لست أبالي كيف تتعامل شعوب الغرب (المسالمة) مع ما يطلقون عليه (تجديفاً) وازدراءً للكنيسة أو حطّاً من منزلة رسلهم أو انتقاصاً من مقام الألوهية. بل مالي ولغرب لا يحترم كنيسته و لا يدين أغلبه بالولاء لها أو لله أصلاً (1) ؟ وأذهب لليقين بأن الغرب لن يتوقف عن إبداء استغرابه من ردة الفعل العنيفة التي تنتاب الشارع الإسلامي حين يتعرض رسام أو كاتب أو سياسي أخرق لنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأكاد أجزم أن المقارنة بين بلادة حس الشارع الغربي وحماسة الشارع الإسلامي مقاربة فاسدة وباطلة، لأنها قياس يُغفل الفارق بين جمهور واسع وعريض وجمهور لا يكاد يبين. لكني أؤكد – رغم ذلك- أن نعت الغرب باللامبالاة المطلقة حيال ما يقوم به بعض كتابه وفنّانيه من تجديف ونيل من مكانة (المقدس) افتراءٌ على الحقيقة وتغييبٌ لحوادثَ تاريخية، رغم كونها ردّاتِ فعل خجولةً تبتعد عن الاجتثاث الرسمي الذي كان متبعاً في العصور الوسطى.
فحين رسم عرّاب الرسوم الكاريكاتورية التجديفية (جورج غروس (2)-George Grosz) عام 1928 (أي عقب الحرب العالمية الأولى) السيد المسيح محتذياً بسطاراً عسكرياً وواضعاً كمامة غاز، ألزمته المحاكم الألمانية آنذاك غرامة مالية واضُطرّ للهجرة إلى أمريكا. كذلك قضت المحكمة الاسكتلندية عام 1979 بمنع فلم (حياة براين- Life of Brian) من إخراج (تيري جونز(3)-Terry Jones) الذي صوّر المسيح مغنياً على الصليب. ولم يسلم المخرج (هربرت أشترنبوش (4)- Herbert Achternbusch) لإقحامه السيد المسيح كنادل في فلم (الشبح-The Phantom) حيث أقيمت دعوى ضده عام 1983. ولما صورت الفنانة الفوتوغرافية السويدية (إليزابيث أولسن (5) – Elizabeth Ohlson) السيد المسيح كمصاب بالإيدز وشاذ جنسياً، عمد المتظاهرون لرشقها بالحجارة حين افتتاح معرضها ( Ecce Homo ). أما الكاتب اليوناني (نيكوس كازنتزاكيس (6)- Nikos Kazantzakis) فقد منعت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كتابه الأكثر جدلاً والذي نشره عام 1951 تحت عنوان (الإغواء الأخير للمسيح-The LastTemptation of Christ)، كما أمر بابا الفاتيكان بوضعه على لائحة الكتب الممنوعة، ذلك أن (كازانتزاكس) نال فيه من أخلاق سيدنا المسيح. ولما قامت (يونيفرسال بيكتشرز- Universal Pictures) بإنتاجه فلماً أخرجه الأمريكي (مارتن سكورسيزي (7)- Martin Scorcese) عام 1988 لاقى رواجاً غير مسبوق، لكن كل صالات السينما التي قامت بعرضه تعرضت لموجات احتجاج من المتظاهرين، وتلقى بعضها تهديدات بإلقاء قنابل. وحين ألف الأمريكي(دان براون (8)- Dan Brown) عام 2003 (شفرة دافينشي (9)-DavinchiCode) تصدى الفاتيكان له معتبراً فكرته تجديفاً وطعناً بأسس المسيحية، لكن صرخته تلك لم تكن لتمنع تحويل الرواية إلى فلم أخرجه (رون هاورد – Ron Howard) عام 2006، بطولة (توم هانكس – Tom Hanks)، واكتُفي بمنع الكتاب في بعض الدول الغربية والعربية.
