خمس نقاط من عوامل الثبات
خطبة : أحمد معاذ الخطيب الحسني
الحمد لله (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)1 ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون)2، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نباءي المرسلين)3 عباد الله : اتقوا الله (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)4 أما بعد :
فإن الله تعالى قص مكابدة نوح في دعوة قومه إلى الله تعالى ثم اعتذاره بأنه قد بلغ الغاية (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا)5 ، وهذا الصبر الطويل لشيخ الأنبياء إنما بناه فقه لسنن الثبات ، وإدراك لفن رفع المعنويات في ظلال الاستعانة والاستمداد من الله تعالى ، وقد ذكرنا في الجمعة السابقة عشرة نقاط مُعينة على الثبات نعيد إيجازها وهي :
1- اعمل قدر طاقتك (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)6.
2- ما تطيقه نفذه بعزيمة (خذوا ما آتيناكم بقوة)7.
3- اهتم بالحقيقة لا بآراء الناس (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)8.
4- عليك اتخاذ الأسباب لا حصول النتائج (ما على الرسول إلا البلاغ)9.
5- عليك بالممكن لا المستحيل (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)10.
6- اعرف واجبك ولا تنظر إلى نقص غيرك (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)11.
7- إن عرفت فالزم (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)12.
8- لا تبن موقفا ولا حكما على الظن (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)13.
9- تحرك بمبدئك ولا تقتله بجمودك (يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)14.
10- تواصل دائما مع هدفك (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا)15.
واليوم نشرح خمس قواعد أخرى :
القاعدة الأولى : لا تتحسر على ما فات واعمل لما هو آت ؛ قال تعالى (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)16. وقال تعالى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون)17، وعن أنس رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي الله واصبري ، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه ؛ فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأتته فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك ؛ فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)18. والمقصد أن الإنسان عليه أن يأخذ العبرة مما يجري ويمضي دون أن يعيقه ذلك عن النظر إلى الآتي ، ومن الملاحظ أن كثرة التحسر وإضاعة الأوقات في الحديث عما مضى أصبح ديدن كثير من الناس من دون اعتبار ولا نفع ، ولوك قصص المصائب من دون عظة وبالٌ أوله إهدار الوقت الثمين في اللغو ، ورب رجل أو امرأة وقع واحدهم في مصيبة ؛ فلا يزال الناس يتحدثون عنهما ويتأسفون لما حل بهما دون أن يسارع أحد إلى موقف عملي ينقذ ، أو تدخل فعلي يقي من استمرار عاقبة مدمرة ؛ والعاقل لا يفعل هذا.
إن من التطبيقات التنفيذية لاتخاذ الموقف العملي دون إضاعة الأعمار في الحسرات ما فعله أنس بن النضر رضي الله عنه عندما فاتته المشاركة في غزوة بدر مع رسول الله فقال19: (والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرين الله كيف أصنع ، وقاتل في أحد حتى قتل ووجد في جسده بضع وثمانون أثرا ما بين ضربة ورمية وطعنة حتى ما عرفته أخته إلا ببنانه) ونزلت فيه وفي أمثاله الآية الكريمة : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)20. وعندما كان ينازع وفي رمقه الأخير قال لزيد بن ثابت: )أجدني أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم شفر يطرف وفاضت عينه(21 فمتى نتعلم إذا فاتنا موقف أن نصمم لنكون في الموقف القادم أهل الثبات والصدق والبذل وأن لا نطيل التحسر على ما مضى بل يحدونا شوق البذل إلى ما سيأتي!!
