ازمة الشفافية.....للكاتب فهمى هويدى
--------------------------------------------------------------------------------
أزمـة الشفافيّـة
حين تغيب الشفافية, فإن الكتابة عن الحاضر والمستقبل تفقد مصداقيتها. والأخطر من ذلك أننا نصبح في وضع لا نحسد عليه, لا يساعدنا على أن نحسن قراءة الاثنين. فتتراجع ثقتنا في الحاضر, ويتضاعف قلقنا على المستقبل.
*******
(1)
أعني بالشفافية المرجوة مدلولها الاصطلاحي وليس اللغوي, إذ الكلمة بمفهومها المعاصر جديدة على خطابنا السياسي والأدبي, ولم يعتمدها مجمع اللغة العربية إلا منذ سنتين. ذلك ان الشفافية في أصلها اللغوي كانت تستخدم في وصف الثوب الذي اذا شف فإنه يستر ولا يستر, لكن الكلمة أصبح لها مفهوم آخر, بعدما شاع استخدامها في الخطاب الغربي للتعبير عن حق الناس في معرفة حقيقة ما يجري في بلادهم دون اخفاء أو التواء. وحين استخدمت الشفافية في ذلك السياق, فقد قصد بها كشف الأوراق وتعرية الحقائق كلها, وبالتالي فإنها انفصلت عن أصلها اللغوي الذي بمقتضاه لا تعري الحقيقة لكن الابانة في ظله تصبح محدودة.
تكشف هذه الخلفية بعضا من جوانب المفارقة في تعاملنا مع الأحداث, فنحن حين نتحدث عن الشفافية فإننا نوحي للرأي العام بأننا نتعامل مع المدلول الاصطلاحي للكلمة, بمعني أننا نعلن كل شيء ولا نخفي شيئا, إلا أن واقع الحال يدل على أننا في الممارسة نتعامل مع المصطلح بمفهومه الاصلي في اللغة, حيث نستر ولا نستر, ومن ثم نخاطب الناس بالحقيقة مبتسرة وليست كاملة.
في ظل ثورة الاتصال التي اضعفت من قدرة الانظمة على التحكم في المعلومات وفي أجواء حرية التعبير النسبية المتاحة في مصر الآن, التي مكنت الإعلام المستقل والمعارض من تسليط الضوء على ما هو مسكوت عليه من جانب الإعلام الرسمي وإن أتاح ذلك للناس أن يروا الوقائع والأحداث من زوايا اخرى, وأن يتعرفوا على المعلومات غير المذكورة.. فإن التفاوت أو التضارب في المعلومات من شأنه أن يشيع البلبلة ويفتح الأبواب أمام درجات متفاوتة من الحيرة والالتباس.
لا غرابة والأمر كذلك في أن يكشف استطلاع الرأي الذي اجري في مصر ودول اخرى, عن أن المصريين من أكثر شعوب العالم سخطا على حكومتهم بعد الفلسطينيين. وكانت مؤسسة بيو بول الأمريكية الشهيرة قد أجرت ذلك الاستطلاع في47 دولة بينها مصر, وأعلنت نتائجه في7/25 الماضي, وتبين من تلك النتائج أن12% فقط من المصريين راضون عن أداء حكومتهم. وفي الاجابة على سوآل آخر يتعلق بالاطمئنان إلى المستقبل فإن أعلي نسبة للقلق على المستقبل44% كانت في فلسطين والكويت وجاءت مصر في المرتبة التالية, حيث وصلت نسبة القلقين على مستقبل أولادهم فيها إلى43%.
*******
(2)
يوم8/9 الحالي نشرت الأهرام خبرا على صفحة الحوادث كان عنوانه كالتالي: حبس7 متهمين بتهمة الاعتداء على الشرطة. وتحت العنوان قصة خلاصتها أن النيابة تجري تحقيقا في الأحداث المؤسفة التي وقعت بحي العمرانية محافظة الجيزة, جراء اشتباك بين عائلتين تدخلت الشرطة لفضه واحتوائه, وأثناء ذلك حاول أحد الملاحقين الهرب من مسكنه عن طريق القفز إلى شرفة أخرى, فسقط على الأرض ولقي مصرعه. لكن أهله تقدموا ببلاغ اتهموا فيه الشرطة بقتله.. اسمه ناصر صديق.. سباك, وقد أمرت النيابة بحبس سبعة أشخاص على ذمة استكمال التحقيق معهم في عدة تهم هي: إصابة أفراد الشرطة والاعتداء على موظفين عموميين, واحداث مشاجرات وشغب بالطريق العام.
