ابن هتانئ الأندلسي.
هو أبو القاسم محمد بن هانئ بن سعدون الأزدي الأندلسي من نسب المهلب بن أبي صفرة. كان أبوه يعيش في قرية المهدية بأفريقيا ثم هاجر إلى أشبيلية وهناك ولد ابن هانئ . كان أبوه شاعراً وأديباً، أخذ الشعر والأدب عن أبيه.
كان ابن هانئ الأندلسي شاعر الأندلس، بل قيل أنه أشعر شعرائها بدون منازع . يقول عنه ابن خلكان" لقد كان شاعراً أديباً، ليس في المغاربة من هو في طبقته لا من متقدميهم ولا من متأخريهم بل هو أشعرهم على ا لإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي، ولولا ما فيه (أي شعره) من الغلو في المدح المفضي إلى الكفر، لكان ديوانه من أحسن الدواوين ."
كان شديد التأثر بأبي الطيب المتنبي في شعره وترى قصائد مدحه قريبة من قصائد مدح المتنبي من حيث قوة العبارة وكثرة الألفاظ الصحراوية في شعره مع أنه عاش في الأندلس بلاد الطبيعة الخلابة ، فقد كان يعتني في شعره بالألفاظ المزدحمة بالقعقعة أكثر من عنايته بالمعنى فهو يحدو حدو المتنبي حتى أنه لـُقب بمتنبي الغرب مما جعل أبو العلاء المعري يقول عنه "وما أشبهه إلا برحى تطحن قروناً لأجل القعقعة التي في ألفاظه ."ويروى عن ابن خلكان" أبو العلا المعري لم ينصف ابن هانئ بهذا المقال الذي حمله تعصبه للمتنبي." وقال الفتح بن خاقان عن ابن هانئ" علق خطير، وروض أدب نضير، غاص في طلب الغريب، حتى أخرج درّه المكنون، وبهرج بافتنانه فيه كل الفنون، وله نظم تتمنى الثريا أن تتوج به وتقلد، ويود البدر أن يكتب فيه ما اخترع وولد ."
أُتهم بآرائه الفلسفية وبنزعته الشعرية بالإسماعلية التي لم تعهدها تلك البلاد، وكان له حظوة ومكانة عند صاحب إشبيلية، ولكي لا يُتهم صاحب إشبيلية أنه راضٍ عنه، أشار إليه أن يغيب عن إشبيلية وكان عمره حينذاك سبعة وعشرين سنة، فتوجه إلى الزاب عند جعفر ويحى ابني علي فأكرماه . ولما علم المعز أبي تميم معدَّ بن منصور الفاطمي بوجوده طلبه منهما ومكث عنده في المنصورة وهى تقع بالقرب من القيروان ومدحه بروائع من القصائد، كما مدح جوهر الصقلي، وأبا الفرج محمد بن عمر الشيباني.
ولما توجّه المعزّ إلى مصر بعد فتحها شيَّعه ابن هانئ ليلتحق به مع أهله، وفي طريقه إلى برقة أضافه أحد أعيان أهلها، وكان ابن هانئ ماجناً صاحب لهو وشراب، وقيل إنه خرج من السكن الذي هو فيه وهو سكران فصرعته الخمر في أحد شوارع البلدة فمات، وقيل عنه أن الذين أضافوه خنقوه ورموه في الشارع وعمره لم يتجاوز السادسة والثلاثين . ولما بلغ المعزّ خبر وفاته وهو بمصر حزن عليه كثيراً، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق، فلم يقدّر لنا ذلك .