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المنازلا
ولا تنتظر في السير رفقة قاعـد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا 22
إن السقوط المدوي للأندلس وبغداد طال البكاء عليه ولكن لم يحظ حتى اليوم بمؤتمر لدراسة أسبابه والدروس المستفادة منه ، والحمد لله أن القنابل الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي لم تسقط فوق بلد عربي وإلا لبقي في نواح عليها شديد إلى يوم الدين! ورحم الله الإمام ابن حزم إذ ابتلي بصحبة الجهال فما أضاع عمره في التأفف والتحسر بل استفاد من ذلك فقال في رسالته المسماة : الأخلاق والسير في مداواة النفوس: (ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي واحتدم خاطري وحمي فكري وتهيج نشاطي ؛ فكان ذلك سببا إلى تواليف [مؤلفات] لي عظيمة المنفعة ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف).
القاعدة الثانية: افترض وقوع الأشد تهون العاقبة ؛ قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)23.
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ؛ ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ..)24 والاستعداد النفسي للأزمات أمر ضروري لمواجهة المصاعب بدءا من الدعوة إلى الله وانتهاء بأصغر أمور الحياة التي تعقدت بشكل مخيف ؛ لما صنعه الناس من هالات حولها. يظن الإنسان في بعض الأوقات أن هناك أمورا لا تقوم الحياة إلا بها ، ويضطر للتنازل عنها فيكتشف بأنه لم يصب بأية مصيبة ، وأن الحياة بقيت سائرة كما هي بل ربما تكون أبهج بعد ارتفاع التكلف المذموم والخدع البراقة الزائفة ؛ تكتشف عائلة كانت تطمح إلى حفل في مكان باهظ التكاليف لإرضاء نزوات اجتماعية ؛ تكتشف أن حفلا صغيرا تحفه الطاعة والرحمة والتيسير أبهج وأجمل ، وتكتشف الفتاة التي كانت لها تصورات لفارس أحلام من ورق ؛ صنعه مجتمع يبني الزيف لا الحقائق .. تكتشف الفتاة أن الدنيا لا تخرب أبدا بنقص رفاهية مادية سمعت عنها أو رأتها عند صديقة أو قريبة ، وأن صاحب خلق ودين خير من كل ما سواه ولو كانوا منتفخي الجيوب بالدراهم والدنانير!! ويكتشف الشاب أمورا أخرى في نسق مواز ويتعلم المجتمع الصالح أن النفاق الاجتماعي يجب أن تهتك أستاره وتفضح زيوفه ، وتوطين النفس على الأشد يهون القبول النفسي له.
تسمع ألف متفلسف يتحدث عن يسر الأمور لدى بعض المجتمعات الغربية فإذا طلبت منه أقل الأمور في التيسير وعدم التكلف أدبر وتولى! وتتحدث ألف متفلسفة عن البساطة لدى بعض الشعوب! فإذا طلبت البساطة منها لم تجد إلا ضحالة في التفكير وتشبثا بكل تعقيدات الحياة. أصبحنا نخاف من أن نعترف بالحقائق وصرنا لا نحب أن ننظر في المرآة كي لا نرى صورتنا على حقيقتها بكل ما فيها من الهلع والجبن لمواجهة سلبيات كثيرة أصبحت تحيط بنا ، ورحم الله من قال: وطن نفسك على ما تكره يقل همك عند حصوله ، ورحم الله من كانت مرضاة ربه همه ومبتغاه.
كالريح أعمارنا مرت وقد ذهبت بالحلو والمر والمكر والحسـن
ياظالـما خال نير الظلم دام بنـا عليك دام وعنا مرت كالوسن
القاعدة الثالثة: اعرف الواقع ولا تحلق بالأحلام
قال تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يُجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا)25. قال الإمام ابن كثير: والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا التمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال أنه هو على الحق يُسمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان.
لقد علم الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن تتعرف وتحفظ أسباب ديمومتها بصلتها الحقة مع الله تعالى ؛ فأخرج الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك ؛ احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ؛ رفعت الأقلام وجفت الصحف)26، وفي رواية الإمام أحمد بسند صحيح: (واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا)27.