في اليوم ذاته خرجت صحيفتا الدستور, والمصري اليوم المستقلتان برواية مختلفة تماما للخبر, خلاصتها أن مجموعة من رجال الشرطة في قسم العمرانية اقتحموا منزل القتيل بعد تحطيم بابه, لتأديبه بسبب تقديمه بلاغا ضد أحد زملائهم اتهمه فيه بالاستيلاء على مبلغ كان معه, وهاتفه المحمول, وهو ما أدى إلى احتجازه لمدة أربعة أيام للتحقيق معه في التهمة, وقد أثار ذلك زملاء أمين الشرطة المحتجز, فقاموا بحملتهم على بيته قبل الفجر, وبعد اقتحام بيته انهالوا عليه بالضرب ثم حملوه وألقوا به من نافذة بيته في الطابق الثالث فلقي مصرعه.
حين يطالع القارئ القصتين من يصدق ومن يلوم ومع من يتعاطف؟, مع الشرطة التي تعرضت للاعتداء من الاهالي, أم مع القتيل وأسرته الذين تعرضوا لعدوان الشرطة؟ ثم ألا يعذر الناس في هذه الحالة إذا حيرتهم البلبلة وفقدوا الثقة فيما يتلقونه من أخبار وتقارير؟
*******
(3)
لغز بيع بنك القاهرة نموذج آخر. ففي عام2005 أعلن عن دمجه مع بنك مصر.. وتوالت التصريحات الرسمية وقتذاك التي ركزت على أن الهدف من ذلك هو اخراجه من أزمته المالية وتمكين البنكين بعد الدمج من ان يشكلا وحدة اقتصادية قوية قادرة على منافسة البنوك الأجنبية
بعد الدمج بعدة أشهر أعلن أن بنك القاهرة لن يذوب في بنك مصر لكنه سيظل محتفظا بشخصيته الاعتبارية فيما يصفه المصرفيون بأنه استحواذ عليه وليس اندماجا كاملا فيه. ومرت بعد ذلك أشهر عدة لنفاجأ بقرار بيع80% من أسهم البنك إلي من قيل إنه مستثمر استراتيجي. ليس هناك شك في أنه سيكون أجنبيا.
ملابسات البيع أقلقت الجميع وأدهشتهم, فلم نفهم لماذا كانت قرارات الدمج ثم الاستحواذ إذا كانت النية متجهة إلي البيع الذي بدا وكأنه قفزة مفاجئة لم تكن في الحسبان, ولم نفهم لماذا البيع لمستثمر أجنبي, في حين انه كان يمكن طرح75% من أسهمه للاكتتاب العام, بحيث يشتريه المصريون الذين هم أولى به, ولم نقتنع بما قيل بأن تعثر البنك سببه سوء الإدارة, لأن كل البنوك الأجنبية الموجودة في مصر الآن يديرها مصريون. ولم نصدق أن المستثمر الأجنبي يمكن أن يوظف ايداعات المصريين ومدخراتهم لدي البنك في أي من مشروعات التنمية في البلد. إذ من الطبيعي أن ينشغل بتحقيق الارباح من خلال توجيه المدخرات إلي ما هو استهلاكي وسريع العائد.
تتضاعف البلبلة. وينضاف إليها الحسرة والحزن, حين نجد أن البنوك تحقق أرباحا عالية بشكل ملحوظ, وما تحصله البنوك الأجنبية على ذلك الصعيد من أموال المصريين, لن يستفيد منه البلد. وإنما تحول عوائده كلها إلي الخارج, وقارئ الصحف هذه الأيام سوف يفاجأ بأنه خلال الأشهر الستة الأولي من العام الحالي حقق البنك التجاري الدولي
(CIB)
ربحا قدره600 مليون جنيه, أما بنك
(HSBC)
فقد وصلت أرباحه إلى460 مليون جنيه, وبنك سوستيه جنرال أرباحا بقيمة360 مليون جنيه, ولن يبقي شيء من هذه الارباح في مصر لكنها ستحول لحساب المساهمين في نيويورك ولندن وباريس.
*******
(4)
أينما توجهت ستجد اسبابا للبلبلة والحيرة, فأزمة مياه الشرب وصلت إلى حد يصعب تصديقه أو تفسيره. ومازلت غير قادر على استيعاب العناوين التي تتردد في الصحف عن ثورة العطشانين, وحرب المياه, وضحايا المياه الملوثة. كما أنني لم أفهم لماذا سكتنا طويلا ثم أصبحنا نتحدث الآن عن خطط لتوصيل المياه النقية إلي بقية محافظات مصر, وخطط أخري لتجديد شبكات المياه في محافظات أخرى.