نماذج من شعره
يا روضَ علمٍ ويا سَحابَ ندى
لا زِلتَ لا زِلتَ عيشَناً الرَّغَدا
يترى علينا ندى يديكَ كما
تدافعَ الموجُ جالَ فاطّردا
عوّضنا الله منْ سِواكَ ولا
عوّضَنا منكَ سيّدا أبدا
أيَّ هزبرٍ كانَ الهزبرُ لقد
غادرَ منكَ الضرغامة الأسدا
في وصفه للمطر:
الؤلؤٌ دمعُ هــذا الـغيث أم نــقـطُ ُ
ما كان أحسنه لـو كان ُيلـتقط ُ
أهـدى الـربيعُ الينا روضـةً أنــفاً
كما تنفس عن كافوره السفـط
غمـائمٌ في نـواحى الجـو عالقةٌ
حفلٌ تحدر منها وابـل ٌ ســبط
بين السحاب وبين الريح ملحمةٌ
معامعٌ وظبى في الجو تخترط
كأنه ساخطٌ يرضي على عجلٍ ٍ
فما يدومُ رضى منه ولا سخط
من شعره
قلْ للمليكِ ابنِ الملوكِ الصِّيدِ
قوْلاً يَسُدُّ عليه عَرْضَ البيدِ
لِهفي عليكَ أما ترِقُّ على العُلى
أم بينَ جناحتيكَ قلبُ حديد
ما حقُّ كفكَ أن تمدَّ لمبضعٍ
من بعد زعزعة ِ القنا الاملود
ما كان ذاك جزاؤها بمجالِهَا
بينَ النَّدى والطعنة ِ الاخدود
لو نابَ عنها فصدُ شيءٍ غيرها
لوقيتُ معصمها بحبل وريدي
أو فاسقنيهِ فإنّني أولى به
من أن يراقَ على ثرى ً وصعيد
ولئِنْ جرى من فضَّة ٍ في عسجدٍ
فبغيرِعلم الفاصدِ الرَّعديد
أجرى مباضعهُ على عاداتها
فجَرَتْ على نهجٍ من التّسديد
قد قلتُ لآسي حنانك عائداً
فلقَد قَرَعْتَ صَفاة كلِّ ودود
أوَ ما اتَّقَيْتَ الله في العضْوِ الذي
يَفديه أجمعُ مُهجة ِ الصِّنديد؟
أوما خشيتَ من الصّوارمِ حوله
تهتزُّ من حنقٍ عليكَ شديد
و لما اجترأتَ على مجسَّة كفِّه
إلاَّ وأنتَ من الكُماة الصيِّد
وعلامَ تفْصِدُ منَ جرى َ من كفِّه
في الجود مثلُ البحرِ عامَ مُدود؟
فبحسبه ممّا أرادوا بذلَهُ
في المجدِ نفسُ المتعَب المجهود
قالوا دواءٍ نبتغي فأجبتهمْ
ليسَ السَّقامُ لمثِلهِ بعَقِيد
لمَ لا يداوي نفسه من جودهِ
مَن كان يمكنُه دواءُ الجود؟
ما داؤهُ شيءٌ سوى السرفِ الذي
يمضي وماالإسرافُ بالمحمودِ
عشقَ السَّماحَ وذاكَ سيماه
ومايخفى دليلُ متيَّمٍ معمود
إنَّ السقيمَ زمانُهُ لا جسمُهُ
إذ لا يجئُ لمثله بنديد
وقوله في الغزل:
فتكاتُ طرفك أم سيوفُ أبيك ِ
وكؤوس خمر أم مراشف فيك
أجِلادُ مرهفةٍ وفتك محاجر
ما أنت راحمة ولا أهلوك
يابنت ذي البُرْد الطويل نجاده
أكذا يكون الحكم في ناديك
قد كان يدعوني خَيالك طارقًا
حتى دعاني بالقنا داعيك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي
وادي الكرى ألقاك أم واديك
ومن أمثلة حدَّته اللفظية ورنين عباراته وفخامتها التي عابها عليه المعري، قوله:
أصاخت فقالت وقع أجرد شَيْظَم
وشامت فقالت لمع أبيض مِخْدم
وماذُعِرت إلاّ لجرس حليِّها
ولا لمحت إلاّ بُرَى في مُخَدَّم.
بتصرف من كتابنا "موسوعة فرسان الشعر العربي"