لقد أعجبني مقال الأستاذ محمد المختار الشنقيطي الذي أورده على موقع (الشهاب) وأحسبه يضيء لنا جوانب هامة في البحث الذي نحن بصدده إذ يقول:
" فحريّة الاستهزاء بالديانات (في أوروبا) ليست مصانة. بل توجد قوانين تمنع التشهير العلني بالديانات في العديد من الدول الأوربية، منها النرويج وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا والنمسا وهولندا وغيرها.. وفي الدنمارك نفسها نصّ القانون على التغريم والسجن أربعة أشهر لمن "شتم أو استهزأ علناً بديانة معترف بها في البلاد". ولكن الإسلام غير معترف به في تلك البلاد، وتلك هي الازدواجية الأخلاقية السائدة في تعامل الغربيين مع المسلمين، وهي جذر الشر وموطن الداء".اهـ
إن الفعل وردة الفعل سيستمران لا محالة (أعني هذا الهجوم المتكرر على مقدساتنا، وردة فعل الشارع الإسلامي المختلفة الشدة والقوة)، وهي حلقة من حلقات الصراع الذي لن يتوقف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإزاء هذه الحملات المتتابعة للنيل من الإسلام نجد أنفسنا أمام إشكالية جدوى متابعة ما يسمى بالحوار الإسلامي – المسيحي الغربي في ظل مواقفَ لا تعكس حتى الآن سوى أعراضٍ واضحةٍ لنظرةٍ غير متسامحة مع الإسلام والمسلمين. ويكاد مشجب 11 سبتمبر الذي يعلّق الغرب عليه كل آلامه ومخاوفه ومصيدة مكائده قد أصبح - من حيث يدري أو لا يدري- قميص عثمان بامتياز.
إنني لست ضد استمرار الحوار الإسلامي- المسيحي شريطة إزالة اللبس العالق بهذا المصطلح، ويخطئ النجعة من يعتبر أن غاية هذا الحوار محاولة الطرفين جَسْرِ الهوّة العقدية بينهما، إذ كيف الوصول إلى ردم الهوة وما زال أحد طرفي الحوار لا يعترف بدين الآخر عقيدة سماوية منزلة على نبي مرسل؟
لقد (قطعت جهيزة قول كل خطيب)، فالنص القرآني قد حسم - وفق تقرير قطعي الدلالة- الأمر بكل واقعيّة: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُوَلاَالنَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ .. }; [البقرة آية: (120)]، ولا مِراء أنه من باب المماحكة العقلية الخوض في مسألة استعصت على عقول جهابذة العلماء من الطرفين لأكثر من 1400 سنة خَلَت، ومن المسلّم به أن (خلطة توفيقية) من العقائد الثلاث فيما يسمى (وحدة الأديان) هي قمة الزيف والدجل والمداهنة.
وقد آلمتني بحق قناعة ساذجة تستحوذ على أذهان البعض ممن يقومون باستقبال بعض المحاضرين والأساتذة الأكاديميين المتخصصين بالدراسات الإسلامية، ذلك أن ضيق أفقهم وعدم فهمهم لطبيعة مناهج التفكير الغربية، تدعوهم للاعتقاد أن هؤلاء القوم قد غدوا قاب قوسين أو أدنى من عتبة الإسلام، وتمضي الأيام وهؤلاء البسطاء يترقبون الفوز بحُمُر النَعم. ولا أريد أن أتألى على الله في القطع بعدم إمكان هدايتهم لكنني أرى أن لا أكون خِباً شريطة أن لا أدع الخِبّ يخدعني.
ووفقاً لذلك فإن الحوار الإسلامي – المسيحي المطلوب والذي ندعو إليه هو حوار (سياسي) بامتياز، الغاية منه التفاهم المتبادل حول قضية (العيش المشترك) وفق مبادئ وأسس تراعي حقوق المواطنة ولا تلغي (الآخر)، ولخلق مناخ مؤيد لقضايانا العادلة في الشارع الأوروبي، ولاستحداث لوبي ضاغط في مراكز صنع القرار في المؤسسات السياسية الغربية. إن ممارسة هذا الدور السياسي ليست مجافيةً للسياسة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب، بدءاً بعهده المكتوب مع يهود المدينة ومروراً بأسلوب الاستقبال الدبلوماسي المتميز والحكيم لوفد نصارى نجران، وصولاً إلى مضمون العهدة العمرية بين نصارى بيت المقدس وسيدنا عمر الفاروق، وانتهاء بالمعاهدات التي حررها مختلف الخلفاء الأمويين والعباسيين ومن تلاهم مع أهل البلاد المفتوحة.