إن الناس لم يعرفوا ما هو الحجم الحقيقي للمشكلة في مصر, وهل هي أزمة مفتعلة كما يقول البعض, أم أنها أزمة حقيقية, كما أننا لم نفهم سبب المشكلة, وهل هو نقص في المياه أم أنه راجع إلي تلف شبكات التوصيل جراء انعدام الصيانة, وتجاوز تلك الشبكات لعمرها الافتراضي. باختصار فإنه ببعض الشفافية أعني لو أننا تصارحنا في التعرف على حجم المشكلة وتحديد اسبابها, ولو أن الناس أبلغوا بأن ثمة اهمالا في الصيانة ووجدوا أن هناك جدية في تحرير المشكلة وحساب المسئولين عن أي تراخ في علاجها, لو حدث ذلك, فإن الناس سوف يستريحون وسيكونون عونا للحكومة وليس مصدراً للسخط عليها.
*******
(5)
قل مثل ذلك في أمور أخرى كثيرة مثيرة للغط والحيرة
في مشكلات الغلاء التي يكتوي الناس بنارها كل يوم من غلاء الغذاء إلى غلاء الدواء إلى الجدل المثار حول مخزون القمح, ومصير رغيف الخبز إلى شائعات خصخصة المياه والكهرباء وصولا إلي الملفات الأخري المختزنة في الذاكرة التي لن ينسي الناس منها مأساة الذين احترقوا في القطارات المتهالكة, ولا قصة العبارة التي راح ضحيتها أكثر من ألف مواطن مصري, ومع ذلك لم يحاسب عنها أحد حتى الآن, لاجنائيا ولا سياسيا.
*******
(6)
خلال الأسبوع الماضي كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هدفا للمساءلة من جانب السياسيين والإعلاميين طوال الوقت. إذ قدم إلى محكمة الرأي العام في قضيتين: الأولى تتعلق بالدور الذي قامت به فرنسا, والثمن الذي دفعته لقاء الافراج عن الممرضات البلغاريات اللائي كن محتجزات في ليبيا, وحكم عليهن بالاعدام بتهمة نقل فيروس الايدز إلى400 طفل ليبي, والثانية تتعلق بملابسات عطلته التي يقضيها مع أسرته في منتجع لأصحاب المليارات في الولايات المتحدة.
ولكي يوقف اللغط ويزيل الالتباس فإنه قطع اجازته وظهر على شاشة التليفزيون الفرنسي, وبدد الشكوك التي أثيرت حول التزامات بلده في قضية الممرضات, وفي المسألة الثانية شرح للفرنسيين أنه دعي وعائلته إلى تمضية العطلة من جانب عائلتين من اصدقائه, إحداهما أسرة فرنسية خالصة, والثانية فرنسية ـ أمريكية, والعائلتان لا علاقة لهما بالدولة الفرنسية. وقصد بهذه الاشارة الأخيرة أن يقطع الطريق على التساؤلات التي اثيرت حول المقابل الذي قد يكون على ساركوزي دفعه للوفاء بدينه, وهل سيكون من مصالح الدولة الفرنسية أم لا.
كما فُهم من كلام ساركوزي أن العائلة الفرنسية الأمريكية هي التي استأجرت له ولأسرته المقر الذي يقيمون فيه, ويضم20 غرفة و11حماما وأجرته22 ألف يورو في الأسبوع.
وكان الحزب الاشتراكي المعارض قد أعلن أنه من حق الشعب الفرنسي في جمهورية شفافة أن يعرف من هو المحسن الكبير الذي تحمل نفقات دعوة ساركوزي وكيف سيرد له الرئيس الفرنسي الجميل. وقال أحد نواب الحزب في الجمعية الوطنية إن راتب ساركوزي6000 يورو في الشهر وأن قيمة تذاكر سفره وعودته هو وزوجته وآخر ابنائه تصل إلى45 ألف يورو وإذا اضيفت إليها كلفة الاقامة والايجار فإن نفقات الرحلة تفوق بكثير الدخل المتاح له, الأمر الذي يعني أن آخرين تحملوا تلك النفقات. وهو ما لا يجوز له كرئيس للدولة. حيث لا يسمح له بتلقي هدايا شخصية أو أن يكون مدينا لمصالح خاصة.
لك أن تتصور حجم ثقة الناس في نظامهم وحكومتهم, حيث توضح لهم أمثال تلك المسائل الدقيقة أولا بأول. الأمر الذي لا يستغرب معه أن ترتفع نسبة رضا الفرنسيين على الحكومة من52% قبل شهرين إلى69% الآن. ولم يكن في الأمر سر أو سحر. فحين شفت الحكومة استراح الناس ورضوا
*******
-فهمـي هويـدي- الكاتب المصرى الكبير...............................pyramid2007