هل الزواج مشروع .......؟!
انظم إلى الآخرين في حلقات وسط تلك القاعة الفسيحة، المفروشة بالسجاد، جلسة عربية معتادة في هكذا مناسبات. جلس القرفصاء - واضعاً رجلاً على رجل - يأكل بنهم ما وضع أمامه من أرز ولحم. يعرض على الداخلين مشاركته، والجلوس إلى جواره، كأنه صاحب الدعوة، أو إنه يحاول على استحياء عدم إخفاء ما يجول بداخله من تهكم. لقد دعي إلى عقد قران أحد أقاربه، فلم يستطع التهرب أو التخلص من ذلك الالتزام، وخاصة بعد إغرائه بوجود وليمة دسمة، وليس مجرد حلويات ومرطبات كما يحلو لبعض الناس التعود عليه هذه الأيام، تخفيفاً للمصاريف وتقليصاً للنفقات.
حضر الحفل رغم كراهيته لتشجيع مثل هكذا مشاريع فاشلة، كما يقول! لم يستطع أن يغالب طبعه، من حب ما هو مدفوعا قيمته مقدما. قام من مجلسه ينظف ملابسه من بقايا الطعام العالقة، وبعد أن أصابته تخمة من كثرة ما أكل من تلك الدسومة. توجه إلى دورات المياه، ليغسل يديه ويتخلص من بقايا الشحوم والفضلات الملتصقة بين أصابعه. يمشي وهو يهز رأسه مستغربا مستخفا،ً بالذين يقدمون على هكذا مشاريع غير مجدية وغير مربحة. ولكنه لم يجرأ أن يتكلم في حضرت العريس وأبيه، بعد هذه الدعوة الغير عادية.
عاد وجلس مع الحضور على الكنبات المخملية، المحيطة بالقاعة إحاطة السوار بالمعصم. بعيداً عن العريس وأهله، الذين كانوا منهمكون في استقبال المهنئين عند دخولهم، وتوديعهم مع خروجهم. جلس بعيداً عنهم ليتقي ويتفادى الزحام، وليحتسي من المشروبات المختلفة، كانت تطوف بالحضور بين آونة وأخرى. كان ينظر في وجوه المدعوين، كأنما يتفرس فيهم محاولا معرفة خبايا ضمائرهم. كأنما عيني ذئب ركبت في رأسه، يتفحص منطقته لان لا يدخلها غريب. ولكن مقصده غير هذا، ولم يكن ليخطر على بال أحد من الآخرين. فلقد كان يخبأ شيء ما، يحاول إظهاره على تخوف ممن حوله، مخافة انتقادهم أو تأنيبهم له. لذا كان يتحين الفرص، لعل أحداً يهفو بتلك الكلمة، أو يخطأ فيلفظ كلمة السر، ليطلق العنان للسانه الجامح الذي كان مكبلاً من أول حضوره.
أنقذه من تلك الحالة النفسية العصيبة التي كان يمر بها، وكان خلالها يتجرع الصبر مراً علقماً، ممنياً نفسه بقرب الفرج وانفراج الأزمة. فتنطلقت قريحة أحد الحضور، سائلا من بجواره عن أهله وأطفاله، ممازح له قائلاً قتلاً للوقت ولفتح باباً للحوار: متى ستزوج المحروس ابنك؟
فرد عليه متفكهاً معه: إن ابني لا يزال صغيراً لم يبلغ الحلم بعد، ولكن إذا حان وقته فسوف نطلب من الله العون على مصاريفه.
فأردف جليسه قائلاً مؤكداً كلام جاره: فعلاً ما تقول هو الصواب، فلم يعد الأبناء قادرون على النهوض بأنفسهم ويحتاجون إلى المساعدة.
تلك كانت الفرصة السانحة التي كان ينتظرها بفارغ الصبر، فهاجت نفسه ولم يستطع المقاومة، ولم يستطع كبح جماحه ولو احتراماً لصاحب الدعوة. فأخذ ينشر رايته ويمتشق سيفه الصقيل، إيذاناً ببدء المعركة وخوض غمارها، كأنه فارس من فرسان الهيجاء. أو شاعر مخضرم من شعراء الجاهلية في سوق عكاظ، يلقي قصيدته العصماء، التي أمضى عليها سنين وهو ينظمها. فبدأ بطرح نظريته مفصلاً مشفعاً معها البراهين القاطعة على صحة أقواله. كأنها أطروحة الدكتوراة يتقدم بها للحصول على شهادتها، قائلاً إن الزواج مشروع فاشل لا يجنى من ورائه إلا الخسائر والمشاكل! فرد عليه جاره وجليسه، محاولاً الاستزادة حاث إياه على مواصلة حديثه، رغم معرفته حقيقية دواخله، وبخله المزمن ومسكه بالدينار والدرهم، تمسك الغريق المشرف على الهلاك، بالقشة الطافية على وجه الماء، إن ما تقوله صحيح!
فننشى بهذه الكلمات المعسولة، التي أصابت منه شقاف القلب، فأخذ في شرح فكرته قائلاً: قديماً كان الناس يكثروا من الأبناء، وذلك لاستغلالهم والاستعانة بهم في أعمال الزراعة والصيد ورعي الماشية وخلافه. أما الآن فلم تعد هناك حاجة إلى ذلك بوجود الخدم، بل أصبح الأبناء كلا على أبائهم، إذا تخلصوا من أذاهم ومشاكلهم، فأنهم ثقل زائد من المصاريف والتبعات! لم يستطع الجار تحمل المزيد من أفكاره السخيفة، ضد ما هو فطري مطبوع عليه بني البشر. فقام من مقعده في آخر القاعة متجهاً لتهنئة العريس، مغادراً نهائيا بعد أن ضاق ذرعاً بذلك الرجل وأفكاره البالية. ولكن وليضع النقاط على الحروف سأله: متى سيتم حفل زفاف ابنك؟!
- لم يستطع عدم الإجابة أو الامتناع عنها، لاطلاع الجار على جميع أحواله، فقال ممتعضاً مبدياً انزعاجه: قريبا إن شاء الله.
فتمتم جليسه في نفسه مبهوراً بشخصية تلك المرأة التي تقف وراء هذا المتعسف، متعجباً كيف استطاعت إجباره على تزويج ابنه، رغم محاولاته الفرار والنجاة بنفسه، قائلاً: لله درها من اللبوة، وما أقوى شكيمتها، فلقد استطاعت أن تروض ملك الغابة المتغطرس هذا، وتلوي ذراعه وتنفذ رغبتها!
بقلم: حسين نوح مشامع - السعودية