إن المرشحين لقيادة هكذا تفاوض وحوار إذن لا بد لهم من أن يتحلوا بكثير من الثقافة السياسية إلى جانب تمكنهم من الفهم العميق للثوابت التي لا تقبل المهادنة والمداهنة بذريعة طمأنة الجانب الآخر على حسن النوايا وسلامة الطويّة، فقد يتحول الأمر برمته إلى استخزاء وضعف غير مبرر يُفقد المفاوض قوته ويوحي بهشاشة موقفه ويؤدي إلى زعزعة ثقة الشارع به فيفقده مصداقيته ويسحب الاعتراف به كممثل شرعي له. وهذه عين الإشكالية التي تمخّضت عن تصريح سماحة المفتي العام للجمهورية العربية السورية الدكتور أحمد بدر الدين حسّون أمام وفد أمريكي من جامعة جورج ميسن (George Mason University) يرأسه الحاخام مارك غوبن( Marc Gopin) رئيس المركز العالمي للأديان والدبلوماسية وفض النزاعات بواشنطن حين قال: " لو أن محمدا صلى الله عليه وسلم طلب مني أن أكفر بالمسيحية واليهودية لكفرت به"، فرغم أن قواعد العربية تؤكّد أن (لو) حرف امتناع لامتناع، إلا أنّ هفوة سماحة المفتي من الناحية السياسية وعبارته المفرطة في إظهار الود والتسامح عرضته لحملة من الانتقاد في الشارع الإسلامي والعربي والسوري ، فنالت منه الأقلام والمنابر على حد سواء.
وأخيراً أود التأكيد على أن هدفي لم يكن دفاعاً عن شخوص بعينهم، ولم أرجُ تناول آخرين بالقدح والذم بقصد التشفي، فموضوعي لا علاقة له بعالم الأشخاص – رغم وجودهم الفاعل والمحرك لأي حراك ثقافي أو سياسي - بمقدار ما هو تناول لعالم الأفكار بحثاً ودراسة موضوعية، فالأشخاص يمضون، ويبقى البقاء للأصلح من الأفكار. وهذا مصداق قول الإمام علي رضي الله عنه:" ويلك لا تعرف الحق، اعرف الحق تعرف رجاله". إنها كلمةُ حق أضاء جوانبَها بعد مائة سنة ونيف الإمام مالك بن أنس (93هـ/715م-179هـ/796م) بالقاعدة الأصولية التي وضعها :"كل يؤخذ من كلامه ويُردّ إلا صاحب هذا القبر(أي الرسول عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم).
الباحث : عدنان أبوشعر - دمشق
الهوامش:
2- جورج غروس (1893-1959): أحد مؤسسي المدرسة الدادائية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الأولى، وهي مدرسة أدبية وفنية فوضوية، بزغت شمسها عام 1917 واندثرت بعد سنوات قليلة. تجنح هذه المدرسة نحو الإغراق في تجاوز المألوف ومعاداة التقاليد والأديان والإرث الفني والأدبي والموسيقي.
3- تيرينس غراهام جونز باري: ولد عام 1942 في خليج بيتون الواقع في ويلز. ممثل الكوميديا الويلزية، كاتب سيناريو، ممثل ومخرج، كاتب أطفال، معلق سياسي وعضو في فريق الكوميديا في مونتي بيتون.
4- هربرت أشترنبوش: كاتب ورسام ومخرج أفلام ألماني، ولد في ميونخ عام 1938، أفلامه السريالية الثورية لا يعرفها الجمهور الألماني رغم أن أحد أعماله (الشبح- Das Gespenst) عام 1983 قد أحدث فضيحة بسبب ما نسب إليه من التجديف.
5- اليزابيت أولسن: مصورة وفنانة سويدية، ولدت عام 1961، صورها الفوتوغرافية غالباً ما تتناول الشاذين جنسياً، وهي مثلية.ركّبت صورة للسيد المسيح بعد إصابة صديقتها بالإيدز في بداية عام 1990 انتقاماً من المحافل الدينية التي ذكرت أن ذلك عقوبة لها على شذوذها الجنسي، والصورة تظهر السيد المسيح راكباً دراجة ضمن استعراض لمجموعة من الشواذ والمتحولين جنسياً؛ مقلدة دخوله للمدينة المذكور في الإنجيل وهو يركب حماراً. وقد أقامت أحد معارضها في كاتدرائية أبسالا (Uppsala Cathedral) بإشراف رئيس الأساقفة هامر ( K.G. Hammer) ؟؟؟
6- نيكوس كازانتزاكس (1883-1957): ولد في كريت، حصل على دكتوراه في الحقوق عام 1906، ودرس الفلسفة في فرنسا وتأثر بنيتشه فتمرد على معتقداته القديمة وانتقد الأديان، وتأثر بأفكار بوذا وعده معلماً ومرشداً، وسافر حول العالم وزار القدس وسيناء، وعين وزيرا عام 1945 ثم مديراً لليونسكو عام 1946. له مؤلفات عديدة منها الأوديسة التكملة الحديثة في 33،333 بيتاً من الشعر. رفضت الكنيسة الأرثوذكسية تشييع جنازته في أثينا فنقل إلى كريت ودفن فيها.
