الله لا يقطع الخميرة من بيوتكم
انقطاع الخميرة من البيت نذير شؤم، وهي تعني عدم اقتدار أهل البيت على مواصلة الحياة بشكل طبيعي. وأشد دعوات المظلومين أو المظلومات على من ظلمهم هو (أن يقطع الله الخميرة من بيتهم) ..
تدافع الناس وهلاكهم في طوابير الحصول على الخبز في القطر المصري الشقيق، يعتبر ناقوس خطر ينذر بكوارث خطيرة في منطقتنا العربية، والنظر لتلك الظاهرة بعين لا مبالية يوحي بانحطاط مستوى التفكير عند أبناء الأمة من حكامها الى محكوميها ..
تعتبر منطقتنا مع أوروبا من أكثر شعوب الأرض استهلاكا للقمح، الذي يُصنع منه الخبز اليومي عماد تغذية الأغلبية الساحقة من سكان تلك المناطق. في حين يُعتبر الرز هو العمود الأساسي لتغذية شعوب جنوب شرق آسيا حيث يعيش ثلث سكان العالم تقريبا .. أما سكان إفريقيا (جنوب الصحراء الكبرى) فإن الذرة هي العمود الأساسي لغذائهم ..
قبل أربعة عقود، كانت النساء تقوم بتحضير العجين بعد صلاة العشاء وتضيف عليه قطعة من عجين سابق (خميرة) وتقوم بتغطيته بقطعة من القماش تختلف سماكتها مع اختلاف الطقس، فإن كان الطقس حارا يكون الغطاء أقل سماكة، وإن كان الطقس باردا فإن السماكة بالغطاء ستزيد .. وفي صباح اليوم التالي، توقد النساء النار في أمكنة الخبيز، فتخبز ما تحتاجه العائلة من خبز وتحتفظ بقطعة من العجين لتكون (خميرة) لخبز اليوم التالي.. لذلك فيعتقد أن خبز عام 1960 مثلا يتصل بعجين امرأة سام ابن نوح عليه السلام، حيث تواصلت الخميرة منذ تلك الأيام الى الوقت الذي تخلت البيوت عن الاحتفاظ بالخميرة.
كانت العروس تحمل في يدها اليمنى قطعة من عجين وتلصقها على باب بيت زوجها عندما تُزف إليه، فإن سقطت قطعة العجين طلقها وأعادها الى أهلها، الذين سيتفهمون فلسفة قانون الحياة ويقبلون قراره بألم ورضا بنفس الوقت.
عندما توقف إنتاج الخبز في البيوت، واتكل أصحاب البيوت على الدولة، أو على نظام تطور بغفلة منهم ومن الدولة. تخلى أرباب البيوت عن تمثيل دور المدبر للأسرة ومئونتها، فلم تعد زراعة المحاصيل الحقلية ومنها القمح من المهام المقدسة التي تقلق رب الأسرة، ولم يعد التفكير بالاحتفاظ بمخزون احتياطي تحسبا لسنة قحط مفاجئة. كما تخلت المرأة الكبيرة في البيت عن وظيفة تقنين استخدام تلك المئونة. وبالتدريج أصبح مفهوم (الأمن الغذائي) من مسئولية الدولة، دون أن يتم إعداد تلك المهمة بشكل جيد ..فساد اعتقاد شعبي أنه في الصباح يستطيع المرء أن يتوجه الى أقرب مخبز أو دكان ويشتري ما يحتاج من خبز ..
لم تحدث مشاكل كثيرة خلال العقود الأربعة الأخيرة في المنطقة العربية، إلا بعض السنوات في تونس والأردن واليمن وبعض الدول الأخرى، عندما تخرج مظاهرات تطالب بعدم رفع أسعار الخبز .. تصرف المواطنون في تلك الدول من وحي غريب (لم تعترض عليه الحكومات) وكأن الحكومة هي من تبيع الخبز أو تتاجر به .. ولكن فحوى الاتفاق الضمني أن الدولة هي مسئولة بشكل أساسي عن تأمين خبز المواطن ..
في السنوات الأخيرة أصبح منطق الحكومات العربية مختلفا عندما تقوم بتبرير ارتفاع أسعار الخبز، بأن السعر العالمي للمواد قد ارتفع ونحن نرفع تلك الأسعار بناء على ارتفاعها عالميا .. لم تتنصل الحكومات من مسئوليتها كليا، لكنها ربطت سلوك ارتفاع الأسعار بالارتفاع العالمي ..
إن الأمن الغذائي من مسئولية الدولة، وهو جزء من منظومة الأمن العام الذي يتصل بحفظ الأرواح وعدم العبث بكرامة الوطن وممتلكات الأشخاص، وهذا يتطلب سياسات مترابطة تشمل تأمين العمل والمسكن والتعليم والعلاج وحفظ هيبة الوطن من عبث العابثين سواء كانوا خارجيين أو داخليين. ولكن معظم الحكومات العربية فهمت موضوع الأمن بأنه حفظ أمن (النظام الحاكم) وحده، وتخلت عن كل شيء، فكان التعليم والوظائف والرعاية الصحية والمساكن الفاخرة من نصيب من يسبح بحمد النظام، وكانت الميزانيات (تتخصول) أي تتجه لخدمة نسبة ضئيلة من مواطني البلاد لا تتعدى 8% في أحسن الأحوال. فكان ما كان من فساد وكان ما كان من غلاء وكان ما كان من انقطاع الخميرة في معظم بيوت الناس..
الله لا يقطع الخميرة من بيوتكم