على الإنسان، لكن أقول: إن الهمَّ بالسوء خارج المدينة المنورة، وكذا خارج مكة لا يكتب على صاحبه سيئةً حتى يفعله، أما فى المدينة ومكة فإنه يكتب على صاحبه إذا صار عزماً، كما قال تعالى عن مكة {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } والنصوص هنا كلها جاءت "من أراد أهل المدينة.." وهذا مما تتفق فيه المدينة ومكة أو يقال: هذا خاص بإرادة السوء بأهل المدينة، وذاك عام فى المدينة وغيرها . لذا فليحذر المسلم من إيذاء أهل المدينة، وإرادة السوء بهم حتى لا تكتب عليه إرادته بالسوء، والله تعالى أعلم . وقوله: "أذابه الله كما يذوب الملح فى الماء" قال الإمام الطيبى رحمه الله: فيه معنى قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ }(فاطر:43)شبَّه أهل المدينة لوفور علمهم وصفاء قريحتهم بالماء، وشبَّه من يريدُ الكيدَ بهم بالملح، لأن نكاية كيدِهم لما كانت راجعةً إليهم: شُبهوا بالملح الذى يريد إفسادَ الماء، فيذهب هو بنفسه[11]. اهـ وقوله "من أراد أهل المدينة.." يحتمل: من كان بها فى زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، كما يحتمل من كان بعده صلى الله عليه وآله وسلم، لكن أن يكون على سنته واتباعه، وقوله "أذابه الله .." أى أهلكه بالكلية إهلاكاً مستأصلاً بحيث لم يبق من حقيقته شىء، لا دفعة بل بالتدريج، لكونه أشدّ إيلاماً، وأقوى تعذيباً، وأقطع عقوبة حيث مَثَّله بذوبان الملح فى الماء، والرصاص فى النار..[12]والله أعلم .



[1]ـ صحيح البخارى: كتاب فضائل المدينة: باب إثم من كاد أهل المدينة. وصحيح مسلم: كتاب الحج: باب من أراد أهل المدينة بسوء رقم (494) .


[2]ـ صحيح مسلم: كتاب الحج: باب فضل المدينة رقم (460) .


[3]ـ صحيح مسلم: كتاب الحج: باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله رقم 492 ـ 493 .


[4]ـ صحيح مسلم: كتاب الحج: باب من أراد أهل المدينة رقم (495) .


[5]ـ البحر الزخار (3 : 334 ـ 335) .


[6]ـ مسند الحميدى (2 : 492 رقم1167) .


[7]ـ فضائل المدينة (27 ـ 28) .


[8]ـ مصنف عبد الرزاق (9 : 264) .


[9]ـ شرح مسلم للنووى (9 : 137 ـ 138) .


[10]ـ لنظر: الأبى (3 : 460) .


[11]ـ انظر: السنوسى على مسلم (3 : 473) .


[12]ـ انظر: فيض القدير (6 : 50) .



تأليف: د. الشيخ خليل إبراهيم ملا خاطر العزامي