ومما ابتليت به الأمة كثرة أحلامها وقلة عملها ، وكأني بها تحتاج إلى ابن الخطاب رضي الله عنه يصدع فيها: أن قومي فاعملي فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ؛ بل إن كثرة ما يتداوله الناس من سير السلف بطريقة مغلوطة قد أدى بهم إلى عقم في التفكير ؛ فقد كانوا رضي الله عنهم بشرا واقعيين ولكن حياتهم بنيت على التقوى فجعلناهم نحن ملائكة كي لا نقتدي بهم وقعدنا! فصلنا في شعورنا بين حبهم والاقتداء بهم! فأكثرنا يحبهم ولكنه نفسيا غير مستعد للاقتداء! طغت علينا المنامية في التفكير ؛ فلا نحن أخذنا عزيمتهم ولا عملنا أعمالهم ، بل وقعنا في شرك نفسي خطير! ظاهره حبهم وباطنه البعد الشديد عنهم! بل تعدى الأمر عندنا إلى ادعاء أن كل نقص فينا فإنما سببه مؤامرة خارجية ، وكل فضيلة تذكر فإنما زمامها وخطامها بأيدينا وكل مكرمة فنحن أربابها ، وإن ذكرت الحرب فنحن أصحاب الحلقة فيها ، وإن ذكر العلم فنحن سادته وإن ذكرت الحضارة فنحن قادتها ، وبتنا نسمع جعجعة ولا نرى طحنا! رحم الله من بنى لنا كل ذلك فأضعناه وعشنا في أحلام اليقظة ؛ فشوهنا ليس فقط حياتنا الحاضرة بل أصبح لتشويهنا مفعول رجعي طال من بنوا قبلنا وهم من الأبرياء ، ورحم الله ابن الملاح إذ يقول في تخميسه لقصيدة ابن الوردي :
من بحسن الثوب أبدى مجده وبجهل قد تعدى حــــده
قل له قولا وأكثر صــده خذ بنصل السيف واترك غمده
واعتبر فضل الفتى دون الحلل
القاعدة الرابعة: انظر أين ينمو نباتك :
قال تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)28.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم ؛ فقلت له: هل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَن! قلت: وما دخنه ؛ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ؛ فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ؛ فقلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: نعم ؛ هم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ؛ فقلت يا رسول الله ما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ؛ فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؛ قال: تعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)29.
المسلم مثل النبات! لا يقبل أي غذاء يلقى اليه ؛ النبات يلزمه شمس وتراب وهواء وماء ؛ الثمار الطيبة لا تأتي في جو غائم ولا تراب كله حشرات قارضة ولا هواء ملوث ولا ماء مسموم ؛ شمس المؤمن قرآن هاد تربته المغذية إيقان وإيمان ؛ ماء حياته إخاء وتناصح وغفران ؛ هواؤه بر وخير وإحسان ؛ دعوة وبلاغ وأذان مسجد وسجود لله وإذعان ؛ نبتة المؤمن لا تقبل إلا ما اختاره الله لها (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)30 نبتة الإيمان لا تموت ولو تلوثت البيئة ؛ هي الحياة وبدونها يكون الموت ، وحتى في أشد بقاع الصحراء حرارة فإن نبات الإيمان يبقى يحفظ في داخله سر الحياة المؤمن يعض على جذع شجرة الإيمان ؛ يتكور عليها كما تتكور نباتات الصحراء على رطوبة دفينة فيها يحتار في سرها ؛ حتى يدركه الموت وهو على ذلك ؛ من نبت الإيمان في قلبه قولته31 :
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظـي ومعينـي
سأعيش معتصما بحبل عقيدتـي وأموت مبتسما ليحيا ديني
القاعدة الخامسة : لا تصادم السنن بل استفد منها واستثمرها :