7- " مارتن سكورسيزي: ولد عام 1942 في نيويورك. مخرج سينمائي أمريكي من أصل إيطالي وهو من أشهر المخرجين في هوليود، حاصل على جائزة أفضل مخرج في مهرجان الأوسكار عن فيلم (المغادرون), . وفاز بجائزة السعفة الذهبية عن فيلم عام 1976 (سائق التاكسي = Taxi Driver )، قام بإخراج فيلم (الإغراء الأخير للسيد المسيح) في عام 1988 الذي واجه الرفض والانتقاد الحاد من الفاتيكان وصل إلى المطالبة بطرد الفيلم من مهرجان (كان) 1988 , وحصل فيلمه (المغادرون) على جائزة الأوسكار لأفضل مخرج سينمائي. عام 2006 " اهـ. نقلاً عن ويكيبيديا بتصرف.
8- دان براون: "ولد عام 1964 في ايكسيتير، نيوهامشير، الولايات المتحدة الأمريكية. مؤلف أمريكي لقصص الخيال والإثارة الممزوجة بطابع علمي وفلسفي حديث بأسلوب مشوق مكنه من تحقيق أفضل مبيعات، رواياته حققت رواجا كبيرا بين الأجيال الشابة في أمريكا وأوروبا خاصة روايته الأخيرة شفرة دافينشي (The Da Vinci Code) التي نشرت عام 2003، وتم تصويرها كفيلم سينمائي. ألف دان براون العديد من القصص والروايات : الحصن الرقمي، حقيقة الخديعة، ملائكة وشياطين، وأخيراً رواية شفرة دافينشي التي اعتلت قائمة نيويورك تايمز كأفضل الكتب بيعاً على الإطلاق. حيث تركزت الأضواء في بداية عام 2004 على روايات دان براون الأربع في صحيفة نيويورك تايمز وصارت من أكثر الكتب بيعاً خلال نفس الأسبوع، وأطلقت عليه بعد إصدار روايته الأخيرة شفرة دا فينشي مجلة التايم أنه واحداً من أكثر مائة شخص أثروا في العالم. ظهر دان براون على قناة (سي إن إن) وبرنامج (توداي شو) وراديو (ناشونال) وصوت أمريكا وتصدرت صوره صفحات الجرائد والمجلات. تم ترجمة رواياته ونشرها في أكثر من 40 لغة حول العالم. صدرت له بحلول 15 سبتمبر 2009 روايته الرمز المفقود.". نقلاً عن ويكيبيديا.
9- شفرة دافينشي: رواية بوليسية تحوي التشويق والغموض كتبها (دان براون). حققت الرواية مبيعات كبيرة تصل إلى 60.5 مليون نسخة (حتى آذار/مارس 2006) وصنفت على رأس قائمة الروايات الأكثر مبيعاً في قائمة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. تم ترجمة الرواية إلى 44 لغة حتى اﻵن.تعتمد الرواية على نظرية المؤامرة بأن الكنيسة الكاثوليكية تخفي القصة الحقيقية للمسيح وأن الفاتيكان يغطي على تلك الحقائق من أجل ضمان بقائه في السلطة.تدور أحداثها في حوالي 600 صفحة في كل من فرنسا وبريطانيا. تبدأ بالتحديد من متحف اللوفر الشهير عندما يستدعي عالم أمريكي يدعى الدكتور (روبرت لانغدون) أستاذ علم الرموز الدينية في جامعة (هارفارد) على أثر جريمة قتل في متحف اللوفر لأحد القيمين على المتحف وسط ظروف غامضة، ذلك أثناء تواجده في باريس لإلقاء محاضرة ضمن مجاله العلمي. يكتشف (لانغدون) ألغازاً تدل على وجود منظمة سرية مقدسة امتد عمرها إلى مئات السنين وكان من أحد أعضائها البارزين العالم مكتشف الجاذبية (اسحاق نيوتن) والعالم الرسام (ليوناردو دافينشي). تدور أغلب أحداث الرواية حول اختراعات وأعمال (دافينشي) الفنية. اكتشف (لانغدون) والفرنسية الحسناء (صوفي نوفو) خبيرة فك الشفرات -والتي يتضح لاحقا أن لها دوراً كبيراً في الرواية- سلسلة من الألغاز الشيقة والمثيرة والتي تستدعى مراجعة التاريخ لفك ألغازه وسط مطارده شرسة من أعضاء منظمة كاثوليكية تسعى للحصول على السر.