يوميات طبيب نفسيأبي ذو الوجه الخشبيتزورني منذ أكثر من عام ، تقول أن حضورها عيادتي صار جزءاً هاماً من حياتها ، لم تعد تعاني من الاكتئاب ، لكنها تحب ان تأتي و تلتزم بموعد يكاد يكون أسبوعياً رغم سنينه الستين .ما أن تجلس أمامي ، حتى تقول لي :" أريد أن أعرف من أين تأتي بهذه الابتسامة اللطيفة رغم همومك و هموم كل الناس حولك طوال النهار ؟" .
أقول لها أنني لستُ الصانع الوحيد لابتسامتي ، بل هي مزيج من ابتسامات أمي و أبي و أخوتي و كل أحبتي ، و لا أظن أن الابتسامة شأن شخصي بحت .
تعجبها الفكرة ، و تتابع أن أمها كانت سيدة قديسة دائمة الابتسامة ، بينما أنها لم تَر ابتسامة أبوها أبداً .
تقول زائرتي ذات الجذور الأرمنية :" لقد كان وجهه قطعة واحدة من خشب و لا تتحرك ، لا بفرحٍ و لا بحزن ، حتى عندما يبكي ، كانت تنزل دموعه رغماً عنه بدون أن يحزن وجهه و لا عيونه ".
و رغم كل ذلك فقد كانت تحبه جداً ، و إلى الأن فهي تضع صورته في كل غرفة من غرف بيتها ، حتى المطبخ ، بينما لا تضع أي صورة لأمها .
أحاول أن أفسر لها ذلك بأن وجوه الأمهات الحبيبات تذوب في الهواء و لا يفيد وضعها في صورة . و أن غبار هذا الكون الذي يعيش معنا في كل وقت ، و نجوم ليل السماء ما هي إلا وجوه الأمهات و ضحكاتهن .
تغير جلستها على الكرسي ، و تقول لي سأخبرك قصة أبي ذو الوجه الخشبي .
" لقد فقد أبي والديه باكراً جداً في عمر الست سنوات تقريباً ، استطاع عمي أن ينقذه من بطش الأتراك في المذبحة الأرمنية . شاهد مختبئاًً من بعيد أبيه الذي كان كاهناً للقرية يُرجَم بالحجارة ، و كان يحدثنا بدقة متناهية كيف اغتصب الأتراك أمه و فتحوا بطنها ليقتلوا الجنين في أشهره الأخيرة ".
تقول كل ذلك بدون إضافات عاطفية ، و كأنها تتحدث عن قصة لا تعنيها .
أسألها عن سبب ذلك البرود لتجيبني أنها تتألم من ذلك لكنها لا تكره أحداً ، لم تكره الأتراك و لم تكره المسلمين ،" فقد نقل لنا أبونا الألم و لم ينقل لنا الكراهية" تؤكد مرتين على هذه الفكرة .
ثم تتابع :" أبي الذي فقد الإيمان بالله بعد هذه الحادثة ، كان يقول لنا :" تزوجوا ممن تريدون حتى لو كان مسلماً ، المهم أن يكون مؤمناً ، لقد فقدتُ الإيمان و لا أريد لبناتي أن يعشن بدون إيمان بأمر ما ".
" وجهه الخشبي كان يبث في قلبي الطمأنينة ، و حتى الآن و بعد وفاته بسنين طويلة ، ما زال حاضراً معي كل وقت و كأنه يشاركني المنزل و العمل و كل التفاصيل ".
أسألها بدوري و كيف يمكن أن ننقل الألم بدون أن تتحرض الكراهية ؟
.لتقول لي أنها تعتقد أن الألم الحقيقي لا يحرك الكراهية في النفوس .
تضحك و تستغرب فجأةً أنها بقيت في مكتبي أكثر من عشرين دقيقة هي التي تمر عادة كل أسبوع فقط "لترمي السلام" على حد تعبيرها .
تتابع : " أحب الحديث عن أبي ، و لا أحب ، أشعر أنني أقع في فخ ذكرياته رغماً عني " و تضحك طويلاً طويلاً ، ثم تذهب هي بينما أخذت أنا عدة دقائق قبل المريض التالي لأكمل بسرعة ما بدأتُ بكتابته على ورقة جانبية حول الكنوز الثمينة التي سقطت من فمها طوال عشرين دقيقة .
رفيف المهنا