قال تعالى: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)32.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)33، وقال الإمام النووي في شرح الحديث : (استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إياكم والجلوس في الطرقات ؛ فقالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ؛ فقال عليه الصلاة والسلام: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ؛ قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله ؛ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)34. فمنع الناس من الجلوس في الطرقات مما لا يمكن ؛ لمصادمته طبيعتهم فعلمنا الهادي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نصدم الأمر بل أن نستثمره ونمسك بزمامه لنقوده إلى الفعل الإيجابي ، وقد فطن الإمام ابن القيم إلى المغزى العميق والدلالات السننية لمثل هذه التوجيهات فقال في كتابه الفوائد: (العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة ، والزاهد يدعو الناس إلى الله بترك دنياهم فتشق عليهم الإجابة) ، ومما ذكره أهل التربية أن من طلب أخا بلا عيب بقي بلا أخ ، وأوصى أحد الحكماء بطريقة للعثور على إنسان عاقل لمؤاخاته فقال: أغضب أخاك فإن أنصفك في غضبه فآخه و لم يقل: إن لم يغضب ؛ بل قال: فإن أنصفك في غضبه. فمنع الغضب بالكلية مصادم للفطرة ، ولذا قال تعال: (والكاظمين الغيظ)35 ولم يقل (والفاقدين الغيظ). وفقيه الدعوة الفطن لا يصدم قوانين الحياة وسنن الكون ؛ بل يحتال عليها فيمسك بمعاقدها ، ومن كان يحمل معولا وصادفته صخرة صماء فلا يضيعن الوقت في الطرق عليها وهي صماء صلداء ؛ فإنه بذلك يستنزف قوته وربما حطم معوله ولكن ليحفر التراب الذي حولها فلا بد أن تهوي ، وحتى الدين كله قد يفشل إذا صادم حملته سنن الله في خلقه ؛ فدين الزهاد خرب الاقتصاد ، ودين الرهبان خرب الفطرة ، وفتح أبواب الفساد ، ودين المتنطعين أمات الحيوية في الأمم وقتل أرواح العباد ، ودين المتفرنجين والمتغربين والمبهورين أرضى النزوات وألغى العقول وأطاع الشهوات ، ودين الله الحق هو الفطرة والتوازن والعدل والرحمة والشمول والواقعية والإنسانية والربانية ، وصدق تعالى إذ يقول: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)36، وصدق تعالى إذ يقول: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)37 وصدق تعالى إذ يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)38.
اللهم اجعل ديننا التزاما بكتابك وسنة رسولك ؛ اللهم بلغنا رضاك ولا تخزنا يوم نلقاك..
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون..
- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ : الجمعة 23 شوال 1415 هـ/ 24 آذار 1995م.
الإحالات :
1- الروم 60.
2- الأنعام 41
3- الأنعام 34.
4- الزمر 55.
5- نوح 5-10.
6- البقرة 286.
7- البقرة 63.
8- الأنعام 116.
9- المائدة 99.
10- النساء 120.
11- النساء 114.
12- الحجر 99.
13- يونس 36.
14- يوسف 39.
15- الكهف 14.
16- الكهف 6.
17- فاطر 8.
18- البخاري ، الجنائز 1283.
19- قصة أنس رضي الله عنه ونزول الآية في البخاري ، الجهاد والسير 2806.
20- الأحزاب 23.
21- من رواية لابن إسحاق بإسناد رجاله ثقات. وانظر السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري 2/386 نقلا عن مجمع البحرين وشرح المواهب.
22- الأبيات لابن القيم .
23- البقرة 214.
24- البخاري ، الإكراه ، 6943.
25- النساء 123.
26- الترمذي ، القيامة والرقائق والورع 2516 ، قال : هذا حديث حسن صحيح.
27- أحمد ، مسند بني هاشم 2800.
28- المائدة 55-56.
29- البخاري ، المناقب 3606.
30- المائدة 55.
31- أواخر القصيدة النونية للعلامة القرضاوي.
32- فاطر43. وفي المصحف تكتب (سنة) بالتاء المبسوطة : (سنت) وأثبتناها بالمربوطة تسهيلاً.
33- البخاري ، الإيمان 39.
34- البخاري ، الاستئذان 6229.
35- آل عمران 134.
36- الإسراء 105.
37- النجم 2-3.
38- الحشر
المصدرhttp://www.fostat.com/fustat/news.ph...on=view